تجليات العزلة والاعتراف في السرد الوجداني : قراءة في بناء الذات المتشظية في نص ( امرأة تتشابك مع بقاياها) للأديبة والفنانة التشكيلية المصرية سهير شكري بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي
الخاطرة هي بوح الوجدان. وهي جنس أدبي سردي من أكثر
الأشكال الأدبية تعبيرًا عن عمق المشاعر والتجارب الإنسانية، حيث يتجلّى الصوت
الداخلي للكاتب بحرية دون قيود السرد التقليدي. في هذا النوع من الكتابة، تمتزج
العاطفة بالتأمّل، وتتحوّل الكلمات إلى مرآة تعكس الانكسارات، الآمال، والبحث عن
الذات. النص الذي بين أيدينا يمثل نموذجًا لهذا التدفق الشعوري، إذ يرسم ملامح
العزلة والاعتراف الذاتي من خلال صور حسّية ولغة صادقة، ليكشف عن رحلة إنسانية
تتأرجح بين الألم والتصالح مع الماضي، في
مونولوج داخلي يغوص في خبايا الذات ويعيد تشكيل الذكريات والانفعالات ضمن إطار تأمّلي
حزين.
البنية السردية واللغة
النص يعتمد على
ضمير المتكلم، مما يمنحه طابعًا اعترافيًا يعزز من صدق العاطفة وحرارة التجربة.
فالساردة تستعرض رحلتها النفسية في مساحات الوحدة والانكسار، مستخدمة صورًا حسية
تعكس حالتها الشعورية المتذبذبة بين الأمل واليأس، مثل:
"امرأة تتشابك مع
بقاياها" → صورة تجسد التشظّي الداخلي والتشابه بين الإنسان وظلّه الماضي.
"وحدي أنتظر على
رصيف الرحيل" → تعبير قوي عن الإحساس بالتخلّي أو ربما التهيؤ لفراق محتوم.
"مشاعري معلقة
بين اليأس والرجاء" → ازدواجية المشاعر تشي بصراع داخلي مستمر.
اللغة في النص
تتراوح بين المجاز والاستعارة، فتخلق صورًا متعدّدة المستويات تعبّر عن التجربة
الشعورية للساردة. غير أن بعض الجمل جاءت طويلة ومتتابعة دون فواصل، ممّا أدّى إلى
فقدان الإيقاع السردي أحيانًا، وكان من الأفضل استخدام تقنيات مثل الجمل القصيرة
أو الأسئلة الاستفهامية لتكثيف التأثير الدرامي.
الثيمة والمواضيع المطروحة
النص يعالج
ثيمات العزلة، خريف العمر، الخيبة، والانكشاف المتأخر على حقيقة الآخرين والنفس
معًا. فالساردة تعيد النظر في حياتها، وتكشف عن ندمها إزاء سذاجتها السابقة، لكنها
في ذات الوقت لا تفقد تمامًا الرغبة في استعادة بعض الأمل. وهو ما يظهر في قولها:
"فهل تستطيع الأيام الباقية ترميم نفسي واستردادها؟"
وهذا السؤال
التأملي يفتح النص على احتمالات متعددة، بين الاستسلام أو السعي للتصالح مع الذات.
البعد النفسي والدرامي
الكتابة هنا
تأخذ طابع الاعتراف النفسي العميق، حيث تحاول البطلة تفكيك ذاتها وإعادة بنائها من
خلال اعترافها بأخطائها الماضية. المشهد الذي تصف فيه علاقتها بالجدران (كصديقة
وحيدة) يجسد حالة الانعزال الداخلي، ويجعل الوحدة عنصرًا محسوسًا، لا مجرد شعور داخلي
مجرد.
أما اللحظة التي
تختلط فيها الدموع بالضحك فتعدّ نقطة تحوّل، حيث تواجه البطلة ذاتها بجرأة، وتتحوّل
من كونها ضحية إلى شخص يحاسب نفسه، ما يضفي على النص بعدًا دراميًا حقيقيًا.
الخاتمة والتساؤلات المفتوحة
النص ينتهي
بتساؤلات غير محسومة، مما يترك أثرًا عميقًا في القارئ، إذ لا يقدم إجابات جاهزة،
بل يترك المجال للتأمل. ورغم أن الساردة تشير إلى رغبتها في البحث عن "المبهج
والمنير"، إلا أن النغمة الحزينة تبقى مسيطرة، مما يعكس طبيعة الصراع الداخلي
المستمر.
هذا النص يتميز
بحساسيته العالية، ويعكس تجربة وجدانية صادقة تمتزج فيها المشاعر بالتأملات
العميقة حول العمر والعلاقات الإنسانية. ورغم طغيان الحزن والانكسار، إلا أن الأمل
يظل كامنًا بين السطور، كوميض بعيد لكنه حاضر.
#دعبيرخالديحيي الاسكندرية – مصر 23/ 2/ 2025
النص القصصي:
امرأة تتشابك مع
بقاياها
وحدي أنتظر علي
رصيف الرحيل.
أمتطي صهوة
خيالي الجامح وأستعيد ذكريات ما مضى بعد أن أصبحت في صحراء العمر مشتاقة لسحابة
تمطر علي حبًّا وحنانًا روحي معلقة بين اليأس والرجاء
أريد أن أنفض
عني أحزاني وألقي بها خارج بيتي لكن إلى أين ؟
رفعت ستائر
شباكي المسدلة من زمن وفتحت نافذتي لأستقبل الهواء؛ ولتنير الشمس جوانب حجرتي
القاتمة، واستنشقت الهواء بعمق وأخرجت زفيرًا طويلًا وكأني أطرد أحزاني لتطير في
الهواء.
أعياني طول
الوقوف في النافذة فألقيت بجسدي الواهن المتعب فوق مقعدي المتهالك، انظر حولي في
كل الأرجاء فلا أجد من يؤنسني سوى جدراني الصامته الصامدة التي أصبحت شريكتي
وصديقتي الوحيدة ولا أخجل منها، فأطلقت العنان لدموعي علي صدرها أشتكي لها من خيباتي
وانكسارات الوحدة والتهاب جروح روحي.
فعندما نصل
لخريف العمر نستطيع إسقاط الأقنعة عن كل من نافقنا واستغل عواطفنا ولعب بمشاعرنا
وصدّقناه ونتعرّف على غباءنا وغرورنا وأوهامنا التي نسجناها بكل طيبة وتسامح
وعشناها وانغمسنا فيها.
أمسح دموعي
الساخنة وأضحك ساخرة من غبائي حتي كادت تقف دقات
قلبي فبديت كالمهرج تختلط دموعي بابتساماتي لابدّ أن أعترف أمام نفسي وجدراني بأني أنا من آذيت نفسي لعدم خبرتي بنفوس الآخرين وخبايا ضمائرهم.
إنها ليلة عجيبة
مرّت عليّ كمن تقف أمام رجل الدين في الكنيسة علي كرسي الاعتراف بعد أن اكتشفتُ أني
لم أجنِ من الزهور إلا أشواكها، ومن النحل سوى لذ،عاته وضاع العمر في صراعات لا
جدوي منها ولا طائل
فهل تستطيع
الأيام الباقية ترميم نفسي واستردادها، وهل أستعيد هدوئي وسكينة قلبي أم أظل أتشابك
مع بقاياي وأستعيد ذكرى جروحي وآلامي ؟
لا أريد أن أفقد
حنان جدراني بعد أن فقدت أحبابي وأصدقائي المخلصين لابدّ أن أرضى بما أنافيه وأبحث
في نفسي عن كل مبهج ومنير في أيامي حتي أرحل في أمان وهدوء دون إقلاق الآخرين.
تعليقات
إرسال تعليق