عالمية الأدب الروسي بقلم د. عبير خالد يحيي

 


ما الذي يجعل الأدب الروسي عالميًّا جدًّا؟

لطالما يراودنا هذا السؤال بإلحاح كلما تناولنا موضوع الأدب الروسي, وحتى نكون موضوعيين في الإجابة على هذا السؤال ينبغي أن نتعرّف على الأدب الروسي خارج سياقه الجغرافي.

 لقد رصد النقاد والباحثون ست خصائص أساسية للأدب الروسي, كل واحدة منها كافية لجعل الأدب الروسي عالميًّا على مستوى العالم الأرضي, وشعبويًّا على المستوى  الجماهيري الاجتماعي, نستعرض بعجالة تلك الخصائص:

1-      الأدب الروسي شكوى اجتماعية:   تصاعدت من أقلام الكتّاب الروس  في القرن التاسع عشر , الذين أدانوا الظلم والقمعوالاستبداد, ووضعوا أصابعهم على الجراحات, وعرضوا المآسي التي أغرقت البلاد, وعكسوا الواقع كما هو في أعمالهم الأدبية . وكان ألكسندر بوشكين أول كاتب قام بإدانة اجتماعية ( وأيضًا أول كاتب عظيم للوطن الروسي بأحرف كبيرة ) [1] معترف به من قبل أتباعه على أنه " أبو الأدب الروسي" حيث استنكر في أشعاره الاستبداد والقمع والكذب, كما استنكر نفاق وعبث أرستقراطية بيتربوغ وموسكو. يقدّم لنا, في أهم أعماله, يوجين أونجين, صورة ساخرة ومأساوية لنبيل روسي يعيش مكرّسًا لحياة مشتتة دون أن يلقي بالًا  للآلام التي يجرّها على غيره, خلف غوغول بوشكين على ذات النهج الشاعري, وقد أضفى على الواقعية نفسًا سحريًّا وشاعريًّا, نجده واضحًا في رائعته ( أرواح ميتة) التي تعتبر البندقة التي انطلق منها النقد الاجتماعي للأدب الروسي . وبعد بوشكين وغوغول, بدأ الأدباء الروس بغرس أقلامهم في تربة التنديد بالواقع الاجتماعي, فأنتشت ( الجريمة و العقاب )رائعة دوستويفسكي, مع قصص تحت الأرض ؛ ماكسيم غوركي مع العالم السفلي ( يصور الحياة في مأوى للمشردين), ثم فاسيلي غروسمان بشهادته عن حياة ومعاناة سجناء معسكرات العمل في سيبيريا.

2-       البحث عن حقائق الحياة :  والتعطّش للعدالة الإلهية والإنسانية,  فنجد في كل رواية روسية مهمة حيوية تبحث عن معنى حياة الفرد, ودوره في العالم , أو تبحث عن أسرار الحياة والموت, ما يجعلها انعكاسًا للروح والمعاناة الإنسانية, لذا يشعر  كل الناس على اختلاف جنسياتهم بانعكاس ذواتهم فيها.

3-      الهجاء:  أسلوب السخرية والتهكم في التنديد الاجتماعي لإنتاج كوميديا سوداء, لاسيما في الحقبة السوفييتية, وهو الأسلوب الذي اعتُمد لبناء نقد مدمّر لاتحادات الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية في عهد استالين.

4-      الملحمية : وهي ما ميّز القصص الروسية حتى القصيرة منها, فالأدباء الروس مملوءون بشعور ملحمي يجعل أعمالهم ضخمة, وكونية, وخالدة, لذلك تجاوزوا بأعمالهم تلك السياق الجغرافي, والسياق الاجتماعي المحلي. فلا نجد ( الدكتور زيفاجو) لبوريس باسترناك في سياق الحرب والثورة, وإنما في سياق ملحمي مشابه لإلياذة هوميروس. هي نظرة عالمية لمعاناة الإنسانية  جمعاء, لا تقتصر على الروس,

5-      التشاؤم : مرصود بوضوح في الحوارات الداخلية للشخصيات البائسة في أعمال دوستويفسكي وغوركي وغروسمان, وهو تدفق خاطر وجداني يهز  النفس البشرية ويحرّك الراكد فيها, تشاؤم مصحوب بالندم والكآبة, لكنّه مغلّف بالشاعرية والشوق إلى  بصيص الضوء والجمال, وتلمّسه والبحث عنه,  هو تشاؤم يبتعد جدّا عن التشاؤم الصارخ والعاري للفرنسي إميل زولا, تشاؤم فيه جوع روحي  أبي  للتعالي والترفّع والسمو , ما يجرّنا إلى الخاصية السادسة لهذا الأدب.

6-       الروحانيات : كل الأدب الروسي بجميع أجناسه هو أدب غارق بالروحانية , والسبب هو  يكمن في الطبيعة السيكولوجية للأدباء الروس, الباحثة بحثًا حثيثًا عن الحقائق البشرية والإلهية وبالتالي العالمية, ما يجعلها ترتقي ارتقاءً متعالٍ باتجاه الروح, مبتعدة عن الأسباب الموضعية لتفسّر  وتجذّر الوقائع تجذيرًا نفسيًّا وفلسفيًّا, في رواية( الجريمة والعقاب) تكون الواقعة  قتل سرقة مجوهرات وأموال المرابي العجوز  قام بها جاره الطالب الشاب (راسكولينكوف), لكن ديستويفسكي يتعالى على فعل الجريمة وأسبابها المنطقية باتجاه الروح والنفس الإنسانية المضطربة, مظهرًا " أن الفعل هو نتيجة اضطراب الروح"

بالنتيجة الأدب الروسي هو تطواف مدهش في أعماق النفس البشرية .

 

 #دعبيرخالديحيي                 الاسكندرية 23/3/ 2021



[1] - الخصائص الست الأساسية للأدب الروسي – warbletoncouncil.org


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سرد الاغتراب والبحث عن المعنى قراءة ذرائعية في رواية ( منروفيا ) للكاتب المصري أحمد فريد مرسي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

إشهار كتاب النزعة الصوفية والنزعة التأملية في شعر الأديب السوري منذر يحيى عيسى

أدب الرحلات المعاصرة: سفر في الجغرافيا والذات دراسة ذرائعية مستقطعة على كتاب (نيويورك في عيون زائرة عربية) للكاتبة اللبنانية هناء غمراوي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي