سوريا بين فكي العاصفة: تحديات الداخل والخارج
كأن سوريا كُتِب عليها أن تكون مسرحًا دائمًا للصراعات،
تتقاذفها الأمواج العاتية من الداخل والخارج، فيما تسعى جاهدةً لإعادة ترتيب بيتها
المتداعي. كلما بدا أن المشهد يتجه نحو الاستقرار، انفتحت أبواب جديدة للعواصف،
تحمل في طياتها تهديدات تمس الأرض والهوية والوحدة الوطنية. فما تواجهه البلاد
اليوم ليس مجرد أزمات عابرة، بل اختبارات مصيرية قد تحدد ملامح مستقبلها لعقود
قادمة.
الجنوب السوري: بوابة الأطماع القديمة الجديدة
لطالما كانت العيون الإسرائيلية شاخصة نحو الجنوب، تبحث
عن ذريعة لتثبيت موطئ قدم جديد، وحين جاء الصوت المنفرد المنادي بالحماية، تلقفته
الآلة السياسية كأنما تنتظر الإشارة. لا يخفى على أحد أن الأطماع في هذه المنطقة
ليست وليدة اللحظة، فكل خطوة تُقدِم عليها تل أبيب لا تُقرأ بمعزل عن استراتيجيتها
بعيدة المدى. غير أن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في تحركاتها العسكرية أو السياسية،
بل في قدرتها على النفاذ من الشقوق التي قد تنفتح في الجدار السوري، إذا لم يُحكم
بناؤه بتماسك وطني راسخ.
التوازنات الدولية: رقعة الشطرنج المعقدة
في ظل دعوة إسرائيلية لروسيا للإبقاء على قواعدها في
سوريا، وبينما تتحاور موسكو وطهران حول المشهد السوري، وتلويح تركيا باستعدادها
لمواجهة التهديد الاسرائيلي، يبدو أن البلاد لا تزال ساحةً لتقاطع المصالح الكبرى.
كل طرف يسعى إلى ترسيخ نفوذه، وكل قرار تتخذه القوى الكبرى يحمل في طياته أبعادًا
تتجاوز حدود الجغرافيا. السؤال الذي يفرض نفسه: أين تقف سوريا وسط هذه المعادلة؟
هل ستكون لاعبًا مستقلًا في تقرير مصيرها، أم ستبقى رقعةً تُحركها الأيدي
المتنافسة وفق حساباتها الخاصة؟
النار الكامنة تحت الرماد: الفتن والتجييش الطائفي
في الظل، هناك من يحرّك الخيوط بصمت، ينفخ في جمر
النعرات، ليبعث من جديد مايتصوّر الكثيرون أنه قد خمد. يُبَثّ التحريض من كل حدب
وصوب، يُزرع الشك بين أبناء الأرض الواحدة، وكأن هناك من يسعى لتمزيق النسيج
الوطني خيطًا خيطًا. رغم محاولات التهدئة التي يقودها العقلاء، إلا أن التحريض
المتواصل قد يحفر هوةً أعمق، يصعب ردمها مستقبلًا، ما لم يُتدارك الأمر بحزم يقطع
الطريق على كل من يحاول العبث بوحدة البلاد.
اليد الخفية والفوضى الأمنية
تنام المدن السورية وتصحو على أنباء الهجمات، التي لا
تحمل بصمة واضحة لمنفذيها. في الساحل، في ريف دمشق، في حمص وحماة، تتكرر المشاهد
ذاتها: استهدافٌ هنا، تبادلٌ للاتهامات هناك، والفاعل مجهول أو معروفٌ بلا دليل.
ليست هذه سوى محاولات لإغراق البلاد في دوامة من العنف المستمر، بحيث لا تستقر على
أرضٍ ثابتة، ولا تنعم بهدوء يمكنها من التقاط أنفاسها.
شبح التقسيم وخطر التفكك
حين تغيب الثقة، وتتصاعد الشكوك، يصبح الحديث عن وحدة
البلاد أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. سوريا اليوم ليست في مأمن من خطر التقسيم، ليس
فقط بفعل التدخلات الخارجية، ولكن أيضًا بسبب التنافر الداخلي الذي يُغذى عمدًا أو
نتيجة تراكمات لم تُعالج. في الشمال، لا تزال الإدارة الذاتية تشكل ملفًا شائكًا،
وفي الداخل، يترسخ شعور بالضياع في ظل غياب حكومة رسمية تدير الأمور بحزم ووضوح.
هذا الفراغ السياسي يمنح أعداء البلاد مساحة أكبر للتحرك، ويفتح الأبواب أمام
سيناريوهات قد تكون أكثر تعقيدًا مما يبدو في الأفق.
الأزمة المعيشية: اختناق يومي بلا أفق واضح
وسط كل هذه التحديات، يقف المواطن السوري في مواجهة
معركة أخرى، ربما أشد قسوة على حياته اليومية. الغلاء ينهش قدرته على الاستمرار،
والرواتب التي تأخرت صارت عبئًا إضافيًا على كاهله المثقل أصلًا. في غياب حلول
عاجلة، تتفاقم الأوضاع، ويتحول الصبر إلى قلق متزايد، يهدد بانفجار اجتماعي لا
يمكن التنبؤ بعواقبه.
كيف تُواجه سوريا هذه العواصف؟
ليس هناك حل سحري يُبدد هذه الأزمات في لحظة، لكن
المواجهة تبدأ أولًا بترميم الصف الداخلي. وحدة البلاد ليست شعارًا يُرفع، بل نهج
يُطبق، يستوجب تغليب المصلحة الوطنية على كل الحسابات الضيقة.
تحصين الجنوب لا يكون فقط بالعتاد العسكري، بل أيضًا
بتعزيز الولاء الوطني، وقطع الطريق على أي محاولة اختراق، سواء سياسية أو اجتماعية.
إدارة العلاقات الدولية بحذر، بحيث لا تتحول سوريا إلى
ورقة بيد أي طرف، بل تكون صاحبة قرارها المستقل، وفق ما يخدم مصلحتها فقط.
إطفاء نيران الفتنة قبل أن تشتعل، من خلال خطاب وطني
جامع، يرفض كل أشكال التحريض الطائفي والمناطقي.
ضبط الأمن بحزم، لأن الفوضى هي التربة الخصبة لكل
المشاريع المشبوهة، وما يحدث من هجمات هنا وهناك يجب ألا يُترك دون ردع واضح.
تشكيل حكومة قادرة على إدارة المرحلة، لأن أي تأخير
إضافي في ترتيب البيت السياسي سيزيد من هشاشة الوضع الداخلي.
الاستجابة السريعة للأزمة الاقتصادية، عبر إجراءات فورية
تُخفف العبء عن المواطنين، وتمنحهم على الأقل أملًا بأن الغد قد يكون أفضل.
سوريا اليوم أمام مفترق طرق، حيث لا مجال لأنصاف الحلول.
إما أن تتمكن من لملمة جراحها والمضي بثبات نحو استعادة عافيتها، أو تترك الساحة
مفتوحة للمزيد من الفوضى والانقسام. القرار في يد أبنائها وقيادتها، والتاريخ لن
يرحم من يتهاون في صون الأرض وحماية وحدة البلاد.
#دعبيرخالديحيي الإسكندرية – مصر 2/3/ 2025
تعليقات
إرسال تعليق