ابنة الغريبة
الحلم الذي داعب رؤوس معظم الشباب في ثمانينات القرن الماضي،
كان قد عصف برأسه أيضًا، وعلى اعتبار أنه مدلّل والديه وآخر العنقود، طلباته أوامر
لا تُرد، كان تحقيق رغباته أمرًا واجبًا لا يقبل المنع، يريد السفر إلى بلد
أوروبي ...
كانت الرغبة بطلب العلم هي الحجة التي تضفي على فكرة الاغتراب
صفة النبالة، لذلك اجتمعت كل المقومات
الداعمة :
- المال
- الرغبة
- الحجة
فكان الاغتراب قرارًا وُضِع موضع التنفيذ.
وهناك حطّ الرحال ... لندن مدينة الضباب الذي يبتلع كل المعالم،
وتنصهر فيها كل العروق في بوتقة يخرج الإنسان منها مطبوعًا بطابعها الذي يجمع
المتناقضات جميعها، الحداثة والعراقة، البرود والرهافة، النظام والفوضى، في تمازج
عجيب ..! .
كان شابًا وسيمًا قمحيّ البشرة، بعينين سوداوين واسعتين، وكأن
اتساعهما جاء نتيجة لمقتضى حاجة نابعة من ذاته التي اجتمعت فيها الرغبة في حيازة
كل نِعم الدنيا، روح مليئة بالآمال حدّ
الجموح، غمازتان على جانبي ثغره تضفيان على تكوين وجهه مسحة ساحرة يصعب على أي
فتاة أوروبية مقاومتها، قوام متناسق، وهندام أنيق و ... أهلًا بحياة الشباب..
كان مطمع العديد من الفتيات، لكن واحدة فقط فازت به أخيرًا
وأدخلته القفص الذهبي، صبية جميلة من أصول إيرلندية، اكتسى وجهَها بياضٌ ثلجي
مشرّب بحمرة نبيذية، سطع فيه وهج زمرّدتين امتلأتا حبًّا وغرامًا بذلك الساحر الأسمر، وعلى كتفيها وعنقها المرمري
انسدل شعرها الذهبي وشاحًا, أمّا قوامها
فقد رتّبه خالق الكون فأبدع ...
يوم أخبر أهله بموضوع زواجه منها، أقاموا الدنيا
وما أقعدوها حتى أرسل لهم صورتها، التفت والده إلى والدته:" معه
حق، كيف له أن يقاوم سحرها ؟"، يقول
ذلك وهو يغمز لبناته مستفزًا الوالدة التي تأخذها
العزة والحمية :" ابني يفوقها سحرًا وجمالًا".
يوم أثمر اقترانهما كانت الثمرة مزيجًا رائعاً بين شرق وغرب،
طفلة كأنها بيضاء الثلج التي أتى ذكرها في قصص الأطفال، تطاير شعرها ليلًا فوق
جبينها القمري، وقد هاج البحر أزرقًا في عينيها، وتورّدت
الوجنتان بأزاهير الربيع، كانت الغمازتان
العلامة الدامغة التي وسمتها بها الجينات الوراثية مع والدها .. الصور
الفوتوغرافية التي تُلتقط للطفلة وتُرسل عبر الظرف البريدي الذي يصل الأهل
مُتْخَـــمًا بضحكاتها وحركاتها ودلعها وغنجها، تتناقلها الأيدي خطفًا وشوقًا
وفضولًا، ينظرون إلى دمهم يجري في عروق صغيرة لم يلمسوها.
تعلن الأم العصيان بعد أن هاج فيها الحنين والشوق
إلى ابنها وحفيدتها، تطالب ابنها بالعودة، أو أقلها ليأتِ بزيارة تراه فيها وترى
ابنته وزوجته، وحار بينها وبين زوجته التي كان يقلقها ما يحدث في بلاده من
اضطرابات أمنية, حيث تتوارد أخبار احتمال حدوث تفجيرات، إضافة إلى التوقيفات
والاحتجازات التي تقوم بها الأجهزة الأمنية بحق المغتربين القادمين خوفًا من
احتمال أن يكونوامن ضمن مجموعات إرهابية تعمل على زعزعة أمن البلاد واستقرارها .. كان
الحل الوسط أن يأتي بمفرده، ثم تلحق به زوجته مع الطفلة بعد الاطمئنان إلى سلامة
الوضع والأحوال ... تم ترتيب كل شيء، ووُضِعت
الخطط البديلة لكل طارئ ... لكن في اليوم الذي وطئت به قدماه أرض الوطن بعد غياب
حوالي أربع سنوات عنه، حدثت سلسلة تفجيرات في حافلات نقل عامة في أرجاء مختلفة من
البلاد، راح ضحيتها الكثير من الناس, وخصوصًا طلاب الجامعات، الذين غادروا المدن
الكبيرة, حيث جامعاتهم, لقضاء عطلة طويلة
نسبيًّا عند أهاليهم في القرى والمدن الأخرى، ونقلت وسائل الإعلام مشاهد مروعة عن
تلك التفجيرات، نفّذتها جهات تخريبية قصدت نشر الفوضى والذعر في البلاد ردًّا على
إجراءات اتخذتها الحكومة ضدّهم قبل سنوات قليلة خلت، على غير العادة طبعًا، حيث
كان التعتيم هو السمة المميزة لمعظم أنظمة الإعلام العربي .. ونتيجة
الاستنفار الأمني الشديد تمّ اعتقال بطلنا ضمن مجموعة كبيرة من الشباب, جميعهم تمّ
اقتيادهم من أرض المطار فورًا إلى فروع التحقيق الأمنية، إلى أن ثبتت براءته من كل
ما يمكن أن يكون له صلة بأي شيء مريب ... عندما
غادر هذه الدور العجيبة ووصل دار أهله ارتمى بحضن أمه يبكي بكاء الطفل اليتيم ... كان
الشوق قد عصف بكل جوارحه وأكله الحنين إلى ابنته الصغيرة ... مضى
على تقبيله تراب الوطن حوالي خمسة أشهر، حاول الاتصال بزوجته مرارًا وتكرارًا لكن
ما من مجيب ...! ، اتصل بأهلها وبمعظم
من يعرف من أقربائها، أيضًا الجواب هو رنات طويييييلة ولا رد... خطر
بباله أن يتواصل مع جيرانه بالحي الذي كان يسكن فيه ويسألهم عن زوجته وطفلته،
أجابه أحدهم أنه رآها تغادر البيت مع الطفلة إلى مكان لم تشأ الإفصاح عنه، وأنها
كانت في حالة مزرية من الخوف والحزن، وقد ظنت بداية أنه مات إلى أن تلقّت من أهله
هاتفًا يطمئنوها فيه عنه, ودعوها إلى القدوم لكنها كانت في حالة ذعر شديد وغادرت
دون أن تُعلِم أحدًا بوجهتها .
عندما همّ بمغادرة بلاده إلى بلادها للبحث عنها وعن
الطفلة، تفاجأ بمنعه من السفر وأن عليه خدمة عسكرية إلزامية كان قد قام سابقًا
بدفع بدلها، لكن يبدو أن الوسيط الذي وكّله بأمر دفع البدل كان قد أخذ النقود
غنيمة كما فعل مع العديد ممن كانوا في نفس ظروفه مستغلًا أنهم لن يقدموا إلى البلد
إلّا بعد زمن طويل لذلك كان لزامًا عليه أن يبقى في البلد لأكثر من عامين، وقد هدّ
الشوق أوصاله، وقوّض دعائم ذاته، يحاول أن يواكب ما يمكن أن يعتري وجه وقوام طفلته
من تغيرات بفعل الزمن، اشترى لها الكثير من الفساتين والأحذية، مجريًا الكثير من
الحسابات والقياسات الدقيقة لما يمكن أن يتغيّر في طولها ونمرة قدمها, مع مرور
الأيام والأشهر والسنين، سنتان ونيّف
مرّتا وقلبه وفكره لم يغفلا عن ذكرها وذكر أمّها
لحظة ... ثم كان قرار المغادرة للبحث عنهما أمرًا حتميًّا لا مناصّ منه... جاب
معظم أرجاء القارة الباردة باحثًا - دون طائل – عن سراب ... وكأن
الريح أخذتهما بعيدًا بعيدًا في فضاءات لا يمكنه الوصول إليها، أماكن محظورة عليه
وحده دون سواه، يصله فقط صدى صوت طفلته تناديه، وتمدّ إليه يدها مستنجدة, وأمها
تجرّها من يدها الثانية بعيدًا عنه خائفة، يركض محاولًا اللحاق بهما، لكن التيه
يغور به عميقًا ولا يبقى إلا صرخات عجزٍ ولهفة يصحو عليها من كابوسه اليومي .
مرت الأيام والسنون ثقيلة، واستمرّت الحياة، تزوّج
وأنجب العديد من الأولاد, كبروا وكبر، وبقي يراها في وجوه كلّ أطفاله، عندما ينادي
أحدهم لابد أن يناديها أولًا، كان الأطفال في البداية يشعرون بالغيرة منها، ثمّ, مع
الأيام أحبّوا ذكرها وعايشوها وكأنّها معهم ...
هاجمه المرض
.. أغمض عينيه مبتسمًا لِ (طَيف ) ...
تعليقات
إرسال تعليق