أيام عذرية
2
اليوم, وعلى غير العادة قررت أن أكتب عن الجانب
المشرق من حياتي، بعد أن تتالت علي الملاحظات بأن معظم قصصي حزينة، كان تبريري
أنني أعمل على إفراغ الذاكرة التي احتفظت بالآلام والخيبات, ومن بعدها ألتفت إلى الذاكرة
العامرة بالفرح والمسرّات، أغرف من لذّاتها الكثير من الصور والمواقف والعبر ...
وكما تقفز رؤوس المشاركين في دردشات وسائل التواصل
الاجتماعي، قفز وجه جدتي أمامي، عجوز في عقدها الثامن، تنظر إليّ عاتبة لِمَ لم
أقص قصصي معها إلى الآن ؟!
والآن سأحكي
عنها الكثير ...
علاقتي مع جدتي كانت ذات طابع خاص جدًّا، تميّزت عن
أي علاقة طبيعية بين جدّة وحفيدة! هذه المرأة
(القوية الحقّانية )كما كانوا يلقّبونها، كانت يدُها أول يد أمسكتني وسارت بي في
دروب الحياة، جعلتني رفيقة مسارها منذ صغري، هي من اختارت لي اسمي، عندما ذهبت إلى
الروضة اكتشفت أن لي إسمَين، الأول الذي ينادونني به, وهو الاسم الذي اختارته هي
لي عندما وُلِدَتُ، كان أبي وقتها غائبًا في سفر طويل, عاد منه بعد حوالي ثلاثة أشهر
من قدومي إلى الحياة، عندما سجّلني في دائرة الأحوال الشخصية, عرّفني باسم آخر, هو
الذي يطلقونه علي في المدرسة، اسم لم أعتد سماعه، عندما كانت المعلمة تنطقه لم أكن
أرد أو أرتكس فظنّتْ أنني صمّاء .
طلبت وليّ أمري، وعندها فطن أبي إلى الأمر، وأخبرني
باسمي الرسمي, ولكنه ظل يناديني بالإسم الذي سمّتني به جدّتي ...!
جدّتي تلك كانت قوية الشكيمة، ربما الحياة التي
عاركتها جعلتها هكذا، في قوة وصرامة وعزيمة الرجال، جدّي الذي لا أعرفه كان (ريّس)
على باخرة شراعية، تجوب البحار في سفر قد يستغرق سنوات، وبالنظر لغيابه الطويل لم
تنجب منه جدّتي غير أمي وخالي، يتركها بأمان الله ويغيب، ولكن المال كان ينفذ, وما
من سبيل إلى إيصال مال آخر فالغياب سنوات، والأطفال بحاجة، فبدأت جدتي بتجارة
صغيرة، كانت تأتي بالقماش من المدينة الساحلية الأخرى وتبيعها في البيت، تأتيها
نساء الحي ويشترين منها القماش، ثم كبرت تجارتها، حتى شملت بضاعتها كل ما يتعلق
بالخياطة ولوازمها، لا أنسى مطلقًا منظر خزانة العرض خاصّتها، قطع القماش مرتبة
بطريقة أنيقة جدًّا .
كان لديها مقياس حديدي على شكل مسطرة طويلة يسمى (الذراع)
كانت تمتّر به القماش، وتخفيه عني لأنني كنتُ أستلُّه كسيف أهاجم به أخوتي ... أكبر
متعة عندي كانت الغوص في خبايا تلك الخزانة ونبش ما بها وإخراج كنوزها، من قطع خرز
وإكسسوارات، أزرار ، وووو ... وكأنها قبعة حاوي .. كانت
تأخذني معها في أسفارها، هناك رحلتان، رحلة في الشتاء في العطلة الإنتصافية إلى
مدينة اللاذقية حيث سوق البضائع والتجار الذين كانت تتعامل معهم، تستغرق الرحلة
حوالي أسبوعين نقيم فيها عند صاحبات لها يعتبن عليها لأنها غابت عنهنّ طويلًا، ويتنافسن
على الحظيّ بمبيتنا عندهن، تعرّفتُ خلال تلك
السفرات على الكثير من الأصدقاء والصديقات, وكانت لي معهم علاقات وطيدة، ما أن
يروني حتى يتراكضون, ويبدأ العناق وعبارات الاشتياق، (وكبرتِ وكبرتم ... صرتِ
أجمل، صرتم أجمل) وههههههه ضحكات وقهقهات .
أما في الصيف فكان الموعد مع البحر الواسع في
الجزيرة، الوطن الأم الأصل، أصلنا نحن أحفاد الفينيقيين، جزيرة أرواد العتيدة، حيث
الصحبة صحبة بحر وسباحة وصيد فاشل غالبًا، ينهرنا الصيادون لأننا نحدث جلبة تخيف
الأسماك فتهرب، وتراشق بالماء, وقصص خرافية عن جنيات يخرجن من البحر ويجتمعن في
القلعة الأثرية، فلا نمرّ من أمامها ليلًا أبدًا
... وشقاوة لا تفريق فيها بين ولد أو بنت، كلنا نتراكض
على صخور الجزيرة وفي أزقتها الضيقة حيث لا خطر من سيارة أو أي وسيلة نقل آلية، لا
خطر إلا خطر الغرق، وكنّا سباحين مَهَرة .
نقضي هناك أكثر من شهر، أتنقّل معها من بيت إلى
آخر، يحتفي بنا الجميع، والسعيد من أقمنا عنده أكثر من ثلاثة أيام، تبيع بضاعتها،
ونعود إلى البيت لنتحضّر لرحلة الضيعة القريبة أيضًا، هناك لا صحبة مميزة, لكن
أراضٍ وحقول واسعة تدعوني للتأمّل والكتابة والمطالعة، كنت أحضِر معي الكثير من
القصص وأنقضّ عليها التهامًا ...
كانت البقرات من أكثر الحيوانات مشاهدة في هذه
القرية، أشاهد ولادتها وحلبها ووضع حليبها فيما يشبه كيسًا من الجلد يُعلّق بحبل
يتدلّى من السقف كأرجوحة الطفل، تقوم الفلّاحة برجّه باستمرار، ليصير الحليب فيه
زبدة ..! .
تبادل جدتي بضاعتها من القماش ولوازم الخياطة
بالسمن والبرغل والجبن والقريشة والعسل والقمح والحبوب اليابسة فاصولياء حُمُّص
فول عدس وبيض وووووو مونة البيت ... أحاديث النساء اللاتي كنّ يأتين لشراء البضاعة من
جدّتي في بيتنا كان يأسرني، ترمقني بطرف
عينها كي أغادر، لأنه لا ينبغي أن أسمع أحاديث الكبار التي كانت لا تخلو من
إلماحات هازرة، وأحيانًا خارجة عن حدود الأدب، والضّحكات الماجنة، لكني كنت أقف
مشدوهة، فتضطرّ لزجري وسط ضحكات تتعجّب من وقاحة هذا الجيل الجديد، كنت أخرج لأعود
متسلّلة متخفّية وأنا أتساءل : "من الوقح ؟ من
يستمع أم من يتكلم ؟".
كان بيتنا مقصدًا لكل النساء، جميعهن يستشرنها
بالعديد من الأمور، الغريب أنها كانت أميّة، لكن درايتها بمعظم الأمور كانت مثار
دهشتي كثيرًا، وكأنها مختار، وبيتنا هو دار المختار ..!، كانت تستعين بي أحيانًا لكتابة طلب أو تظلّم عند عدم موافقة
الجهات المختصة على سفرها إلى حج أو عمرة، قبل أن تتوفّى كانت قد حجّت بيت الله
حوالي تسع مرات، هذا بالإضافة إلى العمرات
الكثيرة التي تخلّلت ذلك، تعرف من القرآن كل الآيات الصغيرة التي تردّدها في الصلاة،
كنت أقف إلى جانبها وأقلّدها في الصلاة (مبسبسة )، كانت أمي تضحك من منظري...
أجمل
الأيام كانت أيام التحضير لاستقبالها بعد عودتها من الحج، تُنصّب أقواس الزينة عند
مدخل البيت وكأنها أقواس نصر، وقد غلّفها الريحان الأخضر أو ما يسمى ب( الدفلة)
ونزينه بالزينة الورقية الملوّنة التي نقضي ليالي بصنعها مع من يجتمع عندنا من
جيران ،لتأتي الأنوار مضيئةً لافتة من قماش خام أسمر مكتوب عليها : (أهلاً بمن حجّ
واعتمر وزار قبر سيد البشر ...الحاجة
فلانة بنت فلان) .
الكل ينتظر
هداياها القيمة التي تأتينا بها من البلد الحرام، خواتم وأساور وسلاسل وعقود
ومناظير فيها صور الحرم والحجيج، سجادات صلاة ووووو، كل أبناء الحي كانوا على ثقة
تامة من حصولهم على مخصّصاتهم من هداياها ..
نستقبلها استقبال العروس وهي فعلًا تأتينا بعباءة
بيضاء كالملاك, وجهها يضيء كالشمس، أنا أول من يركض إليها وأول من يعانقها، تهمس
في أذني : "اشتقت لك أكثر من أي أحد ".
يلفني الزهو فأغدو كطاووس فرد ذيله البهي، ومشى
بصلف يتبختر... كنت رفيقتها حتى في ارتياد الجوامع والمساجد، طفلة صغيرة تذهب مع
جدّتها إلى صلاة الجمعة وصلاة التراويح في رمضان، عرفت كل رواد الجامع، كانوا
يلقبونني بالحمامة البيضاء، أخدمهم, وآتيهم بالماء والمناديل الورقية، أوجِّه
المراوح الكهربائية إليهم, أو أقصيها عنهم .
في رمضان كنا نذهب إلى الجامع بعد الإفطار مباشرة ،
أذكر يوماً قررت فيه ألا أرافقها ، فقد أخبرني أخوتي أن هناك مسلسلًا مضحكًا يعرضه
التلفزيون في وقت صلاة التراويح، كانوا يتحدّثون عنه بتشويق كبير, مع أولاد
الجيران، كنت أتحرّق من أحاديثهم تلك، وقرّرت يومها أن أدّعي المرض لأشاهد المسلسل،
وكان ذلك، عندما عادت جدتي رأتني في أحسن حال، فقط رمقتني بنظرة جعلت الندم يقرض
ضميري كالجرذ، " سأل عنك الجميع "....
آليت على نفسي من بعدها ألا أفرّط في واجب ديني أمام لهوٍ دنيوي زائل .. أذكر
أني كنت أصوم شهر رمضان كاملًا من عمر سبع سنوات، وأصلي من قبل ذلك بكثير... كنت
أنام إلى جوارها، شغوفة بالقراءة حدّ الإدمان، كتاب الدراسة غالبًا في داخله قصّة،
وقت الاستحمام يستغرق ساعات إتمام القصة، ويأتي الليل وقد ارتفعت الوسادة حوالي (٧
سم) حيث تستقر بعض الكتب تنتظر الالتهام، على ضوء النور الخافت المنبعث من (نوّاسة)
صغيرة كنت أدّعي أني أحتاجها لأني أخاف من الظلام، كنت أقرأ بحرص كبير وحركة
معدومة حتى لا تشعر بي جدّتي وتؤنّبني على شغفي العجيب بالمطالعة، النتيجة أنني
احتجت إلى وضع نظارات لتصحيح البصر بعمر مبكّر .
حدث خلاف عائلي اضطررنا على أثره للانتقال إلى بيت
آخر، لم تكن جدتي معنا فيه، أحسست باليتم ..!، مُنعتُ من زيارتها ..كرهت عالم الكبار من وقتها، كيف أبعدوني
عنها ؟ أذكر أن أمي كانت تبكي كلّما أخبرتها أنني أشتاق جدّتي .. وأني
لا أنام, لأنني أفتقد رائحتها في سريري...
مضى وقت ... كنت مشاركة في مسيرة أقامتها المدارس احتفالًا بمناسبة وطنية، كنت
أمشي بالرتل، وفجأة زاحم أنفي عبقٌ أعرفه، عشتُ فيه، ظننته حلمًا كأحلام يقظتي،
هززت رأسي لأطرد تهيؤاتي، فالسرحان قد يعقبه تنبيه مسجّل من المدرّبة المشرفة أنا
في غنىً عنه بعد أن أخذوا عليّ وعلى والدي تعهّدًا بذلك، لكن عيني أبتْ إلّا أن
تنظر مصدرَ العبق ، ورأيتُها ...!
تمشي إلى جانبي وكأنها ترافقني! تركتُ كلّ حذري, ونسيت
عهودي وارتميتُ في حضنها أبكي ...وتشبعُني بالقبلات ...
تعليقات
إرسال تعليق