الوجع الإنساني في نصوص الكاتبة السورية الدكتورة عبير خالد يحيي في المجموعة القصصية ( رسائل من ماضٍ مهجور) بقلم الناقد والأديب المصري محمد البنّا

 


 


عوالم ثلاثة أو ثلاثة محاور أفقية، تتحرك فيها كاتبتنا الرائعة بمهارة وتقنية عالية، تملّكت أدواتها في فترةٍ وجيزة، مكّنتها من الخوض في بحار القلم كسباحةٍ ماهرة، تتقن السباحة ولا تهاب البحر، تدرك بحاسّتها السادسة متى تهدأ ومتى تبادر بركوب أمواجه كمتزلجٍ ماكر، يراود الموجة فيركب سطحها الهادر، ويتركها لحظة أن تتهاوى فلا يتهاوى معها، تلك كاتبتنا ...صورة حية تنشئ قصًّا، ويأخذ منها دفء أنفاسها، وسخونة دموعها، ونظرتها المتأمّلة لغدٍ لا تعلم عنه شيئًا .

مجموعة قصصية شيقة، لا يبذل القارئ جهدًا ليتلمس بسهولةٍ ويسر خطواتها، فيتبعها بتشوق وسلاسة، مُرتحلًا بخفةٍ ورشاقة بين عوالمها الثلاث، من عالم البحر إلى عالم الشمس، ثم يعود وقد انتشت كل جوارحه إلى عالمها الطفولي، ذلك العالم البرئ الجميل، برئٌ في عفويّته، وجميلٌ في فطرته السليمة النقية  فلا يكاد نصٌ يخلو من تلك اللمحات الطفولية، إن لم يكن تصريحًا كما في نص [أمي أخبرتني أن الشمس تحبني]، ستجده تلميحًا في نص [الحبيب الأول]، وستلمحه تأويلًا وإسقاطًّا في نص [العيش في قبر] و نصوص أخرى كثيرة .

عجوزٌ مسنة تطالع انعكاسها في المرآة، فترى الواقع بكل ترهلاته الجسدية، وتجاعيده الزمكانية وقد حفرت آبارًا في وجنتيها ، فتستدعي العجوز أيامًا خلت، طفولتها، صباها، شبابها، تستدعي ماضٍ وعى يومًا بين ضفتيه جسدًا غضًّا، وجيدًا مرمريًا، ووجنتين متوردتين، وجدائل تنساب في نعومةٍ ودلال شلالات من ليلٍ بهيم، وقد أرخى سدوله على كتفيها، و تنحو بنا الكاتبة منحًى آخر في نصٍ آخر [أيام عذرية.......] فتجمع ببراعة بين الطفلة وجدّتها، طفلةٌ مرحة تلهو وتُشاكس ، وجدةٌ تُتابع عن كثب، فتوجّه و تنصح حينًا، و تلوم و تُؤنب حينًا آخر، إلى أن يطالعنا مشهد الخاتمة لترسم الكاتبة لنا لوحة إنسانية مكتملة حملت بين سطورها وألوانها الكثير الكثير، تلتقي الطفلة بالجدة بعد طول غياب، يتلازمان ، يسيران متشابكي الأيدي، لا ندري أيٍ منهما يتكئ على الآخر، حب الطفلة الشغوفة بجدتها ، أم حنين الجدّة إلى ما سلف وانقضى من أيام طفولتها وصباها .

عالم البحر ...عالمها الثاني مفرطٌ في قوّته، موغلٌ في غموضه، ممتدٌ إلى ما لانهاية، وها هنا يلمح القارئ ذكاء الكاتبة، فلا تدع للبحر أن يذهب بذهن القارئ ومخيلته إلى أحلامه الذاتية، فتمزج ببراعة بين عالمها الثاني وعالمها الثالث ...الشمس، النهار والليل، النوم واليقظة، مزيجًا رائعًا يحجب المتلقي عن أي عالم إلّا عالمها هي، يتحرّك مع خطواتها، يتنفس أنفاسها، يبحر معها، ينتظر الغروب, ويتطلع بلهفةٍ إلى شروقها، واستشراف حدثٍ جديد أو ...حرف جديد يضيف ولا ينتقص .

يتجلّى عالم البحر في قارب موت، يحسبه اليائسون قارب نجاة ...نص [مركب الغرب]، ويتمازج البحر والشمس في توليفةٍ مذهلة في إدهاشها، الأم والطفلة والبحر والشمس، والأم تخبر الطفلة أن الشمس تحبها ، نص "أمي أخبرتني أن الشمس تحبني "، وتنفرد الشمس بالمشهد كاملًا وبجدارة في نص [مصير]، حيث لا أثر للشمس في مفهومها الحسّي للحظة بين أحرف النص، حيث السحب الداكنة تطغى، وسحب اليأس تسيطر وتوغل أسلحتها في نفس البطلة، إلّا أن شاحنةً تعترض الطريق المعتم، فتشرق شمس الخلاص .

عوالم ثلاثة أفقية تمازجت بعفوية مع عوالمها الثلاث الرأسية، ونعني هنا عالم الماضي وعالم الحاضر وعالم المستقبل .

مراحل زمنية، تستدعي فيها ومنها كاتبتنا ماضيها الطفولي، وتستعرض ملامح حاضرها بكل مراراته ومآسيه ورتابته حدّ الملل و التجمّد، وملامح أفراحه على قلّتها، ثم تشرف بوعيها و مخيلتها وحاستها السادسة، على مستقبلٍ تراه رأي العين اللاواعية، ولكنها عينٌ خبيرة تُحسن قراءة توابع الأحداث ونتائجها  ، تذهب حيث يُمسي المرء وحيدًا، وقد انفض الجمع من حوله، كما انفض عنه شبابه و بهاء طلّته .

عالم الماضي لا تتركه إلا لتعود إليه راغبةً أو مضطرة، لنراها طفلةً مرة أخرى في أقصوصتها [الهروب الكبير]، امرأةً في الأربعينات تقف أمام مرآتها، تلمح تجاعيد بدأت تتسلّل بلطفٍ إلى نضارة وجهها، تتجاهلها، تعود إليها، فتهرب منها إلى ملجأها الأثير وعالمها الجميل، ترتع في مرابع طفولتها، تجمع الشمس بين كفّيها، تُركعُ البحر تحت قدميها، وتستسلم لأصوات النوارس البحرية، وزقزقة العصافير، غير آبهةٍ بعصافير جوعٍ تواصل صراخها في أحشائها الصغيرة، لتستغرق حالمةً وأقزامها السبعة تتراقص حولها، ومن ثم تستيقظ، وقد عادت الروح إلى الجسد الظامئ إلى رواء، فكان البحر وكانت الشمس ، تتجاهل المرآة وتواصل رحلة الحياة، و في نص [دانتيللا] نرى تفرّدًا و نصًّا حواريًا تتداخل فيه الأصوات مع أحاديث النفس وهواجسها، نرى أمًّا قد غاب ظهورها في أكثر النصوص إلّا لَمَمًا، تظهر بقوّة لتحتل مساحة النص في شخصيتين متلازمتين متطابقتين  أم وابنتها العروس، من العروس ومن الأم ؟ ، تتبادلان الأدوار بحنكة ومهارة، فلم أر إلّا أمًا تقمصت شخصية ابنتها العروس وارتدت ثوب زفافها، لا لشيء إلا لتجتر ذاكرتها مأساة ً مرّت بها، فآلت إلى ما هى عليه الآن، ثم تعود الكاتبة الماهرة لتكمل عقد لؤلؤاتها، و تغلق الدائرة المفتوحة، غافلةً أو متغافلة عن عمد، إنها ما زالت داخل الدائرة، أو  جالسةً في السيارة الخطأ، في اللحظة الخطأ ، في نص [عفوًا  دكتورة ] .

 

                           الأديب والناقد المصري محمد البنا

 

 

 

 

  

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سرد الاغتراب والبحث عن المعنى قراءة ذرائعية في رواية ( منروفيا ) للكاتب المصري أحمد فريد مرسي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

إشهار كتاب النزعة الصوفية والنزعة التأملية في شعر الأديب السوري منذر يحيى عيسى

أدب الرحلات المعاصرة: سفر في الجغرافيا والذات دراسة ذرائعية مستقطعة على كتاب (نيويورك في عيون زائرة عربية) للكاتبة اللبنانية هناء غمراوي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي