الحوار الصحفي الباحث والناقد والأديب والمؤرخ فوزي الخطبا في صحيفة الدستور الأردنية مع د. عبير خالد يحيي
·
كيف تجمعين بين الطب والإبداع الأدبي ؟
الطب حصّتي من التحصيل العلمي, ومهنتي
التي أعتاش منها في الحياة, والأدب قسمتي
من عطايا الله لروحي وخيالي, والرزق الأكبر هو المهارة التي أجراها الله في
الأصابع التي تعمل وتكتب, أنا طبيبة أسنان تعالج تسوّس السن وعفن قنواته, تبتر,
تستأصل, تقلع, ترمّم, تحشو,.... تعوّض, بخطّة علاج شاملة ترسم خريطتها بعقلها,
وبذات الأصابع, وبذات المهارة تكتب ما يمليه عليها خيالها بذات الاستراتيجية
والتخطيط, علمت لسنوات عديدة بطب الأسنان, لم يسمح لي الوقت أثناءها إلا بكتابة
القليل من الخواطر والمذكرات التي أضعت أوراقها لكنها لم تغادر ذاكرتي, منذ سنوات
قليلة تركت الطب لأجد نفسي أسبح في بحر من الزمن الذي جاد علي بالكرم لأكتب وأكتب وأكتب.
·
تكتبين في حقول الإبداع, الشعر والقصة
القصيرة والخاطرة والرواية والمقالة والنقد, أين تجدين نفسك في هذه الحقول؟
بالبداية سأفصل بين النقد وبين الأعمال
الإبداعية من شعر وقصّ وخاطرة ورواية ومقالة, فالنقد علم يقوم على العديد من
العلوم مجتمعة, والعلم حقيقة مجمع عليها لا ينبغي أن تحتمل الكذب, والباقي أدب,
ليس حقيقة وإنما انزياح نحو الخيال أو الجمال أو الرمز أو كلهم مجتمعة, والحقيقة
أنا بطبعي أميل إلى العلوم التطبيقية, لذا أجد نفسي في النقد أوّلًا, وفي القصّة
ثانيًا, وفي الشعر حينما تتلبّسني حالاته وانفعالاته, أما الرواية فهي العالم
الكبير الذي بات يأسرني بكل جوارحي رغم أن المكوث فيه قد يستغرق سنوات من العمر ما
كانت متاحة لي قبلًا.
·
روايتك ( بين حياتين) جمعت بين السيرة
الذاتية والسرد الروائي, هل هذا عن قصد ؟
دعونا نتفق على حقيقة, وهي حقيقة أقرّتها
الذرائعية بالاستناد إلى عقلانية تشومسكي, حيث تعتبر الذرائعية أن التناص هو أهم
مدخل إغنائي عند تناول أي عمل أدبي بالتحليل النقدي, يقول المنظر الذرائعي عبد
الرزاق عوده الغالبي :
ثلاثية التناص هي أهم مدخل إغنائي مشترك بين
:
الحياة
الأديب
الآخرين من الأدباء والناس
فأنا
أرى أن كل نصّ كتب من قبل شخص قد اشترك في كتابته الآخرين دون أن يدريكاتبه, لكون الحياة أطول وأوسع من
أحداثها, لذلك تتكرّر الأحداث دومًا لكونها متشابهة ومتناصة مع بعضها بشكل ثلاثي.
وعليه, فإن روايتي شئت أم أبيت, قصدتُ ذلك أم
تركته للصدفة البحتة, سأضع فيه بعضًا من تجربتي الشخصية وأحيطه بالكثير من الخيال,
الذي سيبقى خيالًا شفافًا مهما كانت كثافته يُرى منه الواقع, أنا أجريت تجربة قبل
طبع الرواية, وأرسلتها لبعض من أثق بأمانتهم, طلبت منهم رأيًا انطباعيًّا, تفاجأت
بالردود التي شكلت شبه إجماع أنهم مرّوا بتجارب مشابهة, وبعضهن أخبرنني أنّهن كنّ
(غالية) في كثير من المواقف والمراحل الحياتية, وبعضهم قالوا أنهم قابلوا من يشبه
مصطفى أو أمه ومنهم من قال أنهم عايشوا من يشبه سامي وأبوه أو أمه, ولا يعني كونها
روايتي الأولى أنني لن أكرر هذا الجمع, لأنني محكومة بحتمية التكرار والتناص مع
الأحداث المعدودة في مسرح الحياة الطويلة, كما أني مشدودة إلى وضع عصارة فكري -التي
تشاركت فيها تجربتي وتجارب غيري- في عملي الأدبي الذي يجب أن أنظر إليه على أنه
عملي الخالد الذي يمكن أن يكون آخر ما أكتب. وهذا حال ملموس عند كل الروائيين على
الإطلاق, حيث لا فكاك لهم من ثلاثية التناص.
·
تداخل الفنون الأدبية في روايتك, نجد السرد
القصصي والشعر والخاطرة الشفافة, هل تؤمن بتداخل الفنون ؟
نحن في عصر التجريب, وبعض الشعراء أضافوا إلى
القصيدة لوحة من الفن التشكيلي, فترافق الحرف واللون, وهما جنسان فنّيان مختلفان
بالأداة, فالأحرى أن نقبل التجريب بمزج وتداخل الأجناس الأدبية, مع ملاحظة أن بطلة
روايتي هي أديبة, يعني ما أدخلته من شعر وقصة وخاطرة وذكريات يمكن اعتبارها تقنيات
سردية خاصة, ترفد التقنيات السردية المعروفة مثل الحوار والوصف وتداعي تيار الوعي
والخطف خلفًا و...., استخدمتها لأنني وجدتها تخدم موضوعي وتؤصّله مع الواقع, من
ضمن الآراء الانطباعية التي حصلت عليها دون أن يخطر ببالي هو أن القصيدة النثرية
أو الخاطرة التي وضعتها في بداية بعض الفصول, وميزتها بالخط الغامق,ذهب الكثيرون
إلى أنها من نظم وخاطر الصديق الوهمي, ولاقت استحبابًا, حيث أنها جاءت مخفّفة من
ضغط وثقل السرد في الفصل السابق, وهذا يعني أنها تجربة جيدة إلى أن يقنعني آخرون
بغير ذلك.
·
كناقدة وكاتبة رواية, هل الرواية العربية في
القرن الواحد والعشرين وصلت إلى مصاف الرواية العالمية؟
في القرن الواحد والعشرين شهدنا أكبر انفتاح
للمجتمع العربي على كل المجتمعات والثقافات, بفضل وسائل التواصل الاجتماعي وخدمات
المواقع الالكترونية, وخلال هذا العام بالذات شهدنا انفتاحًا كبيرًا في المجال
الثقافي بالذات, حيث كان للمنصّات الالكترونية واللقاءات العلمية والثقافية التي
أتاحتها أثرًا ضخمًا فاق وسائل الإعلام التقليدية التي حادت عن حياديتها بتسييسها
وهبوط مستواها الثقافي, فكانت لقاءات مباشرة بالإضافة إلى الورشات العملية التي
نشطت في فن الكتابة السردية وخصوصًا فن الرواية, لذلك أرى أن الرواية العربية ستصل
إلى مصاف الرواية العالمية, لأنها توازت مع عصرها, نجد الان الكثير من الرواية
العربية المعاصرة التي خرجت عن كلاسيكية السابقين, فلم نعد نسمع صوت السارد
الواحد فقط, كما تنوّعت التقنيات السردية,
وكثر الحوار الداخلي, وتنوّعت الأساليب السردية ودخلت المدارس الأدبية, منذ فترة
قمت بعمل دراسة مقارنة لعملين للكاتب السوري حنا مينة, الأول رواية كلاسيكية (المصابيح
الزرق) وكانت أول عمل روائي له, والثاني رواية معاصرة وهي آخر رواية له (عاهرة
ونصف مجنون) كان الفرق شاسعًا, ومطمئنًا, حيث كانت الرواية الثانية فعلًا عالمية,
تفوق أعمال صاموئيل بيكيت, ولا أدلّ على ذلك أكثر مما نشهده من نشاط بحركة الترجمة
من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى.
·
ما هي المدرسة النقدية التي تتوسّل بها في
الكتابة النقدية, وما هي سماتها الفنية؟
أطبّق النظرية الذرائعية المستلّة والمسنودة
إلى المنهج الذرائعي , وسأشرح الفرق بين المنهد والنظرية مع تبيان السمات الفنية,
كما ورد في المجلذد الرابع من الموسوعة الذرائعية والمعنون ب (الذرائعية والعقل) لمؤلفها المنظّر العراقي عبد الرزاق عوده الغالبي:
1-الذرائعية pretexual منهج عربي، وهو كيان نقدي
فلسفي يرتكز على العلوم اللّسانيّة، ويضمّ جميع العلوم المحيطة بالأدب, لكونه يختصّ (بدراسة
النّصّ الأدبي العربي بالتّحديد) في السّياق التّواصلي النصّيّ المفهوم باتجاه
مغاير, محكوم بسياقات وبظروف وأوضاع لغويّة ومنافع إيجابيّة أدبيّة, تقرّ ثبات
إنجازيّة التغيّرات والتحوّلات في المعاني السّياقيّة في القنوات التواصليّة،
المسنود بذرائع لكلّ عنصر من عناصر القول فيه سلبًا أو إيجابًا، حتى وإن كان خيالًا أو كذبًا، وتُعنى
الذّرائعيّة بالمعنى الأدبي المنزاح نحو الخيال والرّمز في السّيّاق اللّغوي, وما يسمّى ذرائعيًّا، بالعمق الأدبي.
أمّا الذّرائعيّة كنظريّة: فهي مجموعة مبادئ
مبنيّة على أسس وسياقات ومستويات علميّة وفلسفيّة ولغويّة وجماليّة وأخلاقيّة
ونفسيّة, تهتمّ باستشفاف وفلترة وملاحقة جميع المنافع والقضايا المفيدة والسّاندة
للمجتمع العربي بشكل خاص, ملاحقة نقديّة تحليليّة بمستويات علميّة وذرائع مسنودة
بعلوم في النّصوص المنبثقة من بنية المجتمع الأخلاقيّة من جميع النّواحي, مع
التّركيز على الزوايا الجماليّة والإنسانيّة والأخلاقيّة, وتتمّ هذه الملاحقة
بالتسلّل نحو استراتيجيّات وتقنيّات الكاتب بذرائع نفسيّة تغوص في أعماق النّصّ لتثبّت كينونة هذه
المنافع المخبوءة والظّاهرة, بإطار أخلاقي ينسجم مع المدّ العربي الاجتماعي
المنضوي تحت الخيمة العربيّة, لكون النّصّ العربي نوعًا مستقلًّا ببنيته العربيّة
الأصيلة العاكسة لتأريخ وكيان الأمّة, والذي لا يشبه إلى حدّ كبير الكيانات
الاجتماعيّة الغربيّة.
2- ما يميّز الذّرائعيّة بشكل شامل عن بقيّة
المناهج اللّسانيّة والنّقديّة, أنّها تسبق جميع المناهج في التّحليل النّقدي
العلمي للمعنى الوضعي, وذلك لأنّها تشكّل الجزء الثّاني من المعنى الذي يقسم إلى
قسمين:
-
المعنى السّيمانتيكي الدّلالي، الذي يحوي
المنطق والواقع التّقريري المحاط بالأسس
العلميّة الحقيقيّة الملموسة.
-
المعنى الذّرائعي الوضعي (الذي تسكنه وتكوّن
كيانه), وهو الجزء الثّاني من المعنى الخارج عن المنطق والتّقرير, ويحتضن في جنباته – الرّمز – الخيال – الإيحاء واللّاواقع والكذب والأوضاع اللّغويّة الأخرى
المبرّرة بذريعة الخروج عن الواقع والمنطق...وهذا سرّ تتفوّق فيه الذّرائعيّة
العربيّة على جميع المناهج الأخرى، فهي تعمل بشكل متوازٍ مع المنهج السّيميائي,
فكما يهتمّ المنهج السّيميائي بالإشارة والدّلالة, فإن المنهج الذّرائعي جزء ثابت
من المعنى نفسه، يسبق جميع المناهج التي تحلّل المعنى من خلالها, فهي تُعتَبر
القلب لجميع المناهج التّحليلية, لكون جوهرها يكمن في المعنى المتّصل بالعمق الأدبي، وهي ذرائعيًّا تعتبر اللّغة في العالم
الخارجي إشارات صماء لا قيمة لها ما لم تدخل العالم الدّاخلي (للعقل) لتأخذ معناها
الذي وجدت من أجله تواصليًّا, بمعنى أنّ كل شيء يقال أو يكتب هو دلالة خارجية صماء
لا تكتمل إلّا حين تدخل العقل, ليعطيها المعنى المكافئ لها والمطلوب بالعالم
الخارجي التّواصلي.....
3- تنظر الذّرائعيّة للأدب على أنّه مجموعة
من ذرائع وأسباب تسند كلّ قول أدبي ( أي لا يصدر قول إلّا ويكون مسنودًا بذريعة) وتقع الذّرائعيّة بين الذّريعة ( pretext) العربيّة- التى تسند القول بمنطقيّة وبرهان
علمي منطقي يقرّر ثبات المعنى واقعيًّا ببحتيّة علميّة, وهذا ما يفضي نحو علميّة
النّقد- و بين البراغماتيّة اللّغوية (pragmatics) التي اكتُشفت في الغرب عند بداية الرّبع
الأخير من القرن العشرين بين استهلال السّبعينات والثّمانينات من هذا القرن على يد
الفيلسوف الأمريكي (ريتشارد رورتي) والتي تلاحق المنفعة الإيجابيّة
في اللّغة والمعنى في السّياق ...
4- العلاقة
بين المصطلحَين- الذّريعة العربيّة pretextوالبراغماتيّة اللّغويّة pragmatics- هو التّشابه بالاتّجاه
الفلسفي والنّقدي, وهما يشكّلان اختلافًا مستمرًّا مع تيار البراغماتيّة الفلسفيّة
النّفعيّة المقيتة (pragmatism)
الذي ظهر على يد الفلاسفة ( جون ديوي ووليم جيمس وبيرس ) وآخرين عام (1878) والذي
يلاحق النّفعيّة السّلبيّة المقيتة، التي ولّدت الاستعمار والحروب
والاستغلال السّياسي والاحتلال للقوى العظمى, والتي لا تزال آثاره مستمرّة لحدّ
الآن في العالم, وخصوصًا عالمنا العربي....
5- ظهرت الذّرائعيّة
العربيّة (pretext)
أو الذرائعيّة اللّغوية (pragmatics) لأوّل مرّة في النّصّ العربي في أول بيت شعر
عربي أو أجنبي قيل كعنصر بلاغيّ يهتمّ
بالتّعبير المجازي الخيالي غير الواقعي، وقد نهى الله عن سلبيّتها النّفعيّة
في القرآن الكريم في سورة الشّعراء (الآيات 224و 225و226 ) ونصح الشّعراء
بالانضواء تحت الآية (227) بين العام (506
و509) بعد الميلاد ...وبشكل عام فهذا المصطلح ظهر في كلّ لغات العالم بمجازها البلاغي,
وأخذ مفردة خاصّة به كتسمية له من كلّ لغة، لكنّه كمصطلح بلاغيّ توحّد باللّغة الإنكليزيّة
كمفردة شاملة لمحتواه اللّغوي والفلسفي العالمي وهو(pragmatics) بغضّ النّظرعن الخلط الحاصل
بينه بين المصطلح الآخر السّياسي والفلسفي البغيض البراغماتيّة السّياسيّة (pragmatism), فهما شبيهان في الجذر اللّغوي
وبعيدان كلّ البعد عن البعض بالمعنى والمحتوى والاتّجاه والتّيار المعرفي...
6- تأخذ الذّرائعيّة
النّصّ الأدبي وتغوص فيه بشكل متتالي
بمستويات واستراتيجيّات علميّة (نفسيّة وبحتيّة) متتابعة كثيرة, لتحصي كلّ شاردة
وواردة فيه بذرائعpretexts مسنودة بعلوم تحيط بالأدب،
بإغناء علمي يثري النصّ والنّصّاص معًا, و يفلتر ما يفيد المجتمع من نفحات الأدب،
لذلك هي تفصل بين النّقد العلمي والانتقاد السّلطوي المقالي الإنشائي
فالذّرائعيّة تغرق
النّصّ في كلّ مستوى من المستويات الذّرائعيّة المتعدّدة، في آليّتها، لتتفحّص جزيئاته
بدقّة واحترام واحتراف متناهي.
وتهتمّ الذّرائعيّة كنظريّة
بالتفرّد بتحليل النّصّ الأدبي عن طريق الدّلالة والمفهوم بتجاوز هوّة المرواغة التأويليّة
بين الدّال ومدلولاته نحو المفهوم الثابت, للحدّ من عمليّة التّأويل وإيقافها عند
حدود المنطق, لإعطاء المقرّر بعمليّة التّأويل من تطابق المعطيات والصّور بين
العالمين الخارجي والدّاخلي, لإيقاف الدّخول في عمليّة التّفسير المؤوّل بشخصنة النّاقد
أو المحلّل التي تقود نحو المدلولات الخاطئة، وهذا التمنّع العلمي يعمل كجدار واقِ
يمهّد الطّريق للفعل الذّرائعي بالقيام بإسناد كلّ مفهوم من المفاهيم الخاضعة للتّحليل الذّرائعي في عناصر النّصّ الأدبي
وسياقاته التّواصليّة، بذريعة علميّة مستندة إلى علم من العلوم المحيطة
بالأدب.
·
أنت كتبت الشعر, قصيدة
التفعيلة وقصيدة النثر, في أي المواضع تدور قصائدك؟
بالمجمل الثيمة العامة
لقصائدي هي الوطنية والوجدانية, قصائدي مثقلة بهموم الإنسان العربي, وويلات الحروب
التي تأكل أوطاننا, فنفرّ من موت إلى موت, مثقلة بحمولات المرأة العربية التي فقدت
الأمان فعاشت في ظلّ طفولتها لتستكين, ورغم ذلك قصائدة محلّقة بالأمل بطاقة النور
التي أبصرها في نهاية النفق.
·
هل تعتقدين أن القصيدة
النثرية الآن بديلة عن قصيدة التفعيلة؟
سيغضب منك مناصروا القصيدة
العمودية, فهم إلى الآن يناقشون شرعية قصيدية التفعيلة, أما مناصروا قصيدة
التفعيلة فيشككون بحقيقة أن قصيدة النثر تنتمي إلى الشعر أصلًا.
سأتكلّم بموضوعية قدر
الإمكان, إذا حُق لنا أن نفاضل بين أنواع الشعر, فلا يحق لنا أن نلغي أي منها,
لأنها وُجدَت لتبقى وتتوارث, وكأننا أمام ثلاث أخوات من أجيال متباينة, هل ولادة
الجديد تلغي السابقين؟ لا طبعًا, قد يكون للجديد بهجة تطغى على الأقدم, لكن لا
تزيحه, ولا تلغيه, ولا تحلّ مكانه, قصيدة النثر خلال الثلاث سنوات الأخيرة بدأت
تنضج, طبعًا ليس عند الجميع, فإلى الآن نجد الكثيرون يخلطون بينها وبين الخاطرة,
وبينها وبين القصة القصيرة جدًّا, غير آبهين بتحقيق الإيقاع الموسيقي الداخلي, ما
جعل جماعة قصيدة العمود ينبذونها من حقل الشعر, بالنسبة لي أحب قصيدة التفعيلة,
أحب واسطة العقد.
·
القصة الومضة كتبتِ فيها,
لكن هذا النمط من الكتابة بحاجة إلى أن توضع لها شروط فنية حتى تعرف الجيد فيها من
الرديء.
نعم كتبت القصة المكثفة أو
ما يسمونه القصة القصيرة جدًّا أو القصة الومضة, وكان لنا في حركة التصحيح
والتجديد والابتكار في الأدب العربي رأي بشأنها أعرضه هنا:
القصة القصيرة المكثفة( القصيرة جدًا):
هي نوع أدبي جديد مثير للجدل, ملائم جيد
ومناسب لروح العصر الذي عزف فيه الكثيرون عن إنفاق الوقت الكافي في القراءة لأحداث
سردية فارغة, بحكم التقدم العلمي والحاسوبي للعقل البشري, والتوجه الذهني نحو
التفكير العلمي الدقيق في كل الأمور ومنها الأدب. وإطلاق العنان للعقل بدلًا من
البصرو فحلّ التبصّر, فتحرّك المضمون في هذا النوع على حساب الشكل, فقام كتّابها
المتبصّرون بإطلاق العنان للأعمدة الرمزية والإشارة لكل المفاصل النصية بالتكثيف
الرمزي. حيث أن السرد يحوي بداخله الأسلوب, والأسلوب بداخله العمق, والعمق بداخله
الانزياح نحو الرمز والخيال, فإذا اختفى السرد اختفى الأدب...
ماذا فعل المتبصّرون ؟ عوّضوا عن الشكل
الأدبي المفقود بالعمود والقرين, وهذه إشكالية في القص القصير جدًا, فلا يجوز أن
يكون القص القصير جدًا إخباريًا, لأنه في هذه الحالة يفقد العمق, وحين يفقد العمق
يتحوّل من أدب إلى صحافة.. وهذه أيضًا من إشكاليات القص القصير جدًا حيث ضاعت
جماليته بين الإخبار والعمق.
فهي قص قصير بكل عناصره من عنوان ومقدمة
وانفراج ونهاية, لكن غياب النقد الرصين من الساحة الأدبية جعل بعض المتشدّقين يقومون
بتخريب هذا الجنس الجميل, وإعطائه أبعادًا غريبة وغير موجودة في الأدب العربي, رغم
أن هذا الفن الأدبي موجود في الأدب العربي قديمًا باسم مصغّر للقصة القصيرة (الأقصوصة), وكان السرد فيه يخضع للعمق المعروف
بالإطناب, أي استخدام التكثيف في معاني المفردات بشكل فصيح.
والعمق في اللغة العربية, هو الذهاب نحو
جذورها الفصحى, إذن هو شكل من الأشكال الجمالية.. وتسري عليه عناصر البنائين,
البناء الفني والبناء الجمالي كما في القص القصير.... وقد أساء البعض لهذا الجنس
الجميل بنعته بكلمة (جدًا), فهو خطأ ترجمي, فبدل من أن يقولوا مكثف قالوا جدًا,
كلمة ( جدًا ) أخذت به نحو الحبك الإخباري الفارغ أدبيًّا, وأدخلته تحت جلباب
الخبر الصحفي التقريري, فصارت حبكة ملخصة فارغة من العمق الأدبي والجمال النصي
والرمز. فسار باتجاه صحفي إخباري تقريري بحت....
هل تخضع القصة المكثفة للنقد؟
نعم ولا...
نعم: إذا كانت مكثّفة, أي بأسلوب رمزي, لذلك
يكون بناؤها الفني مخبوءًا من تشابك سردي وعقدة وانفراج ونهاية.
لا: إذا كانت إخبارية فقط, لأنها تكون حبكة
خالية من البناء الفني والجمالي, أي خالية من الأسلوب.
·
القصة القصيرة تطوّرت
وازدهرت وكان لها أعلامها ورموزها, روادها الكبار بعد هذا الجيل أم نجد أعلامها
بمستوى الرواد.
بمعن لم يأت في الجيل
الحالي كتّاب قصة بحجم كتّاب القصّة الكبار في الأجيال السابقة, ما هو رأيك ؟
أنا كتبت القصة القصيرة كما
تبلورت في هذا الجيل, وقرأتها عند الكبار من الأجيال السابقة, المعضلة هي في
التغيّر الذي طرأ على السمات الفنية للقصة القصيرة, فسابقًا كانت تُكتب بأكثر من
ثمانين صفحة وتُدعى قصة قصيرة, و( المعطف) لغوغول خير مثال على ذلك, فالقصة
القصيرة اختلفت كثيرًا, اتجهت نحو التكثيف بشكل أكبر, واقتصرت على الموقف الواحد
أو الحدث الواحد في المكان الواحد وفي الزمن الواحد, إلا اللهم إذا تلاعب القاص بإدخال
تقنية المونولوج الداخلي أو تيار الوعي أو الذكريات بحيث يبني حدثًا موازيًا للحدث
الفعلي الخارجي عبر الزمكانية شعورية داخلية, ولو استعرضنا السمات الفنية للقصة
القصيرة بالعموم سنجدها كما يلي:
فن أدبي حديث لم يعرفه الأجداد على الرغم من أنهم عرفوا صورًا كثيرة
للفن القصصي مثل الملحمة ولم تولد إلا مع ظهور الصحافة. كما تتراوح صفحاتها بين ثلاث صفحات و
ثلاثين صفحة، ولها مميزات خاصة نذكر منها:
1-
تقوم القصة القصيرة على الحدث الواحد أي الفعل الواحد.
2-
وحدة الانطباع.
3-
القِصر.
4-
الكشف عن جانب من جوانب الشخصية في لحظة التنوير.
5-
ينبغي أن تشتمل على موقف إنساني يتطور نتيجة لفعل إرادي
6-
التكثيف في الأسلوب والسرد
تعتبر القصة القصيرة من أقرب الفنون الأدبية لروح العصر، لذلك نجدها في هذا الجيل قد انتقلت
من التعميم كما في القصة الطويلة إلى التخصيص، واكتفت بتصوير جانب واحد
من جوانب حياة الفرد أو زاوية واحدة من زوايا الشخصية الإنسانية، وذلك بشكل بشكل
رمزي أو خيالي انزياحي سحري، وبإيجاز في كلمات منتخبة تؤدي إلى كشف الحقيقة أو تصوير رأي معين أو نقل انطباع خاص،
كما أنها تتناول قطاعًا عرضيًّا من الحياة, وتدخل نظريات الأدب ومذاهبه من أبوابه
الواسعة.
السؤال الحادي عشر :
مجموعتك القصصية ( رسائل من
ماض مهجور ) تسرد مشاهد ومحطات من حياتك , هل تكشف عن مرحلة الطفولة المتأخرة؟
عشت طفولة جميلة جدًّا
أحببت أن أنقلها عبر مجموعتي القصصية الثانية ( رسائل من ماضٍ مهجور) هي مواقف لن
تتكرر, وإن تكرّرت فلن تكون بذات النكهة, بالنسبة لسؤال هل هي تكشف عن طفولة
متأخرة, الجواب: لم تغادرني الطفولة أصلًا حتى أعتبرها مرحلة طفولة متأخرة, فقد
اعتنيت جيّدًا بالطفلة التي في داخلي, وأخرجتها مرارًا وتكرارًا لأنني كنت أخاف أن
يأكلها العفن, لكني ظلمتها في مرحلة, عندما سكنتُ فيها محتمية بها من الخوف, والحمد
لله كانت فترة وجيزة وانقضت.
تعليقات
إرسال تعليق