قراءة الأديبة والناقدة السورية باسمة العوام في رواية (بين حياتين) للدكتورة عبير خالد يحيي
قراءتي في رواية " بين حياتين " للكاتبة والطبيبة السورية " "عبير خالد يحيى"...
والتي أتت في 224 صفحة باسمة العوام ....
=====================================
"بين حياتين " ، كلمتان تصوّران عالم البشر
، عالم الآباء والأبناء . سلاسل تمتد بين جيلين ، بين ذاكرتين أو تاريخين، بين
ثقافتين أو تركيبتين ، بين واقع أو خيال ، بين رجل وامرأة ، بين حياةٍ بعد الموت
وموتٍ على قيد الحياة ، بين مذكرات على ورق وعناوين تحلق في الفضاء ، وبالنهاية
بين صعود للجبال أو سقوط بين الحفر .
"بين حياتين " والبداية بتوقيع الكاتبة نفسها "
عبير خالد يحيى " والإهداء :
" إلى من علّمني فنّ الحياة " .
إهداء يشير إلى حياتين : حياة الكاتبة، والذي
علّمها كيف تحيا . ☆ تليه مقدمة بعنوان " طفولة لا تشيخ "
مذيّلة بتوقيع أ. " عبد الرزاق عودة الغالبي " . والتي تشير إلى الأستاذ
المعلّم أو القرين الذي وصل بالبطلة إلى برّ الأمان وبداية حياتها الجديدة.
☆ ثمّ تأخذنا الكاتبة معها في قطار الحياة ،
نتجوّل بين محطاته، بين ماضٍ وحاضر ؛ بين إحدى وعشرين محطة( أو فصلًا ) ، معنونة
كالآتي:
الصديق الخيالي // رسائل الماضي // تداعيات
الوداع // خريف ساخن // الهروب // أيام عذرية // القفص الحديدي // زينة الحياة
الدنيا // قصمة الظهر // سقوط إلى القاع// على طاولة القمار//حرب بالنيابة//
جنّتي// هواجس //منبوذ// زوبعة// المراوغة// على حافة منعطف// الرجولة //بعث جديد
//عودة الصديق الخيالي//.......النهاية .
__ وفي المحطة الأولى نتعرف على غالية ( البطلة
المتحدثة بلسان الكاتبة ) وأمها وابنتها " نور"، و قرينتها "سوسو" التي تعيدنا بها الكاتبة إلى ماضيها لتقدم صديق
غالية الخيالي أو ما سُمّيَ بالقرين، صديقها "عصام
" ، فنقرأ
☆☆ص11_12....غالية: "..كنت أخبر أمي أن (نور) تتحدث مع شخصية
خيالية ، تعلّق عليها كلّ الأفعال التي أوبخها عليها، معلّلة تصرفها بقولها
:_"سوسو أمرتني أن أفعل ذلك!".
_" أمي مازلتِ تحتفظين بهذا الدفتر ؟ يا الله!
أعدتني إلى أيام طفولتي، لو ترين دفاتر نور !".
ص16_17...." ما أن خرجت حتى سارعت غالية
إلى إكمال نقاشها مع ( عصام ) شبحها المفترض ....!
"ألصقت أذني بالباب، سمعتها تقول :- "عصام
أرجوك لاتتركني و لماذا تتركني؟ ماذا فعلت لك ؟ ....".
" كنت معي منذ وعيت على الدنيا، منذ أكثر من ثلاث
سنوات أليس كذلك؟"-
=== تتالى المحطات، تارة تحط بنا في الحاضر ، وتارة
تعيدنا للخلف نحو ماض محفورٍ في الذاكرة . عناوين مميزة وذات دلالات عميقة توحي
للقارئ بما هو قادم ؛ اختارتها الكاتبة ضمن زمكانية واقعية ممزوجة بالخيال لتسرد
لنا وقائع حيوات عاشتها هي والشخصيات المحيطة بها ،من خلال ثلاثة أجيال متعاقبة
عايشت أحداثاً على أرض سورية منذ حرب الاستنزاف عام 1967،إلى حرب تشرين التحريرية
عام1973، إلى مآسي الربيع العربي عام 2011 ، التي طالت معظم أرجاء الوطن العربي .
_ ثلاثة أجيال هي جيل الآباء ( والديّ غالية ، الجدة
، أم مصطفى، وعمّته ، والد سامي " الدكتور الذي تسبب بحرق زوجته وتخليها عن
ابنها) ثم الأبناء ( غالية " البطلة" ، وأخوتها عامر ،سما ، ومصطفى زوج
غالية ).. ثم الأحفاد ( نور ، سامي ، سليم ) .
يبدأ السرد من الماضي مع غالية و طفولتها
ومذكرات والدتها . وبمزيد من الإدهاش والتشويق تشدنا الكاتبة للغوص أكثر في تفاصيل
الأحداث وتتعالى الأصوات الساردة على إيقاع سردٍ يتسارع تارة ويتباطأ مرات من
الفصل السابع إلى التاسع . وصف غارق في التفاصيل ، حوارات متعددة في جمل قصيرة أو
طويلة ، تقارير وشروحات علمية وفنية وتاريخية امتزجت لتقدم سيرة أجيال في ربوع وطن
؛ من خلال سيرة غالية بين طفلة ، شابة ، طبيبة ، زوجة مقهورة في قفص حديدي ، ثم أم
تتشابه طفولة ابنتها (نور ) مع طفولتها ، إلى امرأة تتحرر من قيودها وسيطرة الرجل
لتخرج إلى الحياة من جديد بفضل أستاذها، ذاك الناقد الذي التقته عبر الفضاء
الإلكتروني والذي جعلها تنسى الحبوب المهدئة وتتمرد على واقعها ومرضها النفسي،
لتصبح كاتبة وأديبة وتنطلق بأجنحة الحرية والإرادة نحو فجر جديد .
__ لم تقتصر الكاتبة في سردها على تلك الحوارات
والتقارير أو الشروحات والنصوص القصيرة ، بل مزجتها أيضاً بنصوص شعرية وجدانية ،
ونثر ، وبنصّ قصصيّ ورد في الفصل الثامن عشر تحت عنوان " على حافة منعطف
" ؛ والذي مثّل نقطة تحول حياة " غالية " من مرحلة الخنوع والقهر
وتعاطي العقاقير إلى تعاطي الأدب والخروج إلى فضاء الحياة . فنقرأ مثلا :
☆☆ص20.. "والبحث بسيط على محرك البحث( غوغل) عثرت على نظريات
عديدة و أبحاث كثيرة تناولت هذا الموضوع، لخصت أهمها وحفظته عندي بملف أعود إليه
مضطرة بين الفينة والأخرى.......".
☆☆ص32..." ثارت تساؤلات بين الأم و الأب و الجدة، وارتاح الجميع
، وركن ذلك التساؤل عندما رجحت الأم أن السبب يتجه نحو دخول غالية المدرسة
الابتدائية، واختلاف الأجواء عليها
......".
☆☆ص43..." وحلّ المنتظر.. و بدأ اليوم بدويّ صفارات الإنذار في
العاشر من رمضان ، السادس من تشرين الأول عام 1973،ظن الناس - في بداية الأمر- أن
ذلك إجراء تجريبي، لكن الصوت استمر منبئا ببداية الحرب.....".
☆☆ص49.." نعم ، إن للأسير في الدين والقانون حقوقا لا ينبغي
التعدي عليها، .....".
☆☆ص73.." ( أيام عذرية ) نص رمزي رغم واقعيتة ، آهة أخرى من
آهات الفقد عند غالية، فقد الجدة ، افتقاد الأصالة في زمن الزيف ......".
☆☆ص118..." لم تكن غالية بين أقرانها ضعيفة أو مستكينة، بل كانت
تتمتع بشخصية قوية لها وزنها و كيانها ورأيها الذي يُعتد به .....".
☆☆ص121.." ( أمي .. بربك أخبريني..
من أعلمكِ أن الأسود سيحتلّنا، وأن الغصة ستسرطن
حناجرنا؟!)".
☆☆ص129.." دارت رحى الأيام طاحنة من أعمار أبطال الحكاية ثلاثة
أعوام، مضيفة إلى ثلاثي مصطفى و غالية و نور أفعى التفت على عنق مصطفى......".
☆☆ص137-138.." لا أذكر من الخريف إلا بشارة وقعت على نافذة عمري!
وهبتني هدية ترقئ الجرح الآتي من مجاهل الغيب...
مباركةٌ أنا في أرض الصبر..!
وشهيّة ثماري محلّاة بالحمد والشكر..!
بهية زينتي..
قوّتي ..
كفاف عمري ...".
☆☆ص169.." مأسورون عند سجون المتعبين..
تتكسر حيواتنا بين أعراض و أمراض
محظوظون إذما تخطّونا..
تنجو خيالاتنا من شره سطوتهم....".
☆☆ص194.." إشعار لمع على أيقونة الرسائل على الخاص، مع رنين قطع
عليّ موتي، وأنا أعيش في قبري الذي أدخله بإرادتي أو بالغصب عني، لا أدري......".
إلى النهاية ....
☆☆ص214-215.." عليّ أن أؤمن بنفسي، أمانة الله عندي، و عليها
سيحاسبني الله، ومضيت معه أتعلم الحياة ...
-" طيري.
حلّقي عاليا..
حمامة بيضاء
وانثري الأدب قصائد حب فوق غبار المتحاربين
ستجتمع الحروف في رأس قلمك
غيمةً من معارف تسوقها ريح طيبة إلى بلاد
المسلمين
تمطرهم سكينة و أمنا
طيري فوق رؤوس الأطفال..
أسمعيهم قصص الحلم و الفرح
فوق رؤوس الثكالى والأرامل والأيتام..
ازرعي أرض حزنهم وردا..
يدركون بعدها أن الحياة تستمر
يملؤهم الرضا والسلام
ارفعي صوتك في وجه الطغاة..
وذكّريهم..هل بقي أثر لسابقيهم؟!
وعودي...
فأنا هناك على عرفات المعرفة..
أنتظر ".
·
خاتمة ..
·
__ قد تندرج هذه الرواية (بين حياتين ) تحت
مسمّيين: ما يسمى" الحب والحرب" أو " السيرة الذاتية " لأنها
تحمل ملامح السيرة الذاتية للكاتبة متضمنة أحداث تاريخية وحكاية وطن . وهذا
ماشهدناه من خلال الفضاء الزمكاني للنص واللوحة التي رسمت بيئة الساحل السوري
وقراه، وبعض الظواهر الاجتماعية للمجتمع السوري عامة في ظل حروب متتالية
وتأثيراتها ومآسيها المروعة خاصة فيما سميت ثورات الربيع العربي .
·
وبكل براعة الأديبة المثقفة والمرأة المتعلمة،
استطاعت الكاتبة وعلى لسان الشخصية الرئيسية في الرواية (غالية) ، استخدام كل
مهارات السرد الخاصة : ( كالقصة، القصائد النثرية أو الخواطر التي وضعتها بداية
بعض الفصول وميّزتها باللون الغامق، أو النصوص الشعرية وسرد الذكريات ) والتقليدية
منها مثل : ( الحوار ، الوصف ، الشرح والتقرير ، وغيرها ) للكشف عن تفاصيل الأحداث
وحياة غالية الضائعة بين حياتين ،( زواجها من مصطفى ومرضها النفسي ) ،واللتين تجلت
فيهما السيطرة الذكورية بجانبيها السلبي والإيجابي عليها ؛ كانت أوّلها في طفولتها
مع القرين الذي رافقها " عصام" ، ثم مع الأستاذ الذي أخرجها إلى النور
وأنقذها من موت على قيد الحياة . ولم تكن غالية الراوية الوحيدة لسيرة حياتها
وصراعاتها وأحاسيسها ، بل اشتركت معها معظم شخصيات الرواية عبر مستويات متعددة ،
مما جعل النهاية مفتوحة لتأويلات ووجهات نظر مختلفة وتركت للقارئ فضاء واسعا
للتحليق برؤاه.
تعليقات
إرسال تعليق