أهمية العتبة الروائية والتماهي الزمكاني بين الأصالة والحداثة في رواية (بين حياتين) للروائية السورية: عبير يحيي بقلم الأديبة الناقدة سمر الديك
لقد استوقفتني الرواية منذ بدء قراءتها بعنوانها
المؤثر القابل للتأويل
هل توجد حياة واحدة أم حياتين !؟
لقد حفّزت عنونة الرواية المتلقي على الإحاطة
بكل مكوناتها, فكان العنوان موجّه دلالي لقراءتها بتمعّن وشغف لنعرف أنّ الكاتبة عاشت
حياتين حقيقة, الأولى رسم خط سيرها الصديق الوهمي (عصام) هذا الكائن الأثيري الذي
رافقته بطلة الرواية (غالية) والتي تعكس شخصية الكاتبة:(عبير)منذ بدء مرحلة
الطفولة وعمرها خمس سنوات حتى الأنوثة والزواج.
والحياة الثانية عاشتها ومازالت عند تعرّفها على
الأستاذ الوقور المثقف الذي كان له الفضل في تميّزها الأدبي وتفوقها في الكتابة
والنقد بعد أنْ خرج هذا الكائن الأثيري من حياتها بندمه وموته في نهاية الرواية,
وبالتالي لفظت بل وانتصرت على(مصطفى) الزوج النرجسي الذي يعاني من مركب نقص ويتلذّذ
بعذابها ومعاناتها وقد انعكس ذلك على (غالية)الشخصية المركّبة والرئيسية في
الرواية فكل المؤشرات الواقعية تدلّ على أنّ غالية…د: عبير مع بعض التخيل وهذا
أمرٌ طبيعي في الرواية(السيرية) إن صح التعبير.
الكاتبة تثير قضايا اجتماعية وعلمية معرفية،
وسياسية في غاية الأهمية في المجتمع السوري تحديدًا فنراها تُسلط الضوء على معاناة
المرأة المثقّفة بشخصية الدكتورة غالية في مجتمع ذكوري يلفظ حقوق المرأة
وإنسانيتها وتوضّح أنّ الرجولة الحقيقية
* رفعة حين يكون صاحبها سندًا للأنوثة أمّا عندما يناصبها العداء
فتغدو مرضًا نفسيًّا، إفرازاته كوارث إنسانية ومجتمعية ويبدأ ازدواجًا بالشخصية*ص٢٠٤
بُنيت الرواية في معظمها على شخصية
أساسية(غالية) في صراعها النفسي الداخلي الحاد مع صديقها الوهمي عصام, مرورًا
بمرحلة التعرّف على(مصطفى),الذي أصبح زوجًا لها, ومعاناتها في الحياة معه ومع أمه
وأبيه, ومأساة عمّة مصطفى المحبوسة في زريبة الحيوان من قبل والدة مصطفى, وهو
يشارك في هذا الإجرام اللاإنساني دون أن يحرّك ساكنًا. ناهيك عن الأزمات النفسية التي
عانت منها (غالية) ولجوئها إلى الطب النفسي :
*مصطفى شخصية نرجسية لايمكن أن تتغير إلاّ نحو
الأسوء في البداية قبلتها غالية على أنها نوع من الأنانيّة لكنها كانت مُخطئة في تقديرها
والحقيقة أنها حالة متقدمة تخطّت النرجسيّة باتجاه حالة مركب نقص*ص١١٥
ومن خلال سرد الكاتبة لحياة غالية,رصدت لنا جيل
الآباء_ والد غالية ووالدتها التي أصيبت بمرض السرطان_ كما رصدت لنا حياة الأبناء
(غالية وزوجها النرجسي مصطفى, وأخوها عامر، وأختها سما) ووصلت إلى جيل
الأحفاد(سليم ابن سما، ونور ابنة غالية الوحيدة, وسامي زوج نور الذي يختلف كليًّا
عن مصطفى, لكن والده ووالدته يتفقان مع والد مصطفى ووالدته في النزعة الشريرة
المتوحشة اللاإنسانية, حيث قامت جدة سامي من أبيه بصبّ مادة حارقة على وجهها مما
دفع والدة سامي أثناء ولادتها به أن تلفظه وتبتره تمامًا من حياتها منذ أن رأى
الحياة).
لقد مهّدت الكاتبة للتحوّلات في الحدث باستخدام
قاموس الترقّب والتوجس، والتساؤل وغير المنتظر من الأحداث, فالبطلة (غالية) تعيش
منذ صغرها مع صديقها الوهمي(عصام) تخاطبه بعبارات ألم يعتصرها :
*أرجوك لاتذهب لاتتركني وحدي وكيف تفعل هذا
بي!؟افعل كل ماتريد لكن لاتذهب*
وهكذا يعيش القارئ الأحداث مع الشخصية الأساسية
في الرواية فيكتشفها ويكتشف ماضيها في عملية استرجاع ومحاسبة عبر تقنية السؤال, هل
تمكّن القارئ من التعاطف مع( غالية)والتي أرى فيها تناصًّا كبيرًا مع كاتبة
الرواية د:عبير لتكشف لنا أسرار كفاحها وصراعها مع الدنيا التي تهدّ جبلاً.؟
وتنقل الكاتبة أحداث طفولة بطلتها وكأنها تعيشها
هي بهذا التناص الكبير بينهما حتى تصل بالقارئ إلى ابنتها( نور) بتكرار حالتها, حيث
أصبحت تعيش مع (سوسو) صديقها الوهمي كما أمها(غالية),وتعلّق على سوسو صديقتها
الوهمية كل الأفعال التي توبخها والدتها غالية عليها معلّلة تصرفها بقولها:
*سوسو أمرتني أن أفعل ذلك ص ١١
قالت لي سوسو يُفترض أن تكون أُمّك بانتظارك لو
كانت تحبك وتشتاق إليك*ص٢٣
فالكاتبة د:عبير يحيى سورية الجنسية درست طب
الأسنان وهي على معرفة عالية بأمور الطب فنراها تُعالج في روايتها الصديق الوهمي
وكيفية التخلّص منه من خلال الشخصية الرئيسية غالية
*الصديق الوهمي أو الخيالي ظاهرة نفسية
واجتماعية تبرز فيها علاقة الصداقة في المخيلة بدلاً من وجودها في الواقع العلني
المادي الخارجي المرئي وتظهر في سن الطفولة وأحياناً سن المراهقة وتقل في سن
البلوغ* ص٢٠
ونراها تتغلب عليه بالعلم بمساعدة السارد العليم
الأستاذ الذي عاملها بالحب الإنساني الذي لايعرفه الكائن الأثيري عصام ولا مصطفى
زوجها الذي عانت منه الأمرين ولا والد سامي زوج ابنتها نور هؤلاء هم أشباه الرجال
حيث كانت نهاية الصديق الوهمي الموت بعد أن دار حوار بينه وبين الأستاذ السارد
العليم مُعلنًا هزيمته بقوله:
*الآن يمكنني أنْ أموتَ بسلام*
كما نرى الكاتبة تُعالج حالة الإكتئاب أو مايسمى
بالنوم القهري ،الإغماء والذهان الذي كانت تُعاني منه غالية:
*أسباب النوم القهري الوراثة وبعض الأمراض مثل
أمراض القلب والكبد وسوء التغذية وبعض أمراض الأعصاب وأسباب نفسية كالقلق والتوتر
والضغط النفسي ومشاكل في الغدّة الدرقية ونقص فيتامين Dص١٨٠
والكاتبة د:عبير بنت سوريا عايشت أحداث الحرب السورية فنرى
بطلتها( غالية وابنتها نور)تعيش
تلك الأحداث بعد تداعي وانهيار الوضع الأمني في حلب ودمشق وحمص تقول عنها:
*حرب بالنيابة صراع بين النظام والمعارضة والمعادل الموضوعي في
الحرب هم الأطفال والنساء والشباب في مقتبل العمر…قريبًا سيشعلون أوطانًا*ص١٢٢
وهذا ماصرّحتْ به غالية بالوقت الذي تحاول فيه( سما)أن تقنع
ابنها( سليم)بعدم الاحتفال بمناسبة رأس السنة حزناً على ماحلّ بأهل غزة ومخيم جنين
في العام ,2008وتصاعد الخوف من تهديدات أمريكية بضرب أهداف غير معلنة بالتعويل على
قضية استعمال السلاح الكيماوي في سورية, حيث رجعت في ذاكرتها إلى مأساة العراق
بدخول أمريكا البحث عن سلاح الدمار الشامل. وبدأ الخوف ينتاب(غالية) حيث مسقط
رأسها طرطوس وهي مدينة مستهدفة كونها مقرًّا للقاعدة البحرية الروسية وبالقرب منها
قاعدة(حميميم)الجوية العسكرية بالإضافة إلى أنها ميناء ومرفأ بحري هام جدًّا ومركز
دعم لوجستي وتموين للسفن التابعة للبحرية الروسيةص١٤٠
وترى غالية تتصدر في الكتابة والنقد حيث كتبت على مدونتها قصة
قصيرة (أبناء الحرب)التي لاقت استحسانًا من أستاذها وكتب عنها دراسة نقدية وكان
هذا الحدث بمثابة التيار الكهربائي الذي أيقظ الحياة في كيان محكوم بالموت منذ عقدين
من الزمن, لم تزده محاولات الإنقاذ السابقة إلّا ولوجًا في صندوق الموت, بل علوقًا
في عنق الزجاجة, لا موت يريح ولا حياة تعاش.
وهكذا, دخل هذا الأستاذ في حياة غالية وغدا أبٌّ يحنو وأخ يغار
ومعلم يثقف
*علّمني إنّ الحياة فن
والسعيد فيها فنان…*
وهذا ليس غريبًا على الروائية د:عبير يحيى التي تستهل بعضًا من
فصول روايتها بصور شعرية جميلة زاخرة بالبيان :
أيامنا المحروقة على صفيح ساخن ترقص (الزومبا) بأمر الألم…ص١٩٣
وهكذا اعتمدت الكاتبة على مسار روائي سردي من حيث البعد
الزماني والمكاني, وأدخلت القارئ بين الحداثة والأصالة, حيث نراها تأثرتْ بالنمط
الأسطوري القائم على الثنائية المطلقة ما بين الخير والشر، والحق والباطل، والموت
والحياة, ثم ظهور الرمز الحداثي شبكة الانترنت عندما تواصل الأستاذ الوقور مع
غالية مبديًا إعجابه بكتابتها لقصة أبناء الحروب. وقد سارت الكاتبة بالقارئ من حرب
الاستنزاف مرورًا بالحرب السورية, فجاءت الرواية من إحدى وعشرين فصلًا, عالجت في
معظم فصولها معاناة الشخصية الرئيسية (غالية),لقد ظهرت لنا قدرة الكاتبة على وصف
الشخصيات بشكل دقيق والظروف التي كانت تتحكم بمصائرهم وأقدارهم كما استعانت بعنصر
الشخصيات كعنصر ومكون سردي تسير وفقه أحداث الرواية وهي بمثابة الدليل له وجهان
أحدهما دال والآخر مدلول بأسلوب عجائبي لتعبر عن غرضها في تلك الرواية كما جاء
أسلوب الرواية ليمثل رشاقة السرد بجمله المسترسلة في بعض الأحيان إضافة إلى الصور
المؤلمة والمدهشة وعنصر المفاجأة مع التوظيف النسبي لتيار الوعي والذي دخلنا من
خلاله إلى التفاعل المدهش مع شخوص تلك الرواية.
تعليقات
إرسال تعليق