بين حياتين.. رواية الحرب والحب في سوريا... بقلم الروائي والناقد اليمني الغربي عمران
توطئة
عبير خالد يحيى طبيبة تعشق الأدب.. كتبت القصة.. ثم مؤخرًا صدرت لها رواية
بعنوان "بين حياتين".
لم تقف عبير
بعشقها على حدود السرد.. بل سبق أن شاركت في دراسة بحثية.. ليصدر لها وأستاذها المنظر العراقي الغالبي كتاب من ثلاثة أجزاء حول النقد الذرائعي.. الذي يعد مرجعًا مهما لمتعاطي الأدب.
للتعاطى بعد ذلك النقد الأدبي بتناولها لأعمالٍ نثرية وشعرية.. لفتت تلك الدراسات
انتباه المتابعين.
ما يقودنا ذلك إلى نعرج في جمل قليلة حول الناقد الروائي
أو الناقد المبدع.. إذا اعتبرنا أن النقد الأكاديمي علم.. والإبداع موهبة. هنا
يمكننا أن نصنف من يحملون درجات علمية في النقد الأدبي إلى ثلاث فئات: الأولى الأكاديمي
النشط بتناولاته النقدية ودراسات المتوالية..
ثم الفئة
الثانية الأكاديمي المتأرجح بين تعاطي النقد.. وكتابة النص الإبداعي شعرًا أو نثرًا..
الثالثة الأكاديمي
المصاب بالعجز.. من لا يكتب في شيء.. مكتفيًا بشهادته الكرتونية.. وما يردّده في
قاعات الدرس.. أو بين الأصدقاء من كلام مكرور حول ما يحفظه وكأن الزمن توقّف عند
نقطة محدّدة لديه.
هنا نوجه العتب للكثيرين ممن فضلوا أن يتخفّوا حول
جلابيب "د".. ليسمحوا لنا أن نتساءل حول استحقاقهم لتلك الشهادات.. الشهادة
الكرتونية التي عادة ما يعلقونها على
جدران منازلهم.. فالكثرة منهم يبدون في عجز
تام حتى عن صياغة أبسط مقاربة في مجالهم.. لتمرّ السنوات وتنقضي الأعمار ولا
يضيفوا حتى سطرًا واحدًا.. فلا دراسات أو أبحاث نقدية تذكّرنا بهم. مفاخرين بحرف
"د" سابقًا لأسمائهم.
قد أبدو في موقف
المتحامل.. لكني على يقين بأنّهم مصابون بشلل ذهني "كساح" . ولذلك لا
يغامرون بالكتابة والنشر.. حتى لا يُفضَحوا. ولذلك يقبعون في صمت حتى يطويهم الموت.
ما يدفعني للكتابة حول تلك الفئات- ومنها الصامتون من
الأكاديميين- وأضع تحت مفردة أكاديميين عدّة خطوط, هو ندرة مَن يتعاطون النقد.. رغم
كثرتهم في جامعاتنا العربية, مقابل كثرة
الإصدارات سنة بعد أخرى, شعرًا وسردًا...
قد يتقوّل بعض العجزة..
من أنهم لا يجدون أي عمل يستحق التناول!. فكيف نتقبّل مثل تلك المبررات الواهية...؟! متسائلين: أيعقل أن كل ما يصدر محض هراء...؟!
ثم نسأل من
يطرحون تلك المبررات عن نتاجهم الفكري والبحثي منذ ترسيمهم فقهاء في الأدب, ولا نجد
لهم حتى مقالة قصيرة منشورة, بينما سعى بعضهم لنشر أطروحته ككتاب دون أن إشارة إلى
أنها أطروحة ماجستير أو دكتوراه.. ليفاخر بذلك الإصدار موحيًا بأنه نتاج بحثي جديد. وتلك الأولى.
الفئة الثانية من دارسي الأدب, من يحاولون تحقيق ذاتهم بتحوّلهم
من كتابة النقد إلى كتابة النصوص الإبداعية, شعر أو قصة أو رواية أو جميعها.. وعند
قراءتنا لبعضها نجدها بركاكة لافتة, قد لا يملك بعضهم المَلكة, وهم لا يفرّقون بين
موهبة تدفع بالكائن إلى الإبداع, وبين نقد أكاديمي يعتمد على الدرس لاكتساب مناهج
بحثية, ولذلك نجد بعضهم يفشل لعدم امتلاكه الموهبة, ليفشل فلا هو بالناقد النشط
المميز بدراساته.. ولا هو بالمبدع الموهوب...
ما أردت قوله لماذا لا يخلص المرء لقدرة يمتلكها, ويركز
في جنس أدبي بعينه...؟! جنس يجد نفسه قادرًا
على تقديم المختلف, بديلًا عن التشتّت...؟! أنا لا أُخطِّئ أحدا.. فقط أورد ذلك من واقع تجربتي التي مررت
بها.. بداية بالرسم الذي لم أجد نفسي فيه, لأتركه لأصحاب المواهب, ثم القصة
القصيرة التي أصدرت فيها خمس مجاميع ولم أجد أنني قدّمت ما يميّزني, هي الأخرى
تركتها دون أسف, لأنتقل للرواية.. عسى أن أجد فيما أكتب بغيتي, وإن لم سأتركها.
وما أكتبه من
قراءات حول بعض النصوص القصصية والروائية, ما هي إلا مناوشات بريئة وتحايا لأعمال بعض
الأصدقاء, ممن أعجبتني نصوصهم, وإن اعترضت على مقولة بعض الأكاديميين, ممن لا يعدّون
النقد نقدًا إلّا إذا جاء من أكاديميين.. وعجبي.. أن ينكروا على شاعر الحديث حول
قصيدة.. أو قاص حول قصة... الخ...! وهنا أذكر الأديب محمد عطية محمود القائل:
"أن الروائي المتمكّن أكثر قدرة على الحديث حول رواية ما". فمن يتابع
طرح كتّاب يبدعون شعرًا وسردًا, وهم يتحدّثون حول نصوص في مجالهم يدهش.. وتذكر
الأديبة عبير العطار وطرحها المدهش في تحليل بعض النصوص..
هي التحية لقلّة من الأسماء الكبيرة.. من يواصلون
عطاءاتهم النقدية.. في المغرب.. ومصر.. والعراق.. وقلة قليلة في لبنان وسوريا
والأردن.. أمّا في السعودية والكويت والبحرين فندرة أن تجد ناشطين نقديًّا رغم سيل
الإصدارات, وبقية الأقطار أرض قاحلة, في
سبات عقيم رغم وجود الجامعات وكليتها المتخصّصة لدراسة الأدب وعشرات عشرات ال
"د".
بين حياتين الرواية الأولى لأديبة ذات نشاط نقدي لافت.. يعرفها الوسط الأدبي الإسكندراني.. لمشاركاتها
الدائمة في أنشطة منتديات المدينة المتنوعة. بل وناشطة ثقافية لها صلات وثيقة بأدباء في
أقطار شتى.. تكتب القصة بموهبة لافتة.. غادرت سوريا نظرًا لسوء الأوضاع إلى وطنها
مصر.
بين ذاكرتين.. تنطلق كاتبتنا بأحداثها من بكارة الطفولة والصبا.. لتعود
بسردها المشوق إلى سنوات الجيل السابق.. ترصد
جيل الآباء.. ثم الأبناء.. غالية ..عامر.. سما.. مصطفى... ثم جيل الأحفاد..
نور.. سامي.. سليم...
تجييل يذكرنا برواية "أسامينا" للعمانية هدى
حمد.. التي رصدت تحول مجتمع ريفي إلى مدني أبان ثورة الحداثة التي انتهجها الراحل
قابوس.. ليرقى بالمجتمع العماني من الحضيض. رواية عبير.. ومن خلال شخصياتها ترصد
أيضًا تحوّل حياة المجتمع السوري إبان توالي حروب طاحنة.. ومعاناة ثلاثة أجيال,
شارك أفرادها بصورة مباشرة وغير مباشرة في تحوّل سلبي.. بداية بحرب الاستنزاف 67.. حرب 73. التي استطاعت
مصر استراد سيناء.. وظلت الجولان إلى
يومنا محتلة. نهاية بثورات الربيع عام
2011.. التي اشتعل غضب الجماهير.. بداية بتونس.. ثم مصر واليمن وليبيا وسوريا...
مقدمة الرواية
تمنيت لو أن الكاتبة نشرت بين حياتين دون مقدمة.. كون العمل من يقدم نفسه للقارئ. ثم
أن الكاتب المغمور من يبحث عمن يعرّف به وبأعماله من الكتّاب المعروفين, كتصديق
على جودة العمل. لقد عفى الزمن على نمط التقديم, وأضحت الأغلفة تحمل عبارات مشوقة
لقارئ محتمل.
الرواية تصنف بالرواية السيرية, فغالية وهي الشخصية
الرئيسة.. تحكي تارة وأخرى يحكي العليم ما عاشته.. كما تتغير أصوات الرواة من المذكّرات
إلى أصوات أخرى كنور وسامي ... ما جعل السرد شيّق ومتنوّع.. ليبحر المتلقي بمرونة برفقة شخصية غالية المركبة.. غالية عبير.. رغم عدم معرفتي بتفاصيل حياتها, إلّا أن
المؤشرات الواقعية تدلّ على ذلك.. إضافة إلى دلالة العنوان, وتلك المقدمة
التقليدية بعنوانها المؤكدة على أن الكاتبة قد نهلت من ذكريات طفولتها وصباها,
متكئة على واقع محلّقة في سموات التخييل, لتقدّم سيرة ممزوجة بخيال شفيف.. فوق ذلك
كانت واقعية في كثير من الأحداث.. ودقّة وصف الشخصيات وبالذات غالية.. إضافة إلى وصف
الأمكنة.. ومنها مدينة طرطوس تغمرنا بواقع ساحر.
ظهرت التقريرية.. والشروحات في بعض صفحات الرواية.. مثلًا
حول حرب 67 ص46 .. وفي ص 138 حول فوضى
بداية الحرب الدائرة "الحرب
بالوكالة". وص 176 شرح مسائل
طبية .. وحول الصديق الوهمي ص20 من
الناحية العلمية.. قد يندرج ذلك ضمن تقنية ما يمكن أن نسميها تصنيفًا بالرواية
العلمية.. كما درج بعض الكتاب التركيز على ما يضيف إلى ثقافة المتلقي.. وتقنية
"بين حياتين" تذكرنا بتقنية رواية "بريد الليل" لهدى بركات..
وتقنية جزر السرد المتناثرة... أيضّا مع سيد الوكيل في روايته "فوق الحياة
قليلًا".. ومع فتحي
سليمان وروايته "شاي باللبن في الزمالك". ورواية لا تطير الملائكة للروائية فاطمة بن محمود. مع
الاختلاف الطفيف.. فعبير يحيى استخدمت تلك الجزر التقريرية ضمن سياق متصل
بالموضوع.. وليست جزر سردية منفصلة كما هو في بريد الليل أو شاي باللبن في
الزمالك.
بين حياتين أثّثتها الكاتبة بوصف قد يبدو في بعض الفصول
مسهب.. لكنه غير مخل, بل يقرّب المتلقي من شخصيات العمل.. خاصة غالية, إضافة إلى
بقية شخصيات العمل, من رقة وجمال تارة, ومن ذوق وأناقة في الأزياء.. أو ما يعتمل
في أعماق الشخصيات من معاناة وآمال, بمزيد من التشويق والإدهاش .. مؤكدة مقولة أن
الفن لا يبرزه الكاتب بوصف العموميات, بل في التفاصيل وظفرها بفنية تثير الإعجاب.
وإذا كان الوصف
قد احتل مساحة واسعة من الرواية, فإن الحوار أخذ مساحة لافتة.. تلك الحوارات غير
تقليدية, فذا كان بعضها ضمن جمل قصيرة.. فإن الكاتبة استخدمت بعضها بشكل واسع حين تجاوزت
الجمل القصيرة إلى الفقرة, وبعضها ضمن
فقرات طويلة وأكثر, ليمثّل صوت سردي مضاف ضمن تعدّد أصوات الرواية.
الكاتبة أبدعت بالإتيان بشخصيتي القرين.. سوسو لنور..
وعصام قرين غالية.. أو ما وصفته بالصديق الخفي.. حتى أنها فردت الثلث الأول من الرواية
كمساحة لعوالم تلك الشخصيات وعلاقتها
الغريبة والمؤثرة على نور وأمها غالية.. ليتشابه زمنَي الأم وابنتها في طفولة تكاد
تتماهى ببعضها.. وذلك التداخل الشفيف بينهما وبين قرينيهما, إلى حد أن المتلقي
يتمنى استمرار عوالم سوسو وعصام إلى نهاية الرواية.. لما بها من غرائبية وتشويق
جميل.. لكن اختفاء القرين خيب الآمال.. لتذهب بنا الكاتبة بعيدًا.
غالية بدت شخصية قوية في طفولتها.. وأثناء دراستها وحتى
تخرجها والتحاقها كطبيبة بأحد المشافي.. وفجأة ينقلب حالها وكأنّها ليست غالية
التي عرفناها.. ما أن تتزوج بمصطفى.. حتى تظهر كشخصية ضعيفة.. بل وبضعف غير مبرر..
وهي الطبيبة.. تساندها أسرتها من أم وأب وأشقاء. إضافة إلى واقع مجتمع حي بقيم
التكاتف.. وفوق ذلك غيّب دور الجانب الأمني..
فهي فجأة تتعرض للحجز وفي زريبة إلى جوار امرأة أخرى مضى عليها في تلك
الحالة أكثر من عشرين سنة. وبعد حملها
يستمرئ مصطفى ضربها وإهانتها.. وكأنها كائن مستلب.. حتى بعد أن عادت من الريف
للسكن في طرطوس. ولم يكتفي الزوج
بامتهانها بل والتحايل على ما تمتلكه.. ثم الزواج من ثانية.. وكأنها فتاة ريفية مسلوبة الإرادة.. ذلك التحوّل الذي ينسينا أن
تكون خريجة جامعة وتعمل في مؤسسة حكومية.. وفي بيئة صحية عالية المفهومية.. تفقد إرادتها
وتستمرئ كل ذلك الظلم على نفسها.. ما جعل استسلامها غير مبرّر.. وإن جاءت النهاية
مدهشة بحق.. لحظة رفعت كفّها في وجه زوجها.. ليختفي بعدها وإلى نهاية العمل.
أمام تلك الأحداث يتساءل القارئ.. رواية من "بين
حياتين". هل هي رواية غالية.. أم
رواية وطن.. ؟! وقد رصدت الكاتبة أحداث ما يقارب النصف قرن تعرفنا خلالها حيوات
ثلاثة أجيال .. لأحداث مؤثرة على سورية والوطن العربي. وكونها رواية سيرية.. فهي
رواية الإنسان والوطن السوري...
أجيال شكّلت الكاتبة حيواتها بفنية وإدهاش.. ولم تسرد
تلك الأحداث وفق مسار تصاعدي.. بل استخدمت تقنية الذهاب من الحاضر إلى الماضي, ثم العودة
لتسير بالمتلقي قدمًا من الحاضر إلى المستقبل.. وكأنّها ترسم على صفحة ماء صافي
توازي حيوات عدّة شخصيات.
رسمت الكاتبة شخصية مصطفى بذلك الصلف والقسوة, كما أشارت إلى
شخصية ثانية والد سامي "الطبيب المشهور" وكأنّه صورة أخرى للشيطان بتعامله
وأسرته مع زوجته السابقة التي شُوّهت.. ثم استمرار تعامله لابنه منها بنفس العتو
والفظاظة... الكاتبة لا ترى في الرجل جلاد والمرأة ضحية, كما درجت بعض الكاتبات في أعمالهن تصوير ذلك, إذ
تأتي بشخصية ثالثة هي والدة مصطفى.. تلك الأنثى المتسلطة.. التي تقسو على أنثى
مثلها.. ساجنة أخت زوجها في زريبة البهائم لأكثر من عشرين سنة لا ترى النور.. بل
وأرادت لغالية نفس المصير.. ليس لشيء إلّا أنها اعترضت على استمرار سجن تلك المرأة
...
استخدمت الكاتبة في مطلع بعض فصول روايتها مقاطع مميزة
ببنط أكبر من بنط حروف الرواية, ولم تكن متصلة لما سبقها, أو تمهيدًا لما هو
لاحق.. لكنّها مثّلت فضاءًا شعريًّا جميلًا.. مجموعة من النصوص الوجدانية تجاوزت
الستة نصوص تحمل دلالات عميقة.. لا يميّزها صوت.. إلّا أنّها صوت منفرد.. قد تكون
للقرين.. كونها جاءت بلغة مختلفة.. وبأحمال من المعاني والإيحاءات ما يضيف الكثير.
أو أنها صوت الكاتبة...
إيقاع السرد لم يكن واحد.. فقد تعمّدت الكاتبة الانتقال
من الإيقاع البطيء للأحداث.. إلى السريع..
مثلما جاء في الفصول سبع إلى تسعة.. حين تتعرف غالية في المشفى على شاب
مصطفى الذي عرفته قبل سنوات أثناء انتقال أسرتها بسبب الحرب من طرطوس إلى إحدى
القرى.
وفي فقرات متتالية, ترصد الكاتبة التعارف بينهما.. ثم
خطوبتهما.. زواجهما.. ثم تنتقل غالية للعيش في قرية زوجها!. وسريعًا ما تحبل ليعود بها للسكن في طرطوس.. لتلد بنور.. تتسارع الأحداث برحيل والدة غالية بعد اصابتها
بالسرطان .. في عدة صفحات اختزلت الكاتبة سنوات كثيرة.. بينما اتبعت الإيقاع
البطيء للأحداث في الفصول الأولى.. إذ تصف الكاتبة أيام وشهور قصيرة وما تعيشه
الطفلة غالية وتلك البيئة التي تمثل أجواء حرب 67
.. ثم حرب 73.. في ستة فصول. الخ
الإيقاع المتسارع الذي استخدمته الكاتبة .. يبعث في روح
القارئ القلق حين تعيش غالية وضع مأساوي مع زوجها.. دون مقاومة أو رفض لما يمارسه
عليها.. وكأنه قدر.. مانحة للقارئ حالة من الانسجام بإيقاعها البطيء.. حين يتهادى سردها وكأنه نهر رقراق.
تضمن الفصل الثامن عشر نص قصصي بعنوان على حافة منعطف..
للكاتبة د غالية أحمد.. ويمكن للقارئ أن
يقرأه جزء من سياق النص الروائي, أو منفصلًا على اعتباره أنه للشخصية الرئيسية , حيث
يأتي ضمن تحوّل باعتبار الأدب بديلًا للعقاقير, وخروجًا من حالة نفسية تعيشها
غالية منذ سنوات, إلى فضاء حياة جديدة, وأمل جديد بالانعتاق.
الفصول الأخيرة.. وما صورته الكاتبة إثر مرض الأم
ورحيلها.... سفر نور للدراسة في بيروت..
إلى سفر سما واستقرارها في بيروت.. ثم التحاق
غالية لتعيش جوار ابنتها نور.. كل ذلك فتح أفقًا جديدًا أمام غالية.. ما ساعدها
للخروج من قوقعتها, لتتخلّص من حالة نفسية استمرت منذ زواجها بمصطفى, مبحرة في
فضاء الأدب بفضل صديق, كانت له روح نقيضة لروح زوجها في كل شيء.. صديق أخذ بيدها
إلى حياة على الورق.. حياة ملؤها الإبداع والأمل.
تلك النقلات التي اتسمت بها الرواية, انتهت بنقلة أخيرة,
وهي العودة من بيروت إلى طرطوس, ومحاولة مصطفى الاستمرار بامتهان غالية, في الوقت
الذي كان شغفها بالأدب قد حرّرها ..
لتفاجئه برافضها تناول العقاقير المضادة للاكتئاب .. ووقوفها في وجهه ككائن جديد.
تحرك جناحيها في
محاولة للتحليق.. تصرخ في وجهه ليتداعى
أمام نظراتها. منهارًا وهي تحطم جدرانها, لن تنهار.. بعد ذلك الموقف اختفى وزوجته الثانية, قيل أنه هاجر بعيدًا.. تاركًا لغالية أن تبدأ حياة جديدة بعيدًا عن
تسلطه ورعبه.
تلك النهاية التي كانت مفاجئة ومبهرة فنيًّا وموضوعيًّا
.. تغفر أي هنّة ظهرت هنا أو هناك .. بذلك ترسم الكاتبة بداية ميلاد سوريا جديدة
.. هكذا تتنبأ رواية عبير خالد يحيي لوطن دمّرته الحروب.
وبالعودة إلى بداية الرواية الذي أرختها الكاتبة 1999 . لتذهب
بعدها إلى أحداث عام 1973 ثم تعود إلى عام
2011, وهي سنة انفجار ثورات الربيع العربي ثم عام 2000 تصف لنا حالة أم غالية بعد
وقوعها في شرك السرطان ووفاتها.. إلى ميلاد سليم عام 2008 . نقالت رشيقة وسريعة..
وهكذا من فصل إلى فصل تنتقل بالمتلقي ..واضعة لكل فصل عنوان.. وهي على التوالي: الصديق الخيالي..
رسائل الماضي.. تداعيات الوداع.. خريف ساخن.. الهروب.. أيام عذرية.. القفص
الحديدي.. زينة الحياة.. قصمة الظهر.. سقوط إلى القاع.. على طاولة القمار.. حرب
بالنيابة.. جنتي.. هواجس.. منبوذ.. زوبعة.. المراوغة.. على حافة منعطف.. الرجولة..
بعث جديد.. عودة الصديق الخيالي.. النهاية.
من خلال تلك
العناوين يمكن لنا رصد الحالة العامة لأنساق تصاعد أحداث الرواية. من خلال تلك
العناوين التي تبدو عادية للوهلة الأولى.. لكن المتلقي حين يتعمق في يمّ الرواية
يجد ذلك العمق.. وسطوة المعنى.. ليتضح الميل لدى الكاتبة للسرد الوجداني .. ذلك
السرد الآسر الذي يستميل عاطفة القارئ, المطرّز بوصف وثير, ليمتاز بصدق فنّي يقرّب
المتلقي من شخصياتها.. ليتجلى هدف الكاتبة التي غمرت المتلقي ببيئة سورية تعيش
ويلات الحروب المتكررة.. معبرة من خلال شخصياتها ما يحاك ضد سوريا وشعبها من
مؤامرات وحروب بشعة.. يتابعه العالم في صمت مريب.. وقد شرد الملايين بعد أن دُمّرت
مدنهم.. ليتوهوا في المنافي تبتلع البحار منهم الكثير.. وتلتهم الغابات من يتوهون..
وتنهش أجسادهم أسلاك شائكة الحدود.
نخلص إلى أن الكاتبة قد نجحت في رسم روح سوريا..
وتقديمها لنا كقلب نابض يتوق للسلام والأمن والحرية, من خلال تلك الشخصيات ومعاناتها
التي تهنأ بطفولتها وشبابها, لتعيش دورات الحروب الدموية, وشتات بعد آخر.. يشارك
سلاح العالم وأمواله في تدميرها وتهجير سكانها.. كما تغذي الأفكار المتطرفة
والتكفيرية...
.........
بين حياتين".. رواية الحرب والحب في سوريا
تعليقات
إرسال تعليق