قيامة مضادة في مدينة مغلقة: قراءة نقدية في رواية "كل شيء هادئ في مدينة الرب" للكاتب إسلام علي
مقدمة
تأتي
رواية "كل شيء هادئ في مدينة الرب" للكاتب إسلام علي بوصفها نصًا سرديًا
ينتمي إلى أدب ما بعد الكارثة، حيث تنهار الحضارة، ويُعاد تشكيل العالم وفق منطق
جديد يقوم على العنف والنجاة. في هذا السياق، تُقدّم الرواية تصورًا سوداويًا
لإنسان ما بعد الفقد، وتجسيدًا رمزيًا لسلطة بديلة تُدعى "العُشرية"،
تحكم مدينة تغيب عنها الشمس وتختنق بالخراب.
تسعى هذه القراءة إلى تحليل البنية السردية والرمزية
لهذا العمل من خلال رصد الرؤية الفكرية والنفسية، وتفكيك التقنيات السردية الموظّفة،
مع تسليط الضوء على التجربة الإبداعية للكاتب، وكيفية تعبيره عن التحولات الوجودية
في عالم مفكك بلا خلاص.
الرؤية الفكرية والرمزية في الرواية
تعتمد رواية "كل
شيء هادئ في مدينة الرب" على بناء عالم كابوسي مابعدي، تتفكك فيه منظومات
المعنى التقليدية (الدين، الدولة، الأسرة)، لتحلّ محلها جماعة تُدعى "العِشرية"،
تتحكم بالبشر وتفرض منطقًا سلطويًا قائمًا على مفهوم "سداد الدين". هذا
الدين ليس ماديًا، بل وجودي، يُسدد بالدم، ويخضع له الجميع ضمن تراتبية قاسية لا
مجال للفكاك منها.
تتقاطع هذه الرؤية مع مفهوم "القيامة
المقلوبة" الذي تتأسس عليه العِشرية؛ حيث لا توجد بشرى أو خلاص، بل بعث في
الظلام، وولادة سلطة لا تعد بشيء سوى البقاء. تمثل البطلة ميلا رفضًا صامتًا لهذا
النظام، بعيونها الزرقاء التي تثير الرعب، وبمطواتها التي تقلب ميزان القوة في
لحظة مفصلية. بينما يجسد الراوي – القاتل النادم – نموذجًا للإنسان المبتور،
المعلق بين الذنب والاستمرار.
الرواية لا تقدم نهاية، بل تنحت عالمًا بأكمله،
ملوثًا بالدخان، مشوّهًا بالندوب، حيث الكوابيس هي الحقيقة الوحيدة، وحيث يغيب
الأمل ليحل محله الحذر من "الفاتورة" القادمة.
التقنيات السردية
تعتمد رواية على سرد
مفكّك يعكس تشظّي العالم بعد انهياره، وتستخدم لذلك عدة تقنيات سردية تتكامل مع
المحتوى المظلم:
1. الراوي الداخلي/الجزئي: السرد يتم غالبًا بضمير المتكلم، عبر شخصيات
عديدة تستلم وظيفة الروي، مثل شخصية (الصيدلي السابق/محصّل الأرواح)، ما يمنح النص
بعدًا نفسيًا وتأمليًا، ويجعل القارئ، في كل فصل، حبيس وجهة نظر واحدة، مشوشة،
تمارس التبرير والاعتراف في آن.
2. الزمن المقطّع: الخط الزمني في الرواية غير خطي؛ تتداخل فيه
الاستعادات، والفلاش باك، والرؤى، وكأن السرد نفسه يعيش داخل "ذاكرة
مصدومة".
3. المشهدية والانزياح الحسي: توظف الرواية مشاهد قصيرة، مكثفة
بصريًا، تعتمد على الحواس، لتجعل المدينة شخصًا خامسًا ثقيلًا، لا يُحتمل.
4. اللغة المجازية المحمّلة: اللغة تميل إلى التكثيف والانزياح،
وتجنح إلى التوتر والغموض، ما يُعزز الشعور بالاختناق والعزلة.
5. توظيف الرمز والأسطورة: تستخدم الرواية رموزًا وأساطير مأخوذة
من الثقافات الكلاسيكية، لكن بشكل معكوس أو مفكك، لتجعل من الواقع مكانًا أكثر
عبثية من الأسطورة.
المستوى النفسي وتحليل الشخصيات
تعكس الرواية انهيار
البنى النفسية للشخصيات بقدر ما تُصوّر انهيار العالم المادي. وتُبنى الشخصيات على
خلفية صدمة جماعية، ووعي مأزوم، وخلل عميق في الانتماء.
الراوي (محصّل الأرواح): يمثل نموذجًا
للكائن ما بعد الإنساني؛ ضحية تحوّلت إلى جلاد لتنجو. يعيش حالة من الانشطار بين
ما كان عليه وما صار إليه.
ميلا: فتاة بعيون
زرقاء "تقتل"، تحمل في صمتها أكثر مما تقوله. تمثل الرفض الصامت
والمنفجر. تعاني من ذاكرة متوقدة، وألم داخلي ناتج عن فقدان الأب والمدينة والشمس.
العُشرية كمفهوم نفسي: لا تُمثّل فقط
جماعة سياسية أو دينية، بل هي تجسيد لضغط جمعي وهيمنة نفسية شمولية، تجعل كل فرد
يشعر بأنه مدين، مذنب، ومهدد دائمًا.
دراسة التجربة الإبداعية للكاتب
لا يكتب إسلام علي من
أجل التخييل وحده، بل ليُفجّر تجربة وجودية قاتمة، نابعة من وعي مثقل بانهيار
القيم، وتشوه الحاضر، وخوف متجذر من المستقبل. أسلوبه يمزج بين التأمل والوحشية،
ويمنح القارئ نافذة لرؤية إنسان ما بعد المعنى، حيث لا خلاص إلا بالذنب.
تجربته في هذه الرواية هي كتابة ضد الثبات، ضد
الطمأنينة، ضد اليقين، بل سرد يُعبر عن ضياع جيل كامل، لا يرى في
"القيامة" وعدًا بالخلاص، بل دَينًا جديدًا يُطالَب به حتى بعد الموت.
خاتمة
تُقدّم الرواية
تجربة سردية كثيفة تدمج بين الأدب الديستوبي والبعد النفسي العميق، لتشكّل شهادة
على عالم ما بعد المعنى، حيث تتحوّل النجاة إلى عبء، والدَّين إلى عقيدة، والمدينة
إلى سرداب طويل من الظلال.
من خلال شخصيات مأزومة مثل ميلا والراوي، ومن
خلال جماعة "العُشرية" بوصفها سلطة رمزية وسلوكية، يرصد الكاتب التآكل
الداخلي للإنسان حين يُجبر على العيش بلا شمس، ولا يقين، ولا حلم.
الرواية ليست مجرد نبوءة سوداء، بل تفكيك فني
وأخلاقي للعالم كما نعرفه، تُحذرنا مما قد يأتي إن خسرنا قدرتنا على قول
"لا"، ولو بكلمة، أو حتى بنظرة، مثلما فعلت ميلا.
#دعبيرخالديحيي الإسكندرية – مصر 20/5/ 2025
تعليقات
إرسال تعليق