تشاؤمية الشكل ورمزية المضمون في قصة /غصن الزيتون لا شرقي ولا غربي/ للقاصّة نهى الرميسي تحليل ذرائعي بقلم د. عبير خالد يحيي

 

 

إغناء:

    إن التشاؤمية  نتيجة فرضت هيمنتها على أسلوب ومفردات الشكل السردي للنص، لذلك كان لزامًا علي كناقدة أن أتحدّث قليلًا عن النظرية التشاؤمية وأثرها الفلسفي على النصوص، وخصوصًا النص العربي الذي يزدان فرحًا بجمال شكله، فالتشاؤم هو نظرية فلسفية أدبية لها أثر كبير على الشكل الجمالي للنص، وهذا ينتج أحيانًا فقدان التفاؤل في مصير الإنسان الذي وُجّه له النص، لأن أعمدة التشاؤم بالتأكيد هي موضوع عالمي متعلق بالإحباط والمتاعب والمآسي الناتجة عن عدم القدرة على تحقيق المُثُل للنفس البشرية، لكون التشاؤم يتجه نحو الحزن الرومانسي والرغبة بالسخرية من الحياة.

 تميّز الأدب العالمي التشاؤمي بالخلط بين الحزن والأسى والندم والاكتئاب والتعاسة، وهو يحدّ إرادة مواجهة التحديات، له فائدة واحدة هي أنه يطهّر الإنسان من شوائب حياته الضيقة، وهذا هو أقسى شكل من أشكال الواقعية تطرفًا في مواجهة الحقائق.

البؤرة الفكرية للقصة:

     قصة رمزية بأبعاد فلسفية عن المأساة الإنسانية الكبيرة التي تجرّها الصراعات الدامية على البشر والحجر والحيوان على حدّ سواء، عن الحال المتردي للكثير من الشعوب، التي ألقت بها الحروب خارج دورها، إلى مخيمات إيواء لا تقيهم قرّ الشتاء ولا قيظ الصيف، مجردون من الهوية والكرامة الإنسانية، همّشوهم بأرقام تعريفية، أنستهم أسماءهم، لكنها لم تنسهم القضية، كما لم تنسهم زرع شجرة زيتون أمام كل خيمة، أملًا معمّرًا في قلوب لم تفلح قسوة الطغاة في نزع الرحمة منها، ولكنها نجحت بإخراجهم عن يقينياتهم بقضاياهم الكبرى نحو ساحات الإحباط الوجودي وعبثية المفاهيم، حيث تشير القاصة إلى المفارقة العجيبة بين التقدّم التكنولوجي والانحدار الأخلاقي، حينما تستخدم تقنيات التكنولوجية بتدمير الإنسان لأخيه الإنسان. ويبقى الصراع قائمًا بين الأمل واليأس في عالم يفتقر إلى العدالة والإنسانية، في عالم لا يرى غصن زيتون، فكيف يرى القشة، ولكنه يسمع نباح كلب يثور لاعتقال صاحبه، ويدير له ظهره، فالنابح كلب شوارع.    

لقد أصبح الشكل في هذه القصة قاعدة للمضمون، وقد أبدعت الكاتبة في هذه النقطة عندما ربطت بين الشكل والمضمون وجعلت السباق بينهما حاميًا، وهذه حقيقة في النص العربي.

1-   المستوى اللساني :

سأدرس فيه تأثير النظرية التشاؤمية على جمالية التصوير:

النص يزخر بالألفاظ والتراكيب التشاؤمية التي تعكس حالة اليأس والاغتراب التي تعيشها الشخصيات، وتؤدي دورًا رئيسيًا في بناء الجو العام للقصة. يمكن تصنيف هذه الألفاظ والتراكيب التشاؤمية كالتالي:

1. الألفاظ الدالة على البؤس والتهميش

"ابن الشوارع" و"الأزقة والحارات": تعبير عن التهميش والانتماء إلى الهامش الاجتماعي.

"أطعم من بقايا الناس": يرمز إلى فقدان الكرامة والعيش على الفتات.

"النفايات التي تملأ الخرابات": إشارة إلى الإهمال المادي والمعنوي في البيئة المحيطة.

"كثيرًا ما أصاب بالجرب": يبرز المعاناة الجسدية كرمز لتدهور الظروف الإنسانية.

2. الألفاظ المرتبطة بالحزن واليأس

"لون أحزانه": استعارة تعكس تشبع الشخصية بمشاعر الحزن والأسى.

"الحزن الأسود": رمز لليأس العميق الذي لا يمكن تجاوزه.

"الكآبة واليأس": تعبير مباشر عن انعدام الأمل.

3. الألفاظ المرتبطة بالعنف والقسوة

"صدمتني سيارة مسرعة هوجاء": صورة صادمة للعنف العشوائي في الحياة.

"داهمنا الجنود... يصرخ... يداعبه أرجلهم ركلًا وكعوب البنادق دكًّا وسحقًا": تصوير وحشي للقمع والعنف الممارس على الشخصيات.

"اقتلعوا شجرة الزيتون": رمز لتدمير السلام والأمل والهوية.

4. التراكيب التي تعكس الشعور بالعجز والقهر

"لم تعد لديه قضية": عبارة تعبر عن حالة فقدان الهدف والمعنى في الحياة.

"ما عاد يجدي الثورة وردود الأفعال": إقرار بانعدام الجدوى والإحباط من التغيير.

"يتكوّر حول نفسه داخل دوامات الكآبة واليأس": تصوير بصري لحالة الانطواء والانكسار.

"تمنيت الذهاب إلى هناك لأطعم وأشبع": يعكس حرمانًا دائمًا وأحلامًا صغيرة لا تتحقّق.

5. ألفاظ مرتبطة بالخوف والفزع

"أفزعني بالكلام عن...": يتكرّر التعبير للإشارة إلى الرعب من المستقبل المليء بالمخاطر (القنابل، الأسلحة، الخنجر).

"الخنجر المسموم في يد صاحب القضية": استعارة مرعبة للخيانة والانقلاب على الأصدقاء.

الوظيفة الفنية لهذه الألفاظ والتراكيب:

تعزيز الجو العام: تسهم الألفاظ التشاؤمية في خلق جو خانق يعكس معاناة الشخصيات.

تجسيد الحالة النفسية: تُظهر هذه التراكيب تأثير الظروف القاسية على الشخصيات نفسيًا وجسديًا.

بناء الرمزية: الكلمات المرتبطة بالعنف واليأس تعبر عن قضايا كبرى كالقمع السياسي، والخذلان، وفقدان الوطن.

النص يدفع القارئ إلى الشعور بعمق الأزمة الإنسانية التي تعيشها الشخصيات، مستندًا إلى لغة تشاؤمية تنقل الألم بصدق.

هذا الكم من التشاؤم في القصة ليس عبثيًا، بل يخدم رؤية النص وأهدافه الفنية والاجتماعية. إنه انعكاس واعٍ للواقع الذي تعيشه الشخصيات، ويعكس القضايا الكبرى التي يناقشها النص، مثل الفقر، التهميش، الظلم، والقهر السياسي والاجتماعي.

نقاط إيجابية لهذا التشاؤم:

1. إبراز المأساة بعمق: التشاؤم يعكس واقعًا مظلمًا يعانيه المهمشون، مما يجعل القارئ أكثر تعاطفًا مع الشخصيات وأكثر وعيًا بالمعاناة الإنسانية.

2. تحفيز التفكير: النص لا يهدف فقط إلى عرض المأساة، بل يدعو القارئ للتفكير في أسبابها وإمكانية تجاوزها.

3. بناء الصدق الفني: الواقع في بعض الحالات يكون بالفعل مظلمًا إلى هذه الدرجة، والنص يجسد هذا بجرأة بعيدًا عن أي تجميل.

المخاطر المحتملة لهذا التشاؤم

1. الإفراط في الكآبة: قد يثقل النص على القارئ ويشعره بالعجز بدلًا من التحفيز للتغيير.

2. غياب الأمل: إذا لم يوازن النص بين التشاؤم وبعض ومضات الأمل، فقد يفقد تأثيره الإيجابي ويترك القارئ في حالة من الإحباط.

3. تأثير نفسي سلبي: قد تؤثر الجرعة العالية من التشاؤم على الحالة النفسية للقارئ، خصوصًا إذا كان يعاني ظروفًا مشابهة.

كيف يمكن تحقيق التوازن؟

1. إضافة بصيص من الأمل: يمكن للنص أن يترك للقارئ نافذة صغيرة للأمل أو إمكانية للتغيير، كأن يقدم شخصية تتحدّى الواقع بنجاح أو فكرة توحي بحلول ممكنة.

2. تعميق الرمزية: بعض الألفاظ أو الصور يمكن أن تحمل معاني مزدوجة؛ رمزية للقهر وأيضًا للإمكانية المستقبلية للنجاة.

3. تقديم خلاص داخلي: حتى لو كان الواقع قاتمًا، يمكن للشخصيات أن تجد نوعًا من السلام الداخلي أو المقاومة النفسية التي تُلهم القارئ.

بالعموم: رغم الكثافة التشاؤمية في القصة، إلا أنها تحمل واقعية صادمة وضرورية أحيانًا لإيصال رسالة اجتماعية أو سياسية قوية. ومع ذلك، قد يكون النص أقوى وأكثر تأثيرًا إذا تضمن نقاطًا تضيف طاقة إيجابية أو بصيصًا من الأمل ليبقى عالقًا في ذهن القارئ كرسالة متكاملة، تجمع بين تصوير الواقع القاسي وإمكانية التغلب عليه.

2-   المستوى الديناميكي:

      ابتداء من العنوان الدلالي الرمزي: غصن الزيتون لا شرقي ولا غربي

غصن الزيتون : هو رمز تقني صريح للإعلان عن السلام والمحبة والرحمة في الثقافات والديانات المختلفة.

يشير هذا المعنى إلى تجاوز الانتماءات الثقافية والجغرافية باتجاه المعنى الشمولي للقيم الإنسانية، ويصبح غصن الزيتون، رمز السلام والمحبة، رمزًا عالميًا غير محدود بجغرافية معينة، ولا بزمن محدد. 

والعنوان : يحيل على  الآية الكريمة ( زيتونة لا شرقية ولاغربية) سورة النور 35، وهذا يعطي العنوان بعدًا روحانيًّا يعزز فكرة النقاء والإلهام الإلهي، كما يحيل إلى موقف وسطي، بعيدًا عن الانحياز والتطرف، فالزيتون يعتبر رمزًا للبركة والاعتدال، مما يجعل العنوان محمّلًا بدعوة لنبذ التفرقة والدعوة إلى وحدة وتوازن في العلاقات الإنسانية.

وسنرى إلى أي درجة نجحت القاصة في اختار العنوان بوصفه مكوّن نصّي مكثف ومختزل عن النص القصصي.

ملامح الحبكة :

     بمنظور رمزي وعبر سرد بطل مشارك غير تقليدي- كلب- يروي القصة بحبكة تحمل أبعادًا إنسانية وفلسفية:

استهلال مشوّق، على لسان الكلب، بما حمله من عمق إيحائي، محمول على رمزية الكثير من المفردات، هيأتنا القاصة من خلاله للدخول إلى القصة من خلال صوت الراوي الذي يعكس لنا منذ البداية شعورًا بالضعف والهامشية، فهو: ابن الشوارع، بل ابنٌ للأزقة والحارات، يعني هو ابن المعاناة والحرمان، نجحت القاصة في استقطاب تعاطف المتلقي مع السارد، كما نجحت بجذب انتباهه وإثارة فضوله وتشويقه لمعرفة المزيد عن تفاصيل حياته. يتضمن الاستهلال رمزية عالية، فكرة الجرب الذي تعالجه أشعة الشمس:

بأنني  كثيرًا ما أصاب بالجرب، ولكنني أشفى بفضل أشعة الشمس الحارقة .

مقابلة لفكرة الاعتماد على عنصر من عناصر الطبيعة في معالجة الإهمال.

استهلال ناجح في جذب انتباه القارئ وإثارة تعاطفه، وتهيأته في حالة من الترقب لمعرفة المزيد من الحكاية وتوجيهه باتجاه فكرة النص.

لقاء الرجل بالكلب وتطور العلاقة بينهما، تمثّل رمزًا للتضامن بين الكائنات الحية باجتماعهم على معاناة مشتركة.

يسرد الرجل حكايات رمزية بصوت الحكمة المحملة بالأسى، عن القضايا المصيرية والتناقضات التي يعاني منها مجتمعه، تناقضات سياسية واجتماعية، والخيانات، برمزية الخنجر المسموم الذي يغرسه الأخوة والأصدقاء في ظهور بعضهم البعض. الرجل يرى الكثير من الأحلام، ويحمل همّ حلم واحد لم يتحقق، وهو رمز لقضية أكبر تُركت بلا حل، لن أذكر إسقاطات، لأن النص يجعلها قضية تصلح لكل الإسقاطات، يتحدث عن الأحلام كآمال مرجوة، لكنه محبط بخيبات الواقع، ويفقد اليقين بجدوى النضال والمقاومة في عالم أعمى، تاه عن الحق والعدالة، حتى خيمة الصمود دُكّت أوتادها. 

قد تكون اقتلاع شجرة الزيتون وسقوط الخيمة ذروة القصة برمزية اقتلاع الجذور وفقدان الانتماء، سحب الجنود للرجل بطريقة وحشية هي الانهيار الأخير للإنسانية المنهكة أمام القمع، واللحظة التي يُنظر فيها إلى الكلب ك" مجرد كلب ينبح" هي تجاهل تام للأصوات التي تطالب بالعدالة بعد أن فشلت بأن تكون تكون مرئية وهي تطالب بالسلام.

نهاية مفتوحة على تشاؤم كبير ويأس من عبثية المعاناة وجدوى النضال، تقذف القارئ إلى حالة تأمل حول المعنى الحقيقي للقضايا التي تُفقد بين الصراعات والحروب.   

الشخصيات ورمزيتها :

     يبرز الصراع بين الضعف والقوة، بين الأمل واليأس من خلال الشخصيات التي تتشابك رمزيًّا، كل شخصية تحمل برمزيتها جزءًا من رسالة القصة، ما يمنحها الحيوية والتأثير:  

الراوي ( الكلب):شخصية غرائبية،  كائن مهمش، ينتمي إلى الفئات الضعيفة والمقصية في المجتمع والتي تتحمّل تبعات الحروب دون أن تكون طرفًا فيها، يعيش في الشوارع، يتصف بالمرونة والشجاعة، رغم مظهره البائس، حمّلته القاصة حمولة السرد، بقصدية التعبير عن المآسي الإنسانية من وجهة نظر بريئة وبسيطة، حيث يمثل البراءة المسحوقة والصوت الذي ينادي بالسلام رغم قسوة العالم، فلا يُسمع.

الرجل في خيمة الإيواء:

    الشخصية الإنسانية المحورية التي تقيم علاقة صداقة مع الراوي، يبثه من خلالها خلجاته العاطفية وآرائه الفكرية، رجل بسيط يعيش في خيمة، مع مذياعه، تجسيدًا للمعرفة المقيّدة التي لا تجد من يصغي إليها، ويمتلك روحًا حيّة رغم كل المعاناة، يحلم بعالم أفضل لكنه محبط، وقد فقد الأمل والشغف، يرمز إلى الإنسان الذي طحنته الحروب، والمثقف الذي فقد قضيته، لكنه ما زال يحمل في داخله بقايا حلم.

الجنود:

    القوة القمعية، يقتحمون الخيمة، ويعتقلون الرجل، ويقتلعون شجرة الزيتون بوحشية، فيقضون على كل أمل. 

يرمزون إلى العنف المنظم والقوة الغاشمة التي تسحق الضعفاء بلا مبرر، وجه الحرب القبيح.  

شجرة الزيتون:

   تظهرها القاصة كشخصية رمزية لا تقل أهمية عما ذكر، رغم كونها عنصر من عناصر الطبيعة، تنمو إلى جانب الخيمة، وهي رمز تقني للسلام والأمل.

دلالتها الرمزية في القصة: ترمز إلى السلام المفقود في خصم الصراعات والحروب الدموية، اقتلاعها يحيل إلى اقتلاع الأمل وإخراس صوت السلام.

منصور:

    مولود رمزي ظهر في حديث الرجل كرمز للاستمرار والمقاومة، لكنه يعكس الثمن الباهظ الذي تدفهع الأجيال.

دلالته الرمزية: يرمز إلى الأمل المتجدد رغم المآسي، لكنه أمل مشروط بالتضحية والفداء والمعاناة، حيث ضاع قبله تسعة من المنصورين.

3-    المستوى السيكولوجي :

     المنبع الفكري لأي نص هو سايكولوجي، لذلك يكتب القاص نصّه بما اكتنزه في مخزنه السايكولوجي (اللاوعي)، متأثرًا بإرهاصات الواقع المعاش أو المتابع، برهافة حسّ يتميّز بها عن عامة الناس، والنصّاص البارع هو الذي يبني نصّه لبنة لبنة، حتى ينهيه بنيانًا فنيًّا مرصوصًا متينًا لا خلل فيه، ثم يعود إليه بحلية يرمم بها الثغرات الصغيرة التي يمكن أن تُلمح على جدران بنائه الفني، فالبناء الجمالي متمّم، وبدونه يكون النص على المحارة.

يمكن استنباط أبعاد نفسية تعكس رؤيتة القاصة العميقة للعالم والمجتمع، حيث تتجلّى صراعاتها الداخلية ومواقفها من القضايا الإنسانية الكبرى.

من خلال إحساسها العميق بالمظلومية والعدل الغائب: تُظهر القاصة وعيًا حادًا بالظلم الاجتماعي والسياسي، وتبرز هذا الشعور من خلال تصويرها لمعاناة الشخصيات، سواء كان الإنسان (صاحب الخيمة) أو حتى الكلب، كرمز للإنسان المهمش والمقهور، هذا الإحساس يعكس توقها العميق إلى العدالة الغائبة، مما يدل على صراع داخلي بين الإيمان بالحق واليأس من تحقيقه.

الكاتبة قد تُسقط جزءًا من صراعاتها النفسية على النص، حيث يظهر الحنين إلى الماضي عبر استدعاء الشخصيات التاريخية (كصلاح الدين وصقر قريش)، في مقابل الحاضر المليء بالخيبات.

إسقاط الأحلام المجهضة والشعور باللاجدوى قد يعبر عن صراع شخصي مع فكرة البحث عن المعنى في عالم يبدو قاسيًا ومفككًّا.

القلق الوجودي وتناقضات الحياة: النص يُظهر مزيجًا من الأمل واليأس، مما يعكس قلق الكاتبة الوجودي حول قضايا الهوية، الانتماء، والقدرة على التغيير.

هذا التناقض النفسي يتجلى في لحظات التفاؤل البسيطة (ابتسامة البطل وحديثه عن منصور العاشر) التي تُغرق سريعًا في موجة من التشاؤم والخذلان.

التماهي مع الشخصيات المهمّشة: اختيار الكلب كشخصية رئيسية يشير إلى انحياز الكاتبة الواضح للفئات المهمشة والمظلومة، وكأنها ترى في هذه الشخصيات انعكاسًا لذاتها أو لمنظومة القيم التي تؤمن بها.

الكلب، برغم أنه "مجرد كلب ينبح" كما وصفه الجنود، يحمل رمزية إنسانية عميقة، مما يدل على حساسية الكاتبة النفسية اتجاه المقموعين والمعذبين.

الحس المأساوي وشعور فقدان السيطرة: الكاتبة تُظهر إدراكًا عميقًا للهشاشة الإنسانية في مواجهة قوى أكبر كالحرب والظلم الاجتماعي.

مشاهد الدمار وسقوط الخيمة تعكس شعورها بفقدان السيطرة على الأحداث، وهو شعور قد يكون متجذرًا في تجربة شخصية أو رؤية أوسع للعالم من حولها.

التعبير عن الألم الداخلي: النص يعكس ألمًا نفسيًا داخليًا للكاتبة، يظهر في اللغة المشحونة بالتشاؤم وفي الصور الكئيبة التي تحاصر الشخصيات.

تصوير الخسائر المتكررة (تسعة منصورين ضاعوا) يشير إلى إحساس عميق بخيبة الأمل اتجاه محاولات الإصلاح التي تبوء بالفشل.

الرغبة في التغيير وبقايا الأمل: رغم التشاؤم الطاغي، إلا أن النص يحمل رمزية الأمل عبر غصن الزيتون والقشة التي يحملها الكلب.

هذه الإشارات تعكس أملًا نفسيًا عميقًا لدى الكاتبة، حتى وإن كان ضعيفًا أو مختبئًا وسط الظلام.

تأثير البيئة الثقافية والاجتماعية: النص يحمل صدى بيئة مضطربة مليئة بالعنف والصراعات، مما قد يكون انعكاسًا لتأثير الأحداث السياسية والاجتماعية على نفسية الكاتبة.

تأثير التجارب الشخصية: استخدام التكرار في المآسي والتعبير عن التشاؤم قد يعكس تجربة شخصية للكاتبة مع الإحباط أو الخذلان.

4-   الخلفية الأخلاقية :

    يحمل النص أبعادًا متعددة تتجاوز السرد الظاهري إلى معانٍ أعمق ترتبط بقيم العدالة، الإنسانية، والانتماء. يتجلى هذا المستوى في العلاقة بين الشخصيات، المواقف التي تعرضت لها، والرسائل التي يريد النص إيصالها.

تبرز القصة دعوة للتعاطف مع المهمشين والمظلومين الذين يعانون في صمت.

و إدانة الظلم والقهر، النص يوجه انتقادات حادة للأنظمة القمعية والواقع السياسي الذي يسحق الإنسان، بل يمتد ليُظهر خيانة أصحاب القضية أنفسهم لأنصارهم. هذا المستوى الأخلاقي يدعو القارئ لإعادة التفكير في قيم العدالة والوفاء.

يبرز قيم التضحية والانتماء، فالقصة تشير إلى شخصيات تضحي من أجل قضية كبرى (مثل منصور وأمثاله). لكنها تسلط الضوء أيضًا على عبثية بعض التضحيات عندما لا تحقق هدفها، مما يدعو للتأمل في جدوى التضحية وأهميتها في تحقيق تغيير حقيقي.

ينقد الخيانة والازدواجية، حيث تناول النص فكرة الخنجر المسموم الذي يطعن الأصدقاء بدلًا من الأعداء، مما يعكس مستوى أخلاقيًا يدين خيانة القيم والمبادئ والرفاق.

الدعوة لإعادة تقييم القضايا الكبرى: هل تُخاض المعارك على أساس أخلاقي أم تصبح ضحية للمصالح والخيانة؟

بالمجمل المستوى الأخلاقي في القصة يحمل نقدًا اجتماعيًا وسياسيًا قويًا مع دعوة غير مباشرة لتبني قيم التعاطف والعدل والإنسانية. ورغم أن القصة تغلب عليها نغمة تشاؤمية، إلا أنها تفتح المجال للتأمل العميق في القيم الأخلاقية التي تضيع وسط الصراعات.

التجربة الإبداعية للقاصّة:

تجربة الكاتبة الإبداعية في "غصن الزيتون" تمثل نموذجًا مميزًا لدمج تشاؤمية الشكل مع رمزية المضمون، مما يخلق حالة أدبية عميقة تؤثر في القارئ على مستويات متعددة. تفصيل هذه التجربة:

تشاؤمية الشكل:

1.    اللغة الكئيبة:

اعتمدت الكاتبة على لغة مُثقلة بالتشاؤم، حيث امتلأت النصوص بمفردات مثل: "الجرب"، "القمامة"، "الخرابات"، "الحزن الأسود"، "النيران"، "دوامات الكآبة". هذه اللغة لا تُظهر فقط الواقع القاسي، بل تستدعي شعورًا عميقًا بالمرارة واليأس، ما يجعل القارئ يشعر بثقل العالم كما تراه الشخصيات.

2.    تصوير الأجواء الكارثية:

 الكاتبة تصف مشاهد مليئة بالخراب والدمار: "أعمدة الخيمة تتساقط"، "النيران تكسو الأفق"، "البراكين تتنزل من السماء"، مما يعكس واقعًا وجوديًا قاتمًا يضيق على شخصياتها.

3.    غياب النهاية السعيدة:

القصة تفتقر إلى حل مريح أو نهاية مفرحة؛ كل الأحداث تقود إلى إحباط متزايد، كأنها تريد أن تُغرق القارئ في الإحساس بلا جدوى المحاولة. حتى رمز الأمل (غصن الزيتون) ينتهي بجملة جارحة: "مجرد كلب ينبح."

رمزية المضمون:

1.     رمزية الشخصيات:

الكلب: يمثل الإنسان المهمش الذي لا يُرى إلا كمصدر إزعاج أو تهديد، لكنه يحمل أحلامًا إنسانية كبرى ورغبة في السلام.

الرجل صاحب الخيمة: يجسد القائد أو الحالم الذي يرزح تحت وطأة الحروب والتخاذل، لكنه يستمر في النضال برغم كل الخسائر.

غصن الزيتون: رمز السلام الذي يسعى إليه الجميع، لكنه في النهاية يُحطم بيد من يسعون للدمار.

2.    ثنائية الحياة والموت:

الكاتبة تتلاعب بثنائية الحياة والموت عبر شخصية منصور، حيث يمثل "العاشر" استمرار الأمل، بينما تشير خسائر التسعة السابقين إلى الثمن الباهظ للأمل.

3.    رمزيات سياسية واجتماعية:

الخنجر المسموم الذي يغرس في ظهر الأنصار يرمز للخيانة داخل الصفوف، وهو إسقاط على الأوضاع السياسية حيث يتحوّل الأصدقاء إلى أعداء.

الحديث عن القنابل والأسلحة يعكس حالة الرعب الدائم التي يعيشها العالم، وخصوصًا في المناطق المشتعلة بالصراعات.

4.     النهاية المفتوحة:

 نهاية القصة بلا حل أو وضوح تام تعكس واقعًا رمزيًا يعيش فيه البشر بلا يقين أو أمل ملموس، مما يفتح المجال أمام القارئ للتأمل في جدوى الحياة والنضال.

الإبداع في المزج بين الشكل والمضمون:

1.     التوازن بين التشاؤم والرمز:

الكاتبة استطاعت استخدام التشاؤم كإطار خارجي يُبرز الرموز العميقة للقصة، حيث أن الشكل الكئيب لا يُثقل القصة، بل يخدم أغراضها الرمزية.

2.     التحفيز العاطفي والفكري:

القارئ يعيش التجربة العاطفية من خلال الشكل التشاؤمي، لكنه لا يخرج خاوي الوفاض، إذ تدفعه الرمزية للتفكير في قضايا أكبر: مثل الهوية، النضال، والخيانة.

3.    الدمج بين الواقعي والخيالي:

الكاتبة تخلق عالمًا يشبه الواقع لكنه مُحمّل بالرمزية، مما يجعل القارئ يشعر بأنه يعيش تجربة إنسانية حقيقية ومع ذلك يتأمّل معانيها الأعمق.

الخلاصة:

تجربة الكاتبة في دمج التشاؤم مع الرمزية تعكس قدرتها على تسخير الأدوات الأدبية لإيصال رؤيتها الفلسفية والإنسانية. الشكل الكئيب يجعل القارئ يغوص في الظلمة، بينما الرمزية تمنحه مفاتيح لفهم أعمق، ليخرج بتأملات تتجاوز حدود القصة.

النص القصصي :

 

غصن الزيتون لا شرقي ولا غربي

نهى الرميسي

 

 أعرفكم بنفسي : أنا ابن الشوارع، بل ابنٌ للأزقة والحارات. أنا لست ممن يجلسون بجوار مدفأة الشتاء، ولست ممن ينعمون بالنسائم في قيظ الصيف. أنا أُطعم  من بقايا الناس، من النفايات التي تملأ الخرابات، وتعلمون كم هي كثيرة في موطني!! يؤسفني أيضًا أن أؤذي مسامعكم لأخبركم بأنني  كثيراً ما أصاب بالجرب، ولكنني أشفى بفضل أشعة الشمس الحارقة . سوف تسألونني إذن متى وأين التقيت به؟ الحكاية يا سادة: أنه رآني ذات يوم وأنا أقفز وأتواثب بين الأرصفة ومكبات القمامة، فتتبعني بنظره، وهذا ما عرفته منه بعد ذلك. نعم جذبه إليَّ شئ ما، لا أعلمه ولا هو يعلمه، ربما لمرونتي حيث أستطيل وأقصر وأجرى واثبًا خلف كرات الحنظل، وأحوم حوله بينما هو مستقيم كالمارد  . قال إنه ظل يتابعني بناظريه حتى صدمتني سيارة مسرعة هوجاء، حينما كنت أتسكع في عرض الشارع، وبالطبع لم يعرني صاحب السيارة أدنى انتباه، بينما هو انتبه لي، أقال عثرتي وربط رجلي بعدما اطمأن أن ليست هناك إصابات أخرى . كيف اطمأن إليَّ رغم مظهري المقزز ؟ لست أدري. كيف لم يخش على نفسه شر العدوى أو الجرب؟ لست أدري. أخذني معه، لم يكن حاله أفضل كثيراً من حالي؛ فهو يقيم في خيمة إيواء تضم كثيرين مثلى لايخافون الظلام، خيمته ليس من محتواها سرير أو كرسي كالذي تعرفونه، ولا من بينها حتى فرش ولا أغطية، بل إن أنفس  محتوياتها هو ذاك المذياع المتهالك الذي يربطه بأستك مطاطي، ويكيل له الضربات كلما أراد له أن ينطق، فإذا نطق جاءه بما لم يرد وأعلن عليه ما لا يسره ولايرضيه  كم استمعنا معاً لنشرات الأخبار التي تبثها إذاعتنا والإذاعات الأخرى!! تعلمت منه الكثير، فكان يسمع ويحدثني معلقاً على ما سمع، وكأني أفهم ما يقول، لا أنكر أنني في بداية الأمر حسبته مجنوناً أو مختلاً، ولكن سرعان ما قامت بيننا صداقة اعتاد هو فيها أن يتحدث إليَّ، وعودني الشغف بعلمه لأستزيد . علمني أن الدنيا ليست بلدتنا هذه؛ التي أدرك شوارعها وأزقتها ومجاهلها، بل أعلم عدد الحفر وأكوام الركام في كل ركن فيها . قال لي إن القمامة هناك خلف الشريط الأخضر مليئة بالخيرات، حدثني عن تلك الخيرات من لحم البقر والماعزوالسوسيس والبرجر، ولحم الطير الشهي من الإوز والبط والدجاج وفواكه كثيرة  فضلًا عن الكعك وصنوفه وألوانه، وكم داعب خيالي ذلك اللحم المسمى بال(هوت دوج)، أصدقكم القول: كنت كلما أشعر بالجوع يسيل لعابي لتلك الأطعمة الشهية، وتمنيت الذهاب إلى هناك لأطعم وأشبع . حدثني عن أشياء جعلتني أجبن وأخاف؛ أنا الذي لا أخشى شيئاً في هذه الحياة، فلطالما أفزعني بالكلام عن: قنابل ذكية، وأخرى عنقودية، وفوقها تلك الذرية، وغيرها أسلحة بيولوجية، وطائرات ما رقة مخفية، وصواريخ عابرة للقارات، ولكنها غير مدوية، وسفائن، وزوارق، وحاملات طائرات، وغواصات نووية، وغيرها الكثير من الأسلحة النارية . حدثني أنه رأى الخنجر المسموم في يد صاحب القضية، وسألني : ترى في ظهر من يغرس خنجره ؟ أفزعني صراخه وهو يجيب: يغرس خنجره المسموم في ظهر أنصاره.  واستطرد قائلاً: لقد صنع أجداده الخنجر ليصيب قلب الأعداء في المواجهة، لكنه طوره ليصيب الأصدقاء من الخلف. ثم يعلو صوته مرة أخرى صائحاً متحدثاً بسرعة لا أكاد ألاحقها قائلاً: نعم، لابد أن يطوره  ليساير تيار التقدم التقني الجارف، كم يد قصيرة عويلة امتدت لتشارك في هذا التطوير المذهل، لكن الرجل حرص على الخنجر حرصه على الهوية، فهو لديه رمز الانتماء، وقد طلاه بكل ما أصاب وحقق من ومضات الغزو الفكري الجبار . ثم جلس، وقال بلهجة ملؤها الأسى، شممت فيها رائحة البكاء : يا له من رجل عبقري العقيدة والرجاء!!. كثيراً ماكان يحلم ويصحو يشعل شمعة صغيرة ثم يحدثني عن حلمه، كان يحلم في كل يوم ألف حلم وحلم، إلا حلماً واحداً لم يأته أبداً، تمني لو يراه، أتاه صلاح الدين، وأتاه صقر قريش، بل أتاه الأنبياء في حلمه تترى، لكن حلماً واحداً لم يأته أبداً!! تمنى لو يراه . وفي صباح أحد الأيام وجدته ينهض من نومه، ويقف خلف شق في جدار الخيمة، يرقب حال الجو . لم يكن الجو صحواً أو مشمساً، ولم يكن الجو غائماً أو ممطراً، وإنما كان ملوناً بلون أحزانه، يحمل ما يحمله من غبار معتق الأنفاس، لم تكن هناك شمس ولاقمر ولا حتى نجوم، ولكن كانت تتنزل هناك الحمم والبراكين من السماء على رؤوس الأنام . لم يسمع للرعد صوتاً ولم ير للبرق خطفاً، إنما سمع أزيز اللهيب، لفحت النيران وجهه، وكست الأدخنة عينيه. لم يدر سبباً منطقياً لما أصابه، لم يدر سبباً لهذا الحزن الأسود الذي أطل من عينيه، ماذا عساه أن يكون الأمر؟ مات الأحبة والصحاب؟ ماذا بعد؟ ما هي القضية؟ أتت الحرب في بلاده على الأخضر واليابس، فأصبح بلا مأوى ولا وطن؟ وماذا في هذا؟ أذاقه الطاغية مرارة الذل والتسول والهوان؟ وأيضاً ما الجديد؟ أين القضية؟ القضية يا قوم، أنه لم تعد لديه قضية، كل الحوادث هانت لديه، فما عادت تجدي الثورة وردود الأفعال . كل ما أصبح لديه هو أن يتكور حول نفسه داخل دوامات الكآبة واليأس . داعبني بعض الأمل حين وجدته يتمتم ببضع كلمات، آهٍ ... كم اشتقت لسماع صوته الذي اعتدت عليه حتى لو كان مكبلاً بالهموم والأحزان . وأخيراً علت شفاهه ابتسامة ممزوجة بالحسرة والألم، وهمس في نشوة شجية رقراقة : جاءتني البشارة من خلفي، رزقت بمنصور، إذن مازلت على قيد الحياة، نعم منصور العاشر، وما الفائدة لقد ضاع قبله تسعة من المنصورين فداء للقضية . هذه الكلمات الهادئة لم أكن أدري أن العاصفة خلفها، فلقد صرخ مستطرداً كالإعصار الهادر : - نعم تسعة منصورين، وُلِدوا خلف حجر، وماتوا وفي يدهم حجر، كم قذفوا بقلبي صوب الجندي المتدرع بأصوات اللوبي المتربص في حلق العدل ؟! كم مرة أصابوا الجندي بقلبي؟ وكم مرة رد عليهم بالمدفعية؟ ظل على حالته هذه، وهو إما شاخص في الأفق أو زائغ العينين مسترسل في خواطره الهائجة، الهادئة، البائسة وفجأة، وقبل أن يرتد إلىَ طرفي، رأيت أعمدة الخيمة تتساقط فوقنا، ورأيته وهو يتقيها بيديه ويصرخ . داهمنا الجنود على الفور يجرونه من بين أنقاض الخيمة، سحبوه بعيداً، بينما تداعبه أرجلهم ركلا وكعوب البنادق دكاً وسحقاً . نظرت أمامي، فوجدتهم قد اقتلعوا شجرة الزيتون التي طالما رأيتها بجوار الخيمة، أمسكت بقشة من بقاياها، وجريت خلفهم علهم يلتفتون إليَّ، أو ينتبهون إلى مرادي في السلام . وحين اكتشفت حمقي تركت القشة على الفور وأطلقت صيحات عالية . فالتفت أحدهم إليَّ ورمقني بنظرة، بينما جذبه زميله مستهزئاً : ماذا بك ؟ هيا بنا.. إنه مجرد كلب ينبح .  

 

                                       د. عبير خالد يحيي                      الإسكندرية                 5/12/ 2024

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أدب المرايا من الكلاسيكية إلى المعاصرة في رواية / نساء المحمودية / للأديب المصري منير عتيبة دراسة ذرائعية تقنية بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

أدب الرسائل عند الأديبة حياة الرايس (رسائل أخطأت عناوينها) دراسة ذرائعية مستقطعة بقلم الناقدة الذرائعية د. عبير خالد يحيي

الميتاقص- أساليبها وتمظهراتها في قصة / رسول الشيطان/ للقاص المصري عمرو زين قراءة ذرائعية بقلم الناقدة د. عبير خالد يحيي