قراءة في رواية (بين حياتين) للناقدة الذرائعية (د. عبير خالد يحيى). د. وليد جاسم الزبيدي.

 


التجريب في حيوات مصحة الزمن

المقدمة:

لا أتقِنُ فنونَ الناقدِ المحترفِ في وضع ديباجةٍ أوليةٍ في مدرسةٍ أو ظاهرةٍ يعتمدُها هذا العلمُ الذي يرتقي بالنّص أو المُنجز، أو يزيحُ عنهُ ضبابيةً ما، ولا أحبّ استخدامَ المصطلحاتِ التي أغلبها أجنبية، أو معرّبة، يتشدّقُ بها البعضُ، بل لا تُكتب، أو تُنطقُ أحيانًا في صورتِها الصحيحة.

 لذلكَ، أقرأ النّصَّ بصورهِ المختلفةِ بقراءتي المتواضعةِ وأضعهُ على الورق حسبَ ما أفهم وحسبما وصلني سلبًا أو إيجابًا، لكنّي_ وللحقّ والحقيقة- السّلب لا أكتبُ فيه، بقدر ما أتعلمُ منهُ وأستفيد. وهكذا وجدتني مع رواية (بين حياتين) نتاج ناقدةٍ، وناقدةٍ ذرائعيةٍ، فكتابةُ النّص شعرًا أو نثرًا، أو سردًا، من قبل شاعر أو سارد، صورة من صور الأدب، تجد صورةً أخرى من نتاج لناقد، والناقد لابدّ أن نجد بل هو يجد في كتابته الشعرية أو السردية منحى آخر يسير في اتجاه للمتلقي الذي يضع في ذهنه أسئلة عدّة، منها.. هل الناقدُ سيتفوّق في كتابته الشعرية أو السردية؟ على الكاتب أو الشاعر، الذي لا يمتلك أدوات ومقوّمات النقد..؟ وهل سيكتبُ الناقد بروح الناقد المتفحص الذي يضع الكلمة تحت مجهر أدواته ومدارسه ومصطلحاته؟ أم أنّهُ سيكتبُ بإحساسِ كاتبٍ أو شاعر..؟ وهذا ما سنتعرّف عليه بعد قراءة المنجز .

الرواية وفصولها:

تبدأ الرواية بالعنوان( بين حياتين) ثم الإهداء فالمقدمة، وتليها فصولٌ، تم تقسيمها إلى واحدٍ وعشرين فصلًا. ولكل فصلٍ عنوان، يمثّلُ مرحلةً من مراحل التراكم في السرد أو المحكي ليتصاعد البناء الدرامي. عدد صفحات الرواية (224) صفحة.

القراءة:

بعد أن تقرأ الرواية، قراءةً متأنيةً متدبرةً، تظلّ حالمًا تارةً وحائرًا تارةً أخرى، تتلبّسكَ هذه الـ (غالية) التي تفتح لك نوافذ حياتها الخاصة والعامة وكل تفاصيل يومياتها، وصفحات من عذاباتها وما تعانيه، وما تفكّر به. تضعنا وتربط هواجسنا بدءًا من العنوان الذي تتناسل منه كل الخيوط التي تربط وترتبط به الأحداث، في حيواتٍ مختلفة متصارعة وليست حياة واحدة.

    نظلّ مع قارئةٍ، سبقتْ أقرانها وتسابقت مع ذاتها، لتجدَ عقلها وفكرها أكبر من حجمها وعمرها والمرحلة الدراسية التي تدرس فيها. وفي التفاتةٍ لهذا المكنون والخزين، تقترحُ علينا (الروائية) وتُقنعُنا بوجود شخص أو (صديق خيالي/عصام) يرافق بطلة الرواية (غالية) منذ الصّغر، تناقشُهُ وتتحاورُ معه، يُرشدُها ويقترحُ عليها، وتظل معه ومع هذا الظّل (الضمير) في رسائل ومواعيد. بعدها تكتشف (غالية) الطبيبة المثقفة، التي تزوجت  وكانت حياتها مع زوجها جحيماً، وورثت طفلتها (نور) صديقًا خياليًا، كالذي كان مع أمها (عصام). الأحداث تتسابق ونتابعها بشغف لنعرف التالي. فتأخذنا الروائية (بصوت غالية) لتفتحَ لنا نوافذ على التاريخ القريب، وعلى الحاضر، وما عاشته (سورية) والبلاد العربية والعالم من أحداث، في حرب تشرين 1973م، وما صاحبتها من أزمات مجتمعية ونفسية واقتصادية وهجرة، وصراع وموت. وما جرتْ من احداث في العام 2012 في تونس ثم ليبيا، فمصر، فاليمن، وحتى سوريا، وما سُمّي خطأً بـ (الربيع العربي).

 

 

شخصية بطلة الرواية/

شخصية مركّبة، فيها الجمال، والضبط والالتزام، والذكاء ، والحضور، جعلها مرمىً في نفوس وأعين المعجبين والحاقدين. منْ يحبها ويتمنى لها كل خير، ومنْ يرى النقص والعاهات في ذاته لما فيها من نضج وفكر وقوة .

شخصية، عانت على مدار حياتها بوجود كائن يسكنها ويتعايش معها، هو (الصديق الوهمي / عصام) الذي أثّرَ في حياتها أيما تأثير نفسي. حياتها الزوجية (الفاشلة) مع (زوجٍ) مريض ويعاني من عقدٍ كثيرة، حاولَ أن يعكس أمراضه عليها. شخصية مركّبة في مناحٍ مختلفة فضلاً عن الجانب النفسي، فهي باختصاصٍ علمي، ويستهويها الأدب، والكتابة والقراءة. كما أنها أصيبت بحالة من حالات المرض النفسي، الذهان، ومرض (النوم القهري).

الشخصية، عاشت حياةً في بلادها ومدينتها (طرطوس)، وحياةً أخرى في (بيروت) مع ابنتها وعائلة أختها (سما). عاشتْ حياتين، حياة مع (الصديق الوهمي/ عصام) وحياة أخرى بدونه. عاشت حياتين، حياة الحرب وحياة السلم. عاشت أكثر من حياة قبل الزواج، ومع زوجها وعائلتها، وبدون زوجها.

أيّ حياةٍ إختارتْ؟

اللغة في الرواية، لغة شعرية، تتقدّم كل فصل مقاطع تحسّ من خلالها نصًّا آخر، يداعبُ مخيلة القارىء, ويهمسُ في أذنه أنّ الروائية مهووسة شعرًا وخاطرةً.

ولأنّها (الروائية) طبيبة، فهي تتقنُ طرق الولوج الى مصحّاتنا ومشاعرنا وما نحمله من طفولة الأمس، تحفّزُ فينا الطفولة، كما تحفّز في مكانٍ آخر (الرجولة) و(الأنوثة). لا تستخدمُ مبضعًا ولا مشرطًا ولا تخدّر أجسادنا لتشتغل في أماكن الجرح والألم، بل لها لغة وأسلوب تجعل من الطفولة تستيقظ.

   ولأنها تقرأ، ظلّ الكتابُ هاجسَها الذي تعيشُ في الوعي واللاوعي، وصاحبتهُ وجعلتْ منه الصديقَ الأقربَ من أقرب الناس اليها فعاشها وسكنها حوارًا ونشاطًا وتفكيرُا، وظلّ ينمو معها، حتى أحسّت بعد حين أنها تكتب، وكتاباتها لها قرّاء ونقّاد، حيثُ تفجّرَ هذا العطاء بعد أن كان حبيسًا لإنشغالاتها بمتاعب وضروب الحياة.

   هل هما حياتان؟ ليكون عنوان الرواية (بين حياتين)، حين قرأتُ، وجدتُ حيوات كثيرة، متوائمة حينًا ومتنافرة أحيانًا أخرى. وأدّعي أن الحياتين التي أرادتْ أن نصلَ الى شيفرة (أو مفتاح) الرواية، حياتها العملية والعلمية، وحياتها الثانية الأدبية التي لم تكن بالضّد من الحياة الأولى بل مكملة، والتي توّجت نجاحاتها المحسوبة في حياتها الأولى، أو جاءت لتصحيح الأخطاء والآلام التي اجترحتها في حياتها الأولى. هذا من جانب العنوان .

أمّا الشأن الثاني في الرواية، هناك منْ يجعلها في خانة كتب (المذكّرات)، وفريق آخر قد يقول أنها في  (أدب السيرة)، وقد يقولُ فريقٌ ثالثٌ، أنها رواية (تاريخية) حافلة بتاريخ الحروب الخارجية والأهلية وأحوال الساعة .

 لكنّي, لا أجد الرواية فيها من أدب المذكّرات، التي تهتم بيوميات الأديب وتفاصيل حياته. ولم أجدها سيرةً ذاتيةً تحكي عن حال (الروائية) سواء اقتربت بعض الأحداث منها أو كانت جزء من هذه الأحداث، فللسيرة شأن آخر وصياغة وأسلوب قرأناه لدى أغلب الكتّاب العرب والعالميين.

    أجدُ أنّ هذه الرواية تمتلك ذاتها وهويّتها الخاصة بها بما تحمله من لغة وأحداث وصياغة، وممكن أن أضعها في باب (التجريب) والبحث عن ذات أخرى وجنس آخر للرواية، استطاعت فيها (الروائية) أن تجعلنا لا نشعر بالملل ولا بتكرار الحدث، أو تكرار الجمل، بل كانت محفّزة لتأمل القارىء واشتغال هواجسه ووضع الأسئلة والتبصّر في كنه مرام الروائية. هي الرواية الأولى التي أقرأها للدكتورة(عبير خالد يحيى) فوجدتها عارفةً بمسالك الرواية وحرفتها، وقادرة في جعل هذا النسيج هارموني من الجمال على حزنه وآلامه، لتؤسّس في ذات المتلقي أسئلةً يبحثُ عن إجاباتٍ لها، لأنها لم تكن حياتها أو (حيواتها) لوحدها، بل حياة كل امرأة عربية وشرقية.  


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سرد الاغتراب والبحث عن المعنى قراءة ذرائعية في رواية ( منروفيا ) للكاتب المصري أحمد فريد مرسي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

إشهار كتاب النزعة الصوفية والنزعة التأملية في شعر الأديب السوري منذر يحيى عيسى

أدب الرحلات المعاصرة: سفر في الجغرافيا والذات دراسة ذرائعية مستقطعة على كتاب (نيويورك في عيون زائرة عربية) للكاتبة اللبنانية هناء غمراوي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي