الأدب الروسي المعاصر قصة/ الجسر / للكاتب جريجوري زلوتين أنموذجًا بقلم د. عبير خالد يحيي

 



مقدمة وإغناء:

كنت في مقال سابق طرحت تساؤلًا اشتركت فيه مع كل من يتتبع مسيرة الأدب الروسي من الكلاسيكية وحتى المعاصرة, مفاده: لماذا لم نعد نقرأ أعمالًا لكتّاب روس جدد من عصر الحداثة وما بعدها وصولًا إلى وقتنا الراهن؟ كما كنا نقرأ للنخبة من الأدباء الروس من الحقبة الكلاسيكية الذين سطعت نجومهم في المشهد الأدبي العربي وأثّرت فيه عميقًا على مدى عقود طويلة أمثال تولستوي ودوستويفسكي وتشيخوف وباسترناك وماياكوفسكي وغيرهم الكثير ؟ هل توقف الأدب الروسي عندهم ولمّا تحبل الساحة الأدبية بغيرهم وعقمت بعدهم؟!

يقول محمد الخميسي وهو مترجم وأكاديمي مصري مهتم بتتبع الأدب الروسي والترجمته إلى الأدب العربي و العكس, في مقال منشور في مجلة الفيصل في 1مارس 2017:

(عندما يدور الحديث عن الاتجاهات الحديثة في الأدب الروسي المعاصر ,فإن المقصود هو الظواهر والنزعات الفكرية والفنية المختلفة التي ظهرت خلال تلك الفترة بعد فك الارتباط الوثيق بين الأدب وتوجهات النظام السياسي الحاكم. هو إذن أدب " مرحلة التحول".. إلى ماذا وإلى أين ؟ الإجابة تستدعي أن نعرف ولو في عجالة " التحوّل عن ماذا؟") [1].

يعرض كاتب المقال لحقيقتين تاريخيتين استندت إليها السلطة الحاكمة, شكلتا الأساس الفكري والقانوني لملاحقة الإبداع والتنكيل بالأدباء, الحقيقة الأولى خاصة بالطباعة, حين صدر قانون المطبوعات الي نشرته الحكومة عقب الثورة الاشتراكية في  27 أكتوبر  1917 أوقفت بموجبه نشاط الصحف المعادية للثورة, فاغلقت خلال الشهرين الأولين  أكثر من    150صحيفة , وادعى لينين_ زعيم الثورة في ذلك الوقت_ أنه قانون مؤقت تفرضه الظروف, ولكن ذلك القانون تحوّل من مؤقت إلى دائم استمر يحكم الحياة الثقافية طوال ثلاثة وسبعين عامًا, وهكذا تم القضاء على حرية التعبير, إلى أن صدر بعده قانون جديد للصحافة والمطبوعات في 20 يونيو 1990,

الحقيقة الثانية خاصة بالمجال الأدبي, حين عقد المؤتمر الأول للأدباء السوفييت بزعامة مكسيم غوركي وأندريه غدانوف في العام 1934, دشنوا فيه نظرية ومصطلح " الواقعية الاشتراكية" مذهبًا أدبيًّا رسميًّا للإبداع, ما أغلق كل مسارات الإبداع والخيال التي تغرّد خارج سرب مذهب الدولة الأدبي, وقتَلَ حرية الأدب وتنوّعه.

وبناء على النتيجتين المنبثقتين عن الحقيقتين السابقتين, طارت رؤوس الكثير من الأدباء, وصودرت أعمالهم, وطرد المبدعون من اتحاد الكتاب,وتم نفي الكثير منهم وملاحقتهم ودكّهم في االمعتقلات, وأغلقت الجمعيات والروابط الأدبية, وشهدت الساحة الأدبية انتحار العديد من الأدباء ك ( فلاديمير  ماياكوفسكي- مارينا تسفيتايفا- سيرجي يسنين....) وغيرهم .

إلى أن ظهرت بوادر الانفراج  على يد الزعيم الجديد نيكيتا خرشوف الذي تسلم زعامة البلاد بعد موت الزعيم السوفييتي ستالين  في العام 1955 , وعرفت تلك المرحلة ب " ذوبان الثلوج" بسبب سماح الرقابة بنشر  رواية إيليا إهرنبورغ التي تحمل ذات العنوان, لتعود الفرجة للانغلاق بعد ذلك بسبب ظهور العديد من الروايات التي تحدّثت عن عمليات التنكيل بالأدباء طوال الفترة السابقة, وأودع العديد منهم في السجن بتهمة الهجاء للسوفييت, إلى أن ظهرت البيرستروكيا ( سياسة إعادة البناء) في يونيو 1987 التي فكّت قيود الكلمة ما جعل الحقيقة تعلن عن نفسها سياسيًّا وأدبيًّا, إذن التحول كان انتقالًا من استبداد النظام السياسي إلى التعددية السياسية, فشهد النصف الأول من تسعينيات القرن العشرين انفجارًا أدبيًّا في كل الاتجاهات, وبتنا نلحظ ظهور تيار أدبي يحمل رايات ( الرواية التاريخية ), معظمها يستعرض أحداثًا تاريخية  بين الماضي الشيوعي والحاضر الرأسمالي, وفازت العديد من الأعمال بالجوائز العالمية كالبوكر  ونوبل.

كما برز واضحًا وراج كثيرًا تيار أدبي آخر  وهو تيار (أدب التسلية الجماهيري), الروايات البوليسية والجنسية والخيال العلمي, وهو ما كان محظورًا في الحقبة السوفييتية لأنه غير هادف, والحقيقة أن من كتب في هذا التيار لم يكونوا من الأدباء الحقيقيين الذين يملكون أدوات الكتابة ويجيدون توظيفها, وإنما كانوا بالمجمل ضباط بوليس ورجال مخابرات متقاعدون استفادوا من تجاربهم الوظيفية في حبك روايات بوليسية مستهلكة, عدا عن باقي التيارات الأدبية التي يجمعها عنوان " ما بعد الواقعية" مثل الواقعية السحرية والسريالية والفانتازيا, جاءت بالمجمل سطحية, معظمها تخلّى عن الرسالة المجتمعية متجهًا نحو التهويمات الذاتية بعيدًا عن الرقابة الأدبية, محصورًا بالمحلية, ممتعًا ومفهومًا وقريبًا من شعبه فقط, وغير ممتع بالنسبة إلى بقية الشعوب, بينما لو كان" الأدب المحلي,الإنساني الطابع , الذي يعبر عن روح العصر, ويثير أحاسيس مشتركة بين البشر وتجاوبًا فكريًّا يتفاعل في كل بيئة مجردة من المكان والزمان, فهو يجذب انتباه القارئ بصرف النظر عن العرق والمعتقد واختلاف الثقافات"[2] .

إن خسارة الجانب الرسالي الإنساني في أي عمل أدبي, كائنًا كاتبه من كان, ومن أي جنسية, يتدنى بالعمل إلى حضيض المحلية الذاتية المستهلكة, وهذا ما عاناه الأدب الروسي المعاصر على يد الكثير من كتّابه الذين لم يمتلكوا من أدوات لكتابة إلا اليسير , ضاربين عرض الحائط بالكثير من القيم الإنسانية بحجة ثورتهم الروسية على الموروث السوفييتي, الذي لم يحقق لهم المبادئ والحريات التي وعدهم بها, لكن الإطاحة بالرقابة الأدبية أفرزت الكثير من الأعمال الغثة السطحية المفككة المحلية والمستهلكة والتي لا ترقى بأي حال من الأحوال إلى روائع الأدب الروسي الذي ساد في القرن التاسع عشر قبيل الثورة الاشتراكية, ما جعل المترجمين يحجمون عن ترجمة هذه الأعمال, ما جعل الأدب الروسي المعاصر  يتقلّص كثيرًا في أسواق معايير الجودة والابتكار الأدبية, إلّا عند القلّة من المعاصرين, ومنهم الكاتب ( جريجوري زلوتين) الذي سنتناول قصته (الجسر ) بالتحليل:

البؤرة الفكرية:

هذه القصة تعالج الصراع بين الذات الإنسانية والنظم الشمولية التي تأثرت بها هذه الذات وبقيت أسيرة لها رغم انهيارها, هي لا تنظر للإنسان كقيمة شاملة, وإنما  كائن يبحث عن الأمل والسعادة, محبوس في مخاوفه, يحاول أن يصنع لنفسه هوية تخصّه بعيدًا عن القومية في عام شهد انهيار كل التيارات والهويات القومية والفكرية, ولكنه يكتشف أنه رهين الأفكار والسلوكيات والمعالجات الاعتيادية التي بُرمِج عليها من العهود والأنظمة السابقة, متجشّمًا عناء العمل لسنوات بغاية أن يصل إلى السعادة ( الهدف الرمز), بوسائل بدائية ومرحلية غير مدروسة, متجنّبًا خوض مغامرة بسيطة يبلغ فيها مأربه سريعًا, ولكن خوفه من المجهول الحاضر يمنعه, والسبب تجربة سيئة واحدة  لم تكشف له ستر هذا المجهول, فبات عدوًّا لما يجهل, ومات دون أن يبلغ الهدف.  

المستوى المتحرك:

البناء الفني:

1-      العنوان :  الجسر : مكوّن نصّي مكثف بكلمة واحدة تمثّل بجدارة ثيمة النص, المحور الذي حمل متن النص, ودارت حوله الأحداث من أول النص وحتى النهاية,

2-      الاستهلال: استهلال زمكاني :

كنت قد رأيت, في أحد الأيام, من أيام الشباب البعيدة, النهر  لأول مرة في حياتي.

3-      الزمكانية : زمن الأحداث: المكان : نهر , زمن الأحداث استطال على فترة تجاوزت العشر سنوات.

تغلب الكاتب على معضلة الزمن الطوبل والأحداث الكثيرة التي تخلّ ببناء القصة القصيرة التي يُفترض أنها موقف واحد يحدث خلال زمن قصير نسبيًّا, باتباع تقنية الخطف خلفًا Flashback المثارة بعتبة واقعية, وتقنية تيار الوعي    وهما تقنيتان سرديتان تسمحان للقاص بلملمة أحداث كثيرة يستحضرها في لحظة التنوير  التي ادّخرها حتى نهاية القص, وفيها اختزل الزمن في لحظة كاشفة ثبّتت بؤرة القص.

4-      الموضوع:

إنسان يحكي تجربته وصراعه في سبيل بلوغ الهدف الساطع( السعادة) الذي يقع على مسافة غير بعيدة عنه( على الضفة المقابلة من النهر) , يجابهه خوفه من الماء, ويحول بنه وبين بلوغ هدفه, دون أن يفكر في مجابهة ذاك الخوف يقول:

إنني شخص أنتمي إلى اليابسة بشدة, لا أجيد السباحة بأي حال من الأحوال, أخشى الماء حتى النخاع, حتى عندما يسيل ببساطة خلف ياقة القميص, لم أتحدّث بعد عن المحيطات, لم أزر الشاطئ قط, لن أحتمل التأرجح أبدًا, قصص البحر تسبب لي الغثيان, لم يكن هناك جسر على النهر.  

5-      الحبكة :

بعد أن وضع عقدته النفسية ( الخوف من الماء) بين يدي المتلقي, بدأ بعرض الحدث الأول, رؤية السعادة على الضفة الأخرى للنهر, وقوعه في حبها, وقراره الوصول إليها:

هناك فوق الحصى ذات الحفيف, كانت تقف السعادة, .... كانت متألقة كلها مثل الشمس الساطعة ... اعتصرت عبير أوراق الأشجار الوردية, وغنت أجمل من مزامير داوود... عكرت مزاجي حالًا بمسالمتها الرخوة المترددة....

تدحرجت قاذفًا نفسي في الماء , لم يكن هناك مناطق يابسة يمكن أن أخوض النهر عبرها , ولا قوارب قريبةز

لم يقبل أحد من الناس في القرية أن يساعده ويحمله إلى الضفة الأخرى:

كلهم كانوا يهزون رؤوسهم تعاطفًا ولم يقبِل  أحد على مساعدتي

عندما نظر إلى السعادة ووجدها ما تزال واقفة في مكانها تستدعيه وتغني له, فكّر أن يبني جسرًا :

عندها رحت أبني حسرًا فكرت" مادامت غير متعجلة, والنهر ضيق, فإنني سأتمكن من الانتهاء من بناء الجسر"

عندها فقط بادر الجيران إلى مساعدته, وقدموا له جذوع الأشجار والأخشاب  والمسامير, وجد النهر أعرض مما توقع, فاستدعى مهندسًا من المدينة, وبدأ بسرد ما اعترضه من مشكلات وهو يبني جسره, وتعاقبت عليه الفصول, وكذلك أنواع وأشكال العمال الذين استقدمهم لمساعدته, مرت سنوات عشر  وهو يعمل في بناء الجسر وتدعيمه, حتى صار  يميز من على الجسر سياج القرية ومداخن المصانع القديمة وتربة شاطئ النهر الحمراء وأول دعامة مكسوة للجسر كانت قد نهضت بالقرب منه,

6-      العقدة :

يلقي المهندس الأشيب ( شاب من طول المدة) بنتيجة مروعة, هي عقدة العمل: 

لقد أخطأنا الهدف, فقط بخمسة ساجينات.

7-      الانفراج:

يتحرك البطل مترنحًا من على الجسر إلى الأرض, ينظر إلى السعادة ويراها ما زالت تنتظره, ينظر أسفل الجسر فيرى القارب مربوطًا إلى السقالات! , لم ينتبه إلى وجود قارب طيلة العشر سنوات, ولو أنه فكّر بصنع قارب أو طلبه كما طلب الأخشاب والعمال والمهندس لكان اختصر  الزمن والعمل, الغريب أن من ساعده أيضًا لم يلتفت إلى ذلك الحل, صعد القارب وجدّف نحو الشاطئ المنحدر , هرعت السعادة نحوه, وهنا أورد جملة فيها كناية ورمز  رائع, يقول :

استيقظت الغابة البعيدة الغافية, المحاطة بسياج من الأوتاد الخشبية ... رفعتُ يدي وانطلقت إلى لقاء النور.

الغابة البعيدة الغافية هي الذات التي نسيها وهو يبحث عن سعادته, وقد أضناها السهر والانتظار فغفت, محبوسة في سجن العقل الذي تخشّب عن التفكير  بروح الابتكار, فحمّل القضايا الصغيرة حمولات كبيرة مبالغ فيها, أثقلتها حتى ناءت بحملها, ولم تحلّها, وكان الحل في المتناول القريب جدًّا, لكن العقل الخشبي لم يره.

8-      النهاية:

مأساوية : في حضرة الموت دون بلوغ الهدف:

وأغلق الحصّاد ذو الوجه النيّر لي عيني.

هل كان الموت ( الحصّاد ذو الوجه النيّر) هو السعادة الساطعة, تمامًا كأنها رفوف من الحبريات السماوية المجنحة؟!

سؤال إجابته تحملنا إلى أن النص وإن  بد بأحداث واقعية إلا أنه نص رمزي بامتياز,  وهو يتبع مدرسة الفن للمجتمع, يمثّل رحلة الإنسان  وهو يبحث عن السعادة بحثًا محمومًا في اتجاهات مضلّلة, متناسيًا أنها تنبع من الذات, وليس كل ما يلمع ذهبًا, فملاك الموت نيّر الوجه أيضًا,

البناء الجمالي:

الأسلوب : رمزي استخدم فيه الكاتب العمود الرمزي والقرين, وانزاح إلى الجمال بالوصف, مع بعض التقريرية في سرد الأحداث.

الوصف : كان هناك العديد من الصور الجمالية, التشابيه والاستعارات والكنايات.

 

 

 

 

 

       



[1] - الأدب الروسي الحديث وأسئلة الراهن ( أحمد الخميسي) – مقال لأحمد الخميسي في – مجلة الفيصل – 1 مارس 2017

[2] - هل مات الأدب الروسي- مقال بقلم  جودت هوشيار – شبكة النبأ المعلوماتية 2017-09-13

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سرد الاغتراب والبحث عن المعنى قراءة ذرائعية في رواية ( منروفيا ) للكاتب المصري أحمد فريد مرسي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

إشهار كتاب النزعة الصوفية والنزعة التأملية في شعر الأديب السوري منذر يحيى عيسى

أدب الرحلات المعاصرة: سفر في الجغرافيا والذات دراسة ذرائعية مستقطعة على كتاب (نيويورك في عيون زائرة عربية) للكاتبة اللبنانية هناء غمراوي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي