ديناميكية الزمن ودلالية الحدث في رواية ( ترنيمة إيزيس) للكاتبة رحاب عمر دراسة ذرائعية مستقطعة بقلم الناقدة د. عبير خالد يحيي
تنتمي
هذه الرواية المعنونة ب ( ترنيمة إيزيس) إلى أدب الميتاسرد، وهو نمط فني
حداثي تجريبي في الكتابة القصصية والروائية يعطي الحق للرواية أن تتحدث عن ذاتها
وتنشغل بتركيب بنيتها الفنية، يوظّف بها الكاتب التقنيات الميتاسردية المتعلقة
باللعبة السردية، وتنهض اللعبة السردية على قصدية الكتابة السردية، بحيث يبرز سارد
يوظف غالبًا ضمير المتكلم ليعلن صراحة عن نيّته كتابة نص سردي أو حكائي، أو يكشف
عن رغبته للعثور على مخطوطة أو مجموعة سجلات ووثائق ومدونات شفاهية أو مكتوبة،
بحيث يبدو السرد متماهيًا إلى حد كبير مع السرد الأوتوبيوغرافي – السير الذاتي-
· البؤرة الثابتة :
تجمع
الكاتبة رحاب عمر في هذه الرواية بين العديد من الثيم السردية، منها الثيمة
التاريخية، وثيمة الأحلام، وثيمة الفانتازيا والغرائبية، الميتافيزيقا، حيث تعرض
لموضوع المس وتناسخ الأرواح، والقرين، والجن العاشق، كما تعرض لفلسفة الموت
والروح، والعوالم الموازية والعوالم بين الحياة والموت، ثيمة فلسفية عن الحضور
والحياة، حضور الإنسان لا يشترط الحياة، ثيمة نفسية، ثيمة رومانسية، ثيمة الموت،
ثيمة الحرمان، ثيمة الحرب، ثيمة الخوف.
· الخلفية الأخلاقية :
تدين
الكاتبة في روايتها كل أشكال العنف والعدائية سيما الحرب العالمية الأولى التي
قامت بسبب :
"موقف فردي كمقتل ولي
عهد النمسا وزوجته على يد طالب صربي.... فسباق التسلح والتنافس الاستعماري كانت
أسباب قوية وراء الحرب التي تركت تسعة ملايين قتيل وملايين المشوهين وخسارة
اقتصادية عالمية فادحة".
والتي نتج عنها
:
"توزيع دول المشرق
العربي على فرنسا وبريطانيا، في كارثة عالمية كبرى. سطو متعمد مخطط له على كنوز
الشرق، تدمير إنساني سيذكره التاريخ، وتحتفظ به الإنسانية إلى الأبد".
كما تدين قسوة
البرجوازيين الذين تقمصوا قسوة الراسماليين واستخدموا:
"أصحاب الحقوق
كبعير، بعير يجر العربة وأخرون يلهثون للحاق بهم....."
تدين الفقر الذي
لم تنجح الثورة الصناعية بالقضاء عليه بين طبقاتها الاجتماعية :
"لو دققت
النظر أكثر يا صديقي، في هؤلاء المساكين الجالسين على أرصفة دولة صناعية عظمى،
لوجدت أنهم في الحقيقة منشغلون فقط بملء بطونهم الفارغة، وأظن أنها لن تملأ أبدًا".
· المستوى اللساني:
تكتب رحاب عمر
بأسلوب أدبي سلس ومتنوّع، وقد اعتمدت تجريب أساليب سردية متنوعة، استخدمت الأسلوب
الإخباري في سرد الأحداث، وفي الوصف الخارجي والداخلي تستخدم الأسلوب الأدبي
البلاغي، الثري ب تقنية اللغة المجازية Figurative language بأنواعها المختلفة من تشابيه واستعارات وكنايات ومجاز مرسل:
"كل شيء في
النزلة مختلف، تسير وحولك طاقة لا تعرف مصدرها، تشعر أن الأشجار العتيقة على جانبي
الطريق تتسامر، تسمع همس الريح وقهقهات السحب....".
في سرد
المخطوطات، نوّعت الكاتبة بين الأسلوب الواقعي الذي يركز على التفاصيل الدقيقة لدورثي
لويز، والأسلوب الرمزي أو التجريبي الذي يعيد صياغة الواقع بطريقة مبتكرة.
"عيناها
عسليتان كعيون الكثيرين، لكن حدقتيهما تسبح فيهما أقمار وشموس، حتى لكأن الرائي
يمكنه أن يرى فيهما أزمانًا متلاحقة، جبهتها بيضاء كأي ملامح أوروبية، لكنها تبدو
ممتدة إلى ما لا نهاية، شفتاها كرز، لكنه كرز مصنوع من الذعر، وجنتاها كورود
ذابلة، لكنها على أي حال حمراء، شعرها القصير ينام مرتعدًا متشبسًا برأسها الصغيرة".
وظفت الكاتبة
ثقافة طبية عرضت فيها لظواهر مرضية :
ذكرتها بلغتين :
" حادثة وعائية دماغية " vascuiar accident CVA”Cerebrov“
" نوبة
إفقارية عابرة" “Chemic attack TIA Transient is”
كذلك ذكرت مصطلحات طبية مثل : الذاكرة الوراثية،
موت منقوص
وظفت ثقافة
محلية باللهجة المتداولة وضعتها بين قوسين للتدليل على غرابتها ومحليتها، مثل : (
طشت)،
( الرغي)، (
مخضوضة).
ثقافة الحضارية
المصرية القديمة : سيتي -أبيدوس- الأوزيرون:
"رأيت سيتي
وهو يتأبط ذراعي ويطلب مني أن أتطهرفي الوزيرون؛ فوافقت على العرض وجئت أبيدوس.."
النترو( الكائنات الإلهية رع وآمين وبتاح وخنوم
ونوت وغيرهم)
"في مصر
الدعاء مقبول لأن سماءها يسبحُ فيها النترو، هنا قداسة التاريخ وقوة الإيمان".
لغة مزدوجة الدلالة تعكس أفكارًا متعددة حول
النص نفسه، مثلًا:
استخدمت الكاتبة
تقنيتَين أسلوبيّتَين هما السخرية Irony والتورية، إزاء وضع سردي كان فيه (سعيد)
خائفًا بقائه في بيت نزلة السمان المسكون بالعفاريت:
"في النهار
التالي رجع سعيد إلى قريته، متحجّجًا أنه لا يستطيع العيش بعيدًا عن فطير أمه، حتى
لو أنه سيضحي ويتزوج من ابنه خاله زينات".
ما أضفى على النص
الدعابة والغموض والإثارة والتشويق.
كما وظّفت تقنية
الجناس والطباق والترادف وتقنية المفارقة الأدبية Paradox وتقنية اللغة المجازيةFigurative language في تشكيل هذه الصورة المشهدية:
-لا خلاف
ولا اختلاف بين امرأة تلبس ( الشورت) و( التيشيرت) عاري الذراعين، وأخرى
تشدّ ملاءة على جسدها فتظهر تقاسيمها البضّة. ولا فرق بين شعر أصفر قصير وآخر مخبئ
تحت قطعة قماش ملونة لا تكاد تخفي إلا بعضه، والبعض الآخر ينسدل انسدال
الظلمة على نهايات النور، ليكمل فراغات الخيال بجودة عالية.
-بقي أخي صريعًا
في بئر قلبي المكتظّ بالوجع، يطفو حينًا ويغور حينًا.
-أفكّر كثيرًا
في كوني صنعتُ فرقًا فارقًا في حياة يونس ومروان، أغفلت قدرًا
واختلقتُ آخر!
- لقد كانوا
يقتاتون من حلمي وأملي، ويرغمونني على الصمت والوحدة.
نلاحظ توظيف
تقنية التوازي Parallelism:
استخدام لغة
أو هياكل أو أحداث أو أفكار متشابهة أو متطابقة في أجزاء مختلفة من نص، وما هو التوازي؟ التوازي، أوالمعروف أيضًا بالبنية
المتوازية، هو عندما تكون العبارات في الجملة لها نفس البنية النحوية أو
المتشابهة، مع الاختلاف بكلمة واحدة في كل عبارة عن أخرى، وفي أبسط استخداماته،
يوفّر التوازي عبارة تتّسم بالتوازن والوضوح، ويعمل التوازي أيضًا على إعطاء
العبارات نمطًا وإيقاعًا راقيًا:
التارك متخلٍّ،
والمتخلّي زاهد، والزاهد في الشيء لم يدرك قيمته ولم يتصل به.
الراحل يبرّر،
والمبرّر أعمل عقله، والعاشق عقله في قلبه...
· المستوى المتحرك:
تبدأ الكاتبة لعبتها الميتاسردية ابتداء من
العنوان ( ترنيمة إيزيس) الذي يأخذنا باتجاه النص الأدبي الديني الميثولوجي
التاريخي القديم، الذي يشكّل المتن الروائي (الميتا).
وترنيمة إيزيس
هي نص شعري ديني قديم يعود إلى الحضارة المصرية القديمة، ويعتقد أنها جزء من
النصوص التي كانت تستخدم في الطقوس الدينية المخصصة لعبادة الإلهة إيزيس، وإيزيس
هي واحدة من أهم الإلهات في الميثولوجيا المصرية القديمة، وكانت تعتبر إلهة
الأمومة، السحرن الشفاء، والطبيعة، والترنيمة تمجد إيزيس باعتبارها مصدر الحياة
والحماية، وتبرز دورها في إعادة إحياء زوجها أوزوريس بعد مقتله على يد شقيقه ست، وهو
الحدث المحوري في الأسطورة الأوزيرية.
ثم تأتي عناوين
الفصول : الفصل الأول ( في المنتصف) تعرض فيه الكاتبة لسيرة ( يونس القاضي)، الفصل الثاني ( المخطوطة الأولى- دورثي
الصغيرة)، تعرض لسيرة دورثي لويز وهي
صغيرة، الفصل الثالث (المخطوطة الثانية – بنترشيت) تعرض لسيرة الكاهنة بنترشيت
التي عاصرت الأسرة الفرعونية التاسعة عشر، الفصل الرابع ( المخطوطة الثالثة –
دورثي الكبيرة) تسرد سيرة دورثي بعد أن كبرت، الفصل الخامس (المخطوطة الأخيرة- أبيدوس) شارك في كتابتها
المرافقون لأم سيتي في أبيدوس 1981 وقام بتحريرها يونس القاضي.
( يونس القاضي)أو
( مروان القاضي)، الصحفي بجريدة الوثائق الكبرى بالجيزة، الذي يسكن في شقة قديمة
بنزلة السمان، والمسكون بكائنات غير مرئية لأكثر من عشر سنوات من بعد وفاة أخيه
التوأم ( مروان القاضي)، الذي كان متفوقًا عليه في دراسته، والذي بسببه يتلقى
التعنيف الشديد من أبيه، فعندما وقع ميتًا على الدرج، ظن الناس أن يونس هو من مات
منتحرًا إثر ضرب أبيه له، وهكذا تحوّل من يونس إلى مروان، منذ ذلك اليوم، ولمدة
عشر سنوات، أصبح مطية لزوار الليل من المخلوقات الأثيرية الذين تعاملوا معه
بالقسوة والعطف، تقودهم كاهنة تشبه الكائنات اللاتي رسمن على جدران المعابد
القديمة:
"تفاصيل
الحادث لم تبرح عقلي، ولكني بتُّ أفكّر بصورة أكبر، بعد اجتياحي مع خلق غير مرئي،
هل هم مرسلون من عالم أخي، أم أنها لعنة النزلة ؟ ... في البداية كانوا لا يتحدثون
إليَّ، ومع مرور الوقت عقدوا معي علاقات تتفاوت بين القسوة والعطف، علمت أنهم خلق
آخر سكنوا البيت قبلي، هم لم يعلنوا صراحة عن أنفسهم ، وأنا لم أتمكّن من معرفة هل
هم ملائكة أم جان أم جنس بشري آخر؟ لكن ظلت المرأة التي تقودهم تثير في نفسي
الحيرة والقلق، كاهنة تشبه الكاهنات اللائي رسمن على جدران المعابد القديمة".
فاوضته هاته
الكائنات على حريته مقابل طلب غريب، أن يدفن امرأة!، عبر مشهد غرائبي:
"... عندما
صحوت رأيت أحدهم لأول مرة رأيَ العين، كائن صغير فمه نصف حجمه، كروي الشكل، يلهو
برفع نفسه إلى الأعلى، وكلما ظننت أنني أقترب منه، يختفي ثم يعود للظهور، يئست، ثم
فجأة ظهر أمامي، وبدات تنتفخ هيئته الكروية وتبدو عليه تفاصيل آدمية، كالعينين
والفم واليدين، لكن دون أرجل. قال بصوت رنان مخيف:
-
اخترناك لتدفن امرأة!".
ثم، تعود
الكاتبة لتوظيف تقنية الحلم التي
دأبت عليها منذ البداية، تتعدّد أدوار الحلم في العمل الروائي، مايهمنا منها هنا
استخدامه كأداة لتجاوز حدود الواقعية التقليدية في السرد ما يسمح للكاتب بإدخال
عناصر خيالية أو سريالية، كما أنه يستخدم كوسيلة لدفع الأحداث إلى الأمام من خلال
تقديم تلميحات أو إشارات ملهمة للشخصية ومنحها وعيًا جديدًا بأفعالها، يقول
السارد:
"غفوت من
الهلع على الكنبة في صالة البيت، فرأيت حجرة قديمة ممتلئة ب ( الكراكيب)، وفي
منتصفها صندوق خشبي قديم مغلق بثلاثة أقفال، من اليمين واليسار والوسط، لونه بني
غامق، مرسوم على جانبيه عصا تشبه تلك التي اراها في يد المرأة التي تأتيني بالمنام
دائمًا، حين أفقت، قررت البحث عن الصندوق".
هنا، حلم داخل
الحلم!.
وهنا برزت قصدية
السارد حينما قرّر البحث عن:
"صندوق
خشبي قديم مغلق بثلاثة أقفال من اليمين واليسار والوسط لونه بني غامق، مرسوم على
جانبيه عصا تشبه تلك التي أراها في يد المرأة التي تأتيني بالمنام دائمًا، حين
أفقت قررت البحث عن الصندوق".
بالصدفة يجد
الصندوق في حجرة مغلقة فوق السطوح في أعلى بيته في نزلة السمان، يقوم بكسر الأقفال
الثلاثة ليجد في قعره حقيبة بها ثلاث مخطوطات، إحداها بالانجليزية والثانية
بالهيروغليفية، والأخيرة بالعربية الركيكة، يخبره النجار الذي استعان به لكسر
القفل الثالث بأنها تخصّ أم سيتي، امرأة أوروبية سكنت البيت من عشرين سنة، كانت
تنام جوار الهرم الأكبر. يأخذ المخطوطات ويعرضها على صديقه المترجم في الجريدة ليخبره
أنها كتابات عن امرأة تدعى (دورثي لويز) فتاة إيرلاندية. هنا يتوقّف السرد الواقعي
الذاتي، ويصعد مستوى السرد باتجاه سرد المخطوطات، وهي تقنية يُستخدم فيها
نص مكتوب ( مخطوطة- رسالة – أومذكرات) كجزء من البناء السردي في العمل الروائي،
لإضفاء عمق تاريخي أو شخصي على النص، والهدف من توظيف هذه التقنية: إضفاء الواقعية
على النص، من خلال إظهار الرواية وكأنها مسنودة على مصادر حقيقية أو أحداث
تاريخية، ما يعزز إحساس القارئ بالمصداقية، لذلك تستخدم هذه التقنية في الروايات
التاريخية والخيال العلمي لتوثيق الخلفيات، إضافة إلى إثراء السرد بمستويات
متعددة، حيث يكون المخطوط صوت إضافي يبرز وجهة نظر مختلفة أو يكشف معلومات خفية
وأسرار أو تفاصيل مفقودة من السرد الرئيسي، ويساهم في كسر خطية السرد وإضافة التشويق،
وتقديم شخصيات جديدة أو أصوات لشخصيات ليست حاضرة بشكل مباشر في الرواية، إضافة
إلى إظهار أفكار ومشاعر الشخصية التي كتبتها، مما يعمق فهم القارئ لها.
يتبدّل السارد،
حيث تقوم المخطوطات بالسرد، وبقلم كاتبة المخطوطات ( دورثي لويز) التي تسرد- بضمير سارد عليم - قصة حياة عالمة الآثار
البريطانية دورثي لويز إيدي ( 1904-1981)الشهيرة بأم سيتي، التي كانت تعتقد أن روح
كاهنة أمون بنترشيت عشيقة الإله سيتي الأول قد تلبّستها وانبعثت فيها.
المخطوطة الأولى
: " دورثي الصغيرة" وهي تشغل الفصل الثاني من الرواية، عبارة عن ( رواية
غيرية)، تتناول حياة طفولة ومراهقة عالمة الآثار الإيرلاندية دورثي لويز، التي
قدّمتها الكاتبة بالبداية، طفلة بعمر الأربع سنوات، ترقد ميتة في تابوت مذهّب:
"كانت
نائمة كملاك مبتسم، تبدو كأنها تداعب أطيافًا نورانية، كأن روحها في حفل سمر في
بالونة عجائبية تراقص السحب أو في سباق تحفّه عصافير الجنة".
وحيدة لوالديها،
ماتت صبيحة عيد ميلادها الرابع، بسبب سقطة من فوق سلم البيت، توقفت على إثرها كل
العلامات الحيوية، وحلّ الموت بجسدها، قبل الدفن بقليل، تحرّكت وعادت إلى الحياة !
حالة حيّرت الطبيبين ليو وديفيد، اللذين ذهبا إلى اعتبار الحالة ( موت منقوص) أو :
"...خلل
مؤقت في وصول الدم إلى جزء من الدماغ، يبقى من دقائق إلى أربع وعشرين ساعة، يتسبّب
في حدوث اضطرابات في الرؤية وفي الكلام والذاكرة". ص 25
حين استيقظت في
اليوم الثاني كانت تصرخ :- أريد بيتي، تحدثت إلى الطبيب الذي فهم منها أنها :
"تشعر
بالخوف والغربة وتريد الذهاب إلى بيتها ، تتلعثم حتى في الكلمات التي كانت تتقنها
قبل أن تتم الرابعة، ما أثار الطبيب بشدة تلك اللكنة الجديدة على دورثي".
والرواية
الغيرية تتطلب من الكاتب معرفة بالشخصية تمكّنه من الكتابة عنها باقتدار كبير، فالرواية
تتطلب من الكاتب الحرص على الموضوعية والقدرة على تقديم الشخصية من منظور خارجي
يسمح بتحليل أفعالها من مسافة نسبية معينة.
كما تتطلب الغوص
عميقًا داخل الشخصية؛ لاستبطان دواخلها وتفهم دوافعها، مع الحفاظ على مسافة فنية
لإعطاء النص التماسك والمصداقية.
ولا يغيب عن
الكاتبة تناول الصراعات الداخلية للشخصية، ظروفها الاجتماعية والثقافية، وتأثيرها
على مسار حياتها المهنية.
ولا مشكلة أن
تتضمن الرواية رؤية الكاتبة الذاتية، تأويلها للأحداث وغيرها، وهذا يجعل السرد
سردًا مزدوجًا للشخصية والكاتبة معًا.
لقد عادت دورثي
بمشاعر مختلفة وذاكرة قديمة، فكيف سيؤثر ذلك على مسيرة حياتها؟ حول هذا المحور
خاضت الكاتبة تجربتها في كتابة هذه المخطوطة، وقد تتبّعت سردها فيها، وجدتها وقد
حرصت على الإحاطة بكل العناصر الفنية للفضاء الروائي في هذه المخطوطة، سيمّا
دلالية المضامين ( سيميائيات الأحداث)، الصراعات الداخلية والخارجية للشخصية،
سلوكيات دورثي مع كل الشخصيات الروائية التي اشتبكت معها في تلك المرحلة، ودراسة
تلك السلوكيات المنعكسة من ظروفها
الاجتماعية والثقافية وتأثيرها على تقدّم الحدث الدرامي.
المخطوطة
الثانية : بنترشيت ( قيثارة الفرح)
عبارة عن سرد سير-
تاريخي، سرد متخيّل عن حياة شخصية تاريخية ( بنترشيت) كاهنة معبد أبيدوس
في هذا السرد
أعطتنا الكاتبة فرصة فريدة لاستكشاف تلك الشخصية، وربطها بسياق زمني واجتماعي يعكس
قضايا إنسانية تتجاوز حدود التاريخ، ولا تُعتبر توثيقًا، بل محاولة لإعادة تصوّر
الشخصية وأحداثها من منظور خيالي أو تأويلي، مع الحرص على المزج بسلاسة بين
الواقعي التاريخي الخيال الإبداعي، على ألا تتعارض مع الحقائق التاريخية المجمع
عليها، استخدام الخيال لملء الفراغات وإبراز المشاعر والدوافع.
اعتنت الكاتبة
بتهيئة الفضاء السردي، من خلال وضع المتلقي في قلب ذلك العالم من خلال استهلال
مشهدي، تتبعه بفقرة تعريفية، تثريها الكاتبة بدلالات ( سيميائية ) تحيلنا إلى تلك
الفترة التاريخية، تقول:
"ثمودي....
يبيع التوابل والخلطات الخاصة وأنواع البخور الفاخرة للكهنة والمعابد.... فيرسل
ابنه حور، وقد اختار له هذا الإسم تيمّنًا بحور محب ملك البلاد". ص 72
من القضايا
الإنسانية التي طرحتها الكاتبة في هذه السردية، قضية (حور) ابن ثمودي البخيل، الذي
اضطر- بسبب بخل أبيه- للعمل منذ طفولته، أيضًا قضية أمّه مجهولة المصير التي هربت
من أبيه:
"ثم بدأ يخطط
لحياته، فانسل من طفولته مثقلًا بالشقاء والتعب محرومًا من حنان الأب والأم أيضًا،
الأم التي هربت من ثمودي بعد ميلادها لحور على الفور،.... كان هناك من قال أنها
انتحرت غرقًا في النيل، وآخرون يتحدثون أنها وهبت نفسها للإله، والبعض يقول أنها
هربت مع عشيق يخدع النساء المحرومات ثم يتاجر بهن في سوق المتعة..... يذكر حين
اصطحبه أحدهم إلى بيت المتعة .... ناظرًا في الأرض نافرًا من كل النساء... لأنه
خشي أن تكون إحداهن أمه".
حرصت الكاتبة على
وصف المكان في هذه السردية لما له من أهمية كبيرة؛ كونه أحد العناصر
الأساسية في تحقيق العديد من الوظائف السردية التي تخدم النص السردي منها:
-
تأطير الأحداث
وربطها بالسياق التاريخي: حيث يساعد وصف
المكان في تحديد الزمان والمكان بشكل واضح، مما يجعل القارئ أكثر قدرة على استيعاب
السياق التاريخي الذي تدور فيه الأحداث، ويُبرز الخلفية
الثقافية والاجتماعية التي تُشكّل ملامح الحياة في الفترة الزمنية الموصوفة.
-
إضفاء
المصداقية والواقعية: يُعزز وصف
المكان من شعور القارئ بأن الأحداث حقيقية أو ممكنة الوقوع، خاصة إذا تم الوصف
بدقة وتوافق مع الحقائق التاريخية.
-
تعميق فهم
الشخصيات: يظهر وصف المكان كيف تأثرت الشخصيات ببيئتها، وكيف تفاعلت مع الظروف
الاجتماعية والسياسية السائدة.
-
تطوير الحبكة
الدرامية: قد يكون المكان
عاملاً مفعِّلًا للأحداث أو حتى شخصية رمزية بحد ذاتها.
-
يُمكن أن يُمثل
المكان مسرحًا للصراعات أو نقطة تحول في مسار السرد.
-
خلق أجواء وتصورات بصرية: يُضفي وصف المكان أبعادًا جمالية على النص، حيث يساهم في رسم مشهد
متكامل للقارئ يُساعده على التعايش مع الأحداث.
-
دعم الثيمات الرئيسية: يُمكن أن يكون المكان رمزًا لقيم أو أفكار معينة مثل القوة،
الاستبداد، الحرية، أو حتى الخراب والدمار، والمؤامرات والخيانات، وقد يعكس التناقضات بين الماضي والحاضر، مما
يُبرز الصراعات الأيديولوجية أو الاجتماعية.
في المجمل، وصف المكان يُعدّ أداة قوية بيد
السارد، يستخدمها لخلق توازن بين توثيق الأحداث التاريخية وبناء التجربة الأدبية
المؤثرة.
أختار هذه الفقرة في وصف معالم معبد أبيدوس، وهو
في طور الإنشاء، والذي جرت فيه معظم الأحداث السردية في هذه المخطوطة:
".... تخطوا الأعمدة ثم دخلوا قاعة الأعمدة
الدائرية، منقوش عليها صور الحملات التي عاشها سيتي ومعه رمسيس الثاني، تلك
الأعمدة تعتبر المدخل الحقيقي للمعبد، ثم مرّوا في دهليز مكوّن من اثني عشر
عمودًا. كل النقوشات لسيتي وهو يقدّم قرابين للآلهة مع ابنه تارة ومع حورس تارة
أخرى، يتجلّى حورس على معظم جدران المعبد كنبتة أسطورية جمعت إيزيس وأوزيريس. ...."
ص 85
المخطوطة
الثالثة: ( دورثي الكبيرة)
تستكمل فيها
الكاتبة سردية السير – غيرية الخاصة ب بعالمة الآثار وقد كبرت وتبصّرت، صارت تعرف
سيتي وبنترشيت جيّدًا، وقد حفظت ترنيمة إيزيس مبكرًا كما فعلت بنتر، تلبّستها بنتر
إلى الحد الذي جعلها تعتقد أن سيتي صار حبيبها هي، أكملت دراستها في الحضارة المصرية القديمة، وقد
تمكنت من الهيروغليفية، فقرأت برديات قديمة، كانت منشورات دورثي في مصر يقرؤها
الجميع. ثم قصة تعرفها على (إمام) وزواجها منه وسفره إلى مصر وعيشها فيها .
المخطوطة
الأخيرة : أبيدوس
يعود الروي إلى
( مروان القاضي)، الذي انتهى من قراءة المخطوطات، وانتابته رغبة عارمة لمعرفة
الحقيقة، يقول :
"أردت أن
أرى بنترشيت التي ترتدي جسد دورثي الإيرلندية، بيني وبينها شبه ما، هي روحان في
جسد واحد، وأنا جسد واحد يحوي أرواحًا عدّة، لكننا نتفق في كوننا مختلفين عن الناس
كافة ". ص158
ويسرد حكاية
التقائه بها، وقد بلغت 77 عامًا، وأنها منذ نوبة القلب الأخيرة تنتظر الموت الذي
تظن أنه اقترب جدًّا، تطرح الكثير من الرسائل الحكيمة من تجربتها الحياتية الطويلة
المليئة بالأحداث الصاخبة والأشخاص الذي كالوا لها الكره وسببوا لها الكثير من
المعاناة، لكنها لم تتضايق من أفعالهم لأنهم محدودو العقل، وأغلبهم لا يمتلكون
غايات.ف الغاية هي التي ترتقي بالإنسان.
"غايتي هي
أن أصل إلى توقي، أن أكون في المكان الذي أحبه، جوار من أحب، أفعل كل ما يروق لي
مهما كانت الصعوبات. .. وأن أدفن في مقبرتي".
توفيت أم سيتي
في الحادي والعشرين من إبريل 1981، وقام ( مروان القاضي) والشيخ إبراهيم وحارسها
سليمان بنقل جثة أم سيتي من الدير الذي دُفنت فيه، إلى مقبرتها في أبيدوس، كما
تاقت، أما مروان القاضي فقد رحل وقد فرع صدره من الزحام... نهاية درامية محسومة
لكلا الشخصيتين المحوريتين، تأسست عليها
الرواية منذ البداية.
· المستوى النفسي:
إن كثرة
التساؤلات الوجودية المرصودة في الرواية، يعكس رغبة الكاتبة بإيصال رسائل وجودية
للمجتمع بشكل تساؤلات سريعة، ما يتفق مع منهج (سارتر) في النقد الأدبي على ما يعرف
ب (التحليل النفسي الوجودي)، وهذا ما يؤكد على أن الرسالة الفكرية للكاتب حول
إنجازه، تركّز على الطبيعة الديناميكية للزمن، بدءًا من العمل الأدبي كنظام من
التكوينات والهياكل اللغوية التي طبقها سارتر في تطبيقه النفسي الوجودي على أعمال
أدبية مختلفة مثل ( بودلير وجيني وفلوبير) وقد ألّف كتابًا بذلك يسمى ( نقد العقلي
الجدلي) .
وهذه
الرواية – حسب هذا المنهج – تعكس حرية الكاتبة وقدرتها على تشكيل عالمها
الأدبي الخاص، وهذا العمل الأدبي ليس مجرد انعكاس للواقع، بل هو تعبير عن مشروع
وجودي يحمل رؤية الكاتب عن الحياة والوجود، والشخصيات فيه ككائنات حرة ليست مجرد
أدوات للحبكة، بل هي كائنات مستقلة تمتلك إرادة حرة، وتبرز الرواية العلاقة بين
حرية الإنسان ومسؤوليته عن أفعاله، من خلال الصراعات الناتجة عن محاولات الإنسان
التوفيق بين حريته والقيود المفروضة عليه من المجتمع أو الظروف.
البنية الزمنية
للوجود: حيث الزمن عنصر جوهري؛ لأن الوجود
يُفهم من خلال علاقته بالماضي، الحاضر والمستقبل، وهذه الرواية تتمحور حول هذه
الديناميكية.
والعمل الأدبي
هو فعل تواصلي بين الكاتب والقارئ، لا يكتمل إلا بتأويل القارئ الذي يصبح شريكًا
في فهم الوجود من خلال النص الروائي.
وقد رصدت بعض
هذه التساؤلات الوجودية :
-
أين كانت دورثي طالما طرقت أبواب الموت ولم تُفتح لها؟ ولِمَ يغلق
الموت بابه في وجه أحدهم بعد أن وقف على أعتابه، ويمدّ يده على حين غفلة لخطف آخر؟
-
أين ذهبت روح الطفلة في تلك الساعات التي اختفت فيها من الدنيا؟ مع من
كانت؟ وأي الأماكن زارت؟ ما الموسيقى التي استُقبلت بها! وإن كان غيابها تجاوز
العشرين ساعة عندنا، فما الزمن الذي استغرقته في العالم الآخر؟
-
إن كنا معبّئين كبشر بتفاصيل حياتية تشبه قصورنا الإنساني، تتناسب مع
الحدود والفواصل والحواجز التي تفصلنا عن العوالم الأخرى، ترى بما عبّئت دورثي حين
كانت جزءًا لا يتجزّأ من البراح الكوني، حين فُتحت لها الآفاق مدّ البصر؟.
-
ما الغيب الذي اطلعت عليه؟ وعقلها، عقلها الصغير، هل من الممكن أن
يدلّنا على الماضي ويخبرنا بما سيحدث غدًا؟
-
هل هذا الفراغ الذي أحاط بنا حقًّا فراغ؟
-
ما الذي حدث لدورثي أثناء توقف وصول الدم.. أين ذهبت روحها؟ وما
التغيرات التي تطرأ على الموتى بعد أن يعودوا مرة أخرى إلى الحياة؟
-
الجسد الميت، وهل يمكن أن يكون عرضة للاقتحام من أرواح تتجوّل في
الكون بحرية؟
-
هل هناك ما يُدعى تلبّس الجان؟
-
هل تسافر الروح وتعود بمعلومات من الكون؟
-
وهل تناسخ الأرواح حقيقة؟
-
أيمرض القلب جراء الوحدة؟ أوجراء وجوده في وسط لا يشبهه، أيمرض القلب
من الغربة
-
نحتاج إلى تقبّل اختلافنا، ولاحتواء نقصنا، ولليقين أن كل فرد فينا
خلق لرسالة ، والعيب كل العيب أن يموت دون تحقيق الغاية من وجوده.
-
خُلقنا لنموت‘ فلنملأ الدنيا مرحًا، علّنا نترك صدى في هذا الفضاء
الموحش.
-
كل من يفارقنا يأخذ قطعة من روحنا، حتى إذا مرّ العمر وجدنا أن
المتبقي من الروح لا يكفي لاستكمال الحياة، فنطبق حكم القدر دون حسرة ونغادر إلى
عام آخرنكتمل فيه بمن نحب.
-
لحظة الاستبصار هذه هي لحظة النهاية، فأنت لن تتحمّل أن تعيش الحياة
وأنت مبصر.
· التجربة الإبداعية :
تفوّقت الكاتبة بدلالية الحدث في المضمون (
سيميائية الحدث)، وهو تفوق يعتمد على قدرتها على تجاوز المستوى
الظاهري للأحداث وتحميلها طبقات من المعاني الرمزية والنفسية والاجتماعية، مما
يجعل النص أكثر عمقًا وإثارة للتفكير.
سيميائية الحدث (دلالية الحدث) هي دراسة الرموز
والمعاني المرتبطة بالأحداث داخل النصوص الأدبية، حيث تتجاوز الأحداث مجرد كونها
سلسلة وقائع لتصبح محملة بدلالات وإيحاءات عميقة.
يمكن تناول هذا التفوق عبر عدة مستويات:
1.
إثراء الحدث
بالرمزية: استثمرت الأحداث في تقديم رموز تعكس معانٍ عميقة، استثمرت الأحداث لتعبر عن قضايا اجتماعية أو
أيديولوجية.
2.
تحويل الحدث
إلى نقطة تحوّل دلالية:
الأحداث المفصلية في الرواية غالبًا ما تكون
محملة بدلالات نفسية أو فلسفية. تفوقت الكاتبة عندما جعلت لكل حدث معنى يتجاوز السرد، فمثلًا جعلت موت دورثي ليس فقط نهاية لحياتها، بل انعكاسًا
لانتصار فكرة أن موت الشخصية ليس
فقط وسيلة للسرد، بل وسيلة لفهم قضايا الهوية، الخوف من الموت، والانتصار النفسي
عليه.
3.
التداخل بين
الأحداث والهوية الفردية والاجتماعية:
يمكن أن تكون الكاتبة قد جعلت الأحداث وسيلة
لتوضيح الصراع بين الفرد والمجتمع، حيث يصبح الحدث أداة لعرض تأثير الهوية
الاجتماعية على الفردية. مثلًا، حدث صغير قد يبرز كشرارة لتغيير جذري في شخصية
معينة، مما يعكس قوى اجتماعية أعمق.
4.
توظيف التكرار
والإيقاع السردي:
حيث استخدمت الكاتبة تكرار أحداث معينة بأسلوب
رمزي لإبراز قضايا مركزية، مع تعديلات بسيطة تكشف تطور الشخصيات أو تغيّر منظور
القارئ اتجاه الحدث.
5.
إثارة
التساؤلات بدلًا من تقديم إجابات:
إذا كانت الكاتبة تتبع أسلوبًا يُشرك القارئ في
التفكير والتأمل في معنى الأحداث، فهي تتفوق هنا بتقديم الأحداث كأدوات تحليلية
تجعل القارئ يعيد النظر في مفاهيم مثل المصير، الحرية، والصراع.
6.
التجسيد النفسي
للأحداث:
تفوّق الكاتبة يظهر كذلك حين ربطت بين الأحداث
والسياقات النفسية للشخصيات. كل حدث ليس مجرد وقوع فعل، بل هو انعكاس للحالة
النفسية للشخصيات، مما يجعل القارئ يشعر بأنه يعيش هذه التحولات معها.
د.عبير خالد يحيي
الاسكندرية
7/12/2024
تعليقات
إرسال تعليق