التنقيح لازمة تصيب المبدعين - مجلة ضفة ثالثة

 



إن الطبعات المنقحة  لأعمال منجزة يعيد كتّابها النظر فيها مردّها إلى النضوج الأدبي للكاتب أو الشاعر بتقدّم العمر وتطوّر التجربة الإبداعية لديه, بحيث لا يعود الأديب مقتنعًا بما كتبه سابقًا, ونعزو ذلك إلى استمرارية التأويل الذي ينطوي بداخله الاصرار على تبديل العناصر اللغوية  والتي تنعكس منها العناصر الجمالية بشكل متطوّر يعكس نضج التجربة الأدبية عند الكاتب أو الشاعر. وهي حالة ملاحظة بكثرة, ومصاحبة للأدباء المتمكّنين من كتابة نصوصهم, والمصرّين على أن تكون نصوصهم في أبهى حلّة, ومكتوبة على درجة عالية من الحرفية الأدبية, بمعنى أننا نجدها عند من يمكن أن نطلق عليه لقب ( النصّاص) لتمكّنه من نسج نصوصه بحرفنة كبيرة, فنجدهم لا يقتنعون بما يكتبون بشكل مطلق, وإنما ينظرون دائمًا لنصوصهم بنظرة الريبة وعدم الارتياح, فيصبح لديهم التغيير المستمر لازمة, بهدف تطوير النص نحو الأفضل, فإذا كان النص مطبوعًا, ومع الوقت تتجدّد لدى الكاتب معلومات ومكتسبات في تجربته الإبداعية فتغدو أكثر نضجًا وتبلورًا عما طبعه آنفًا, فنجده يلجأ إلى عملية التنقيح والتنقية ليرضي عملية التجربة والملكة الأدبية التي لا تقف عند حد, لذلك نتمكن من اكتشاف الفوارق الإبداعية بين الأدباء, وهذا هو المؤشر الحقيقي الذي يتقدّم فيه أديب على آخر إبداعيًّا, وهي لازمة ضرورية تؤسس للعبقرية لو انتبه إليها من أُصيب بها, هل هي مرض؟ قد تكون علّة, لكنها علّة معرفية تحتاج دواءً, ودواؤها التجديد المستمر الذي لا يقف عند حد.

طبعًا بالنسبة للدراسات النقدية يجب أن ترتقي بملاحقة التغيرات الحاصلة بشكل عمودي, بمتابعة المتغيرات التي تنتج تطورًا ملحوظًا في معطيات المواد الخاضعة للتحليل, وبذرائع مسنودة إلى علوم تثبت تلك المتغيرات بذلك الاتجاه المعرفي نحو الجديد, ولذلك نرى العديد من النقاد الذين يخصصون الكثير من جهودهم في نقد أعمال أدباء كبار يلاحقون تلك التغييرات أو تلك اللازمة عند أؤلئك الأدباء بشكل دؤوب, واضعين في الاعتبار حصولهم على مكتسبات وآفاق تحليلية نقدية لا تقل عن مكتسبات الأديب الإبداعية نفسه, ولذلك يضطر العديد منهم إلى تحديد تاريخ الطبعة ورقمها التي قدّموا عليها دراستهم, فاتحين المجال لأنفسهم لاستقبال قراءات جديدة ملحقة بدراستهم تقتضيها عملية ( التحكيك) المستمرة من قبل الأديب.

بالنسبة لي تعرّضت لهذه التجربة بالنقد مع أدباء مصابين بتلك اللازمة, وكان حظي أن الأعمال لم تكن مطبوعة ما سهّل علي الأمر, فكنت أتلقى منهم العمل الأدبي مرات عديدة, وفي كل مرة أتسلّم ملفًّا يُطلب مني أن أحذف السابق وأعتمد الحالي, وأكون على يقين من أنني سأحذف الحالي قريبًا, ولم يكن الموقف يستفزني, بل كنت أعتبر نفسي محظوظة لأني سأكون شاهدة على مراحل تشكّل نصّ ناضج فعلًا, ما يتيح لي التوسع العمودي بإضافة مستويات معرفية جديدة أضيفها إلى دراستي القديمة, حتى أن بعض دراساتي تجاوز فيها حقل دراسة التجربة الإبداعية العديد من النطاقات التي تدخل حيّز الابتكار.

أما عن من يكتب ويلقي ما كتب في  أول فرصة في كتاب مطبوع, أو في نشر الكتروني دون أن يجد في نفسه الرغبة في إعادة النظر فيما كتب, ويدّعي أن الإبداع وليد لحظته, دون أن يلقي بالًا إلى حقيقة أن الوليد يحتاج الكثير من الاهتمام بعد ولادته, ولعل التنظيف من الأخطاء هو أوّل هذا الاهتمام, فهو كاتب قصير النفس, غزيرالإنتاج بلا طائل, ولا أعمّم طبعًا, لكن ما أراه من نصوص مطبوعة بأخطاء مروّعة, ودون أدنى اهتمام بمراعاة تقنيات الكتابة الفنية والجمالية, ما يجعل معظم تلك الأعمال ساقطة على الأقل في أحد البنائين إما الفني أو الجمالي أو كليهما معًا.

وبحال من الأحوال لن نجد النص الأول ضعيفًا أبدًا عند هؤلاء المصابين بتلك اللازمة, وإنما هو – وما تلاه-  فقط نص لم يبلغ حدود اقتناعهم, ولم يرضِ توثّبهم إلى فضاءات أدبية رحبة لم يبلغها أحد قبلهم.

#دعبيرخالديحيي

12 يناير 2020

الوصف: C:\Users\Abeer.yehia\Pictures\التنقيح - مجلة ضفة ثالثة.jpg

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سرد الاغتراب والبحث عن المعنى قراءة ذرائعية في رواية ( منروفيا ) للكاتب المصري أحمد فريد مرسي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

إشهار كتاب النزعة الصوفية والنزعة التأملية في شعر الأديب السوري منذر يحيى عيسى

أدب الرحلات المعاصرة: سفر في الجغرافيا والذات دراسة ذرائعية مستقطعة على كتاب (نيويورك في عيون زائرة عربية) للكاتبة اللبنانية هناء غمراوي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي