البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق حين يقف أمام الكاميرا) للشاعرة السورية ريتا الحكيم دراسة ذرائعية بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

 



     إن ديوان (الموت أنيق حين يقف أمام الكاميرا)  تجربة شعرية غنية تتجاوز الأطر التقليدية، حيث تمزج الشاعرة بين الرؤية الفلسفية والتكثيف الرمزي، وبين التجريب اللغوي والبنية الديناميكية للنص. تتخذ القصائد منحىً وجوديًا، حيث يصبح الزمن كائنًا متحولًا، والموت ليس نهاية بل امتدادًا لحالة شعورية ونفسية متغيرة.

تركّز هذه الدراسة على تحليل البنية الديناميكية في القصائد، وكيفية تشكّل الحركة والسكون داخل النصوص، سواء من خلال التحوّلات النفسية للشخصيات، تفاعل الزمن والمكان، أو ديناميكية اللغة والمجاز. كما تسلّط الضوء على التناصّات الأدبية والفلسفية والدينية التي تمنح الديوان عمقه الفكري، بالإضافة إلى التجربة الإبداعية للشاعرة في إعادة تشكيل المفاهيم الشعرية التقليدية ضمن سياق حداثي.

وتهدف الدراسة إلى فهم آليّات التشكل الفني في الديوان، من خلال البحث في تفاعل الذات مع العالم، وكيف تتحوّل المشاعر والصور الشعرية بين الثبات والتحوّل، وبين الحضور والغياب.

 

·      التجنيس الأدبي:

    الكتاب ينتمي إلى الشعر النثري، حيث يعتمد على التكثيف اللغوي والصور الشعرية العميقة، مع التحرّر من القافية والوزن التقليدي.

 

·      سيرة ذاتية:

الاسم: ريتا الحكيم

الجنسية: سوريَّة

المؤهلات: إجازة جامعية في الأدب الفرنسي.

الإصدارات:

مجموعتان شعريتان ومجموعة قصصية.

مجموعة شعرية (كما لو أن النوتة سقطت سهوًا)

مجموعة شعرية (الموت أنيق حين يقف أمام الكاميرا)

مجموعة قصصية ( نَزق)

نشرت لها قصائد وقصص قصيرة في عدَّة مجلات.

- شاركت مرَّتين في أنتولوجيا صادرة في الهند تتضمن نصوصًا لشعراء من مختلف دول العالم و ذلك في أنطولوجيا أمارافيتي الهندية: l'anthologie Amaravati / 2018/2019/

- شاركت في موسوعة الشعر العربي النسائي المعاصر الصادرة في المغرب هذا العام /2021/ والتي وثقتها الباحثة والأديبة المغربية فاطمة بوهراكة، وهو كتاب توثيقي لشاعرات حرف الضاد في الفترة الممتدة بين عام 1950 وعام 2020 م.

 

·      البؤرة الفكرية والثيمة الرئيسية والثيمات الفرعية:

البؤرة الفكرية: تتمحور حول فكرة الموت بمفهومه الوجودي والفلسفي، حيث يظهر الموت ككيان متداخل مع الحياة اليومية، وأحيانًا كحالة شعورية يعيشها الشاعر وليس مجرّد حدث نهائي.

الثيمة الرئيسية: الاغتراب الوجودي، حيث يستكشف النص العلاقات بين الفرد والوجود، وبين الحب والفقد.

 

الثيمات الفرعية:

التناقض بين الحياة والموت.

الحب كخلاص مؤقت أو كمأساة.

الذاكرة والنسيان كجدلية دائمة.

الاغتراب الداخلي والخارجي.

·      الخلفية الأخلاقية في كتاب "الموت أنيق"

القصائد في هذا الكتاب تحمل خلفية أخلاقية مبنية على مجموعة من القيم المتشابكة، حيث تعكس النصوص أبعادًا إنسانية وسياسية وأخلاقية متعددة، منها:

1.    رفض الحروب والعنف:

تظهر الحرب كقوة مدمرة تسحق الأفراد وتغير مصائرهم، كما في المقطع الذي يشير إلى أن الحرب "ترتجل الشعر" وتسرق الحياة.

2.    المقاومة والتمسك بالهوية:

هناك مواجهة واضحة بين الفرد وقوى القمع، حيث يستعيد الشاعر هويته المسلوبة من خلال البحث عن الذات والتشبث بالذاكرة.

3.    انتقاد الظلم الاجتماعي والسياسي:

القصائد تتناول القمع السياسي بشكل رمزي، كما في الإشارة إلى "جنرالات القمع وتجار القمح"، مما يعكس نظرة نقدية للسلطة والفساد.

4.    جدلية الموت والحياة:

يتم تصوير الموت كحالة ليست فقط بيولوجية، بل كواقع نفسي ووجودي، حيث يتداخل مع الحب والفقدان والحزن، كما في المقطع من قصيدة ( حبٌّ ميتٌ لن يُحييني) الذي يقول:

"وبعد كلِّ موتٍ أنفضُ عن جسدي قمحَ الحياة

وأسألُ حفّار القبور عن جثّتي

عن صورة عاشقٍ أخفيتُها في كفني"

5.    القيم الوجودية والفلسفية:

تتعامل النصوص مع أسئلة كبرى حول الوجود والمعنى، مثل الإشارة إلى أن "الموت يتزين بمظهر أنيق"، ممّا يعكس رؤية فلسفية ساخرة عن التناقضات في الحياة.

بالتالي، الخلفية الأخلاقية للنصوص ترتكز على كشف زيف الواقع السياسي والاجتماعي، وتحمل بعدًا إنسانيًا مقاومًا ضد الظلم والقهر، مع معالجة عميقة لقضية الموت بوصفه جزءًا من الهوية والمعاناة الإنسانية.

 

·      المستوى البصري:

 الغلاف:

1.    الصورة والخلفية

 

تهيمن على الغلاف صورة بالأبيض والأسود لامرأة تقف على الأرض حافية القدمين، تبدو في وضعية ضعف أو استسلام. وقد تمزّق ثوبها فبانت سرّتها وما فوقها وتحتها قليلًا، تمسك يدُها بطرف الثوب كيلا تنكشف عورتها.

الملابس الممزقة والبيئة المهترئة تعزّز من إحساس البؤس والخذلان، ما يتناغم مع عنوان الكتاب.

التشويش الجزئي على الصورة يوحي بالزوال أو التلاشي، ممّا يعكس فكرة الموت أو المعاناة الصامتة.

2. الألوان:

الألوان الداكنة والمائلة إلى الرمادي تعزّز من الطابع المأساوي للمجموعة.

استخدام اللون الأحمر في العنوان والعمود الجانبي يرمز إلى الألم، لكنه في ذات الوقت يجذب الانتباه ويكسر كآبة المشهد.

3. العنوان والخط:

"الموت أنيق حين يقف أمام الكاميرا" عنوان يحمل مفارقة؛ الجمع بين الأناقة والموت، يوحي بسخرية مريرة من واقع مؤلم يتمّ تجميله أو عرضه وكأنّه مشهد فني.

تنوّع الخطوط وأحجامها يخلق توازنًا بصريًا ويؤكّد على الأهمية التعبيرية للعنوان.

استخدام اللونين الأحمر والأزرق في العنوان يعزّز من التناقض بين الحياة والموت، وبين الجمال والقسوة.

4. تصميم الغلاف الخلفي:

يحتوي على مقطع شعري يعكس أجواء المجموعة، ممّا يمنح القارئ فكرة عن محتوى الكتاب دون الكشف الكامل عنه.

الخط الأبيض على الخلفية القاتمة يوفر وضوحًا وسهولة في القراءة.

تكرار اللون الأحمر في التصميم الخلفي يربط بين الواجهة والغلاف الخلفي، مما يمنح التصميم وحدة بصرية.

فالغلاف يعكس طابع المجموعة الشعرية بمهارة ، فهو يجمع بين الألم والتجريد والفنية، ما يجذب القارئ إلى استكشاف المحتوى. استخدام الصورة الرمادية والعنوان المتناقض يضفيان بعدًا فلسفيًا حول الموت وصورته في الإعلام والفن.

العنوان الرئيس كمكوّن بصري نصي دلالي:

 العنوان يحمل تناقضًا دلاليًا قويًا، حيث يجمع بين مفهوم الموت المأساوي والأناقة التي توحي بجمال مخادع أو تهذيب قاسٍ للمأساة.

"الموت أنيق حين يقف أمام الكاميرا" اوما يحمل من دلالات:

1. مفارقة الأناقة والموت

"الموت أنيق":

يحمل هذا التركيب تناقضًا دلاليًا، حيث يرتبط الموت عادة بالفناء، الرهبة، والفوضى، بينما تعبر الأناقة عن الجمال، الترتيب، والتناسق. هذا التناقض يعكس رؤية فلسفية للموت كحدث يمتلك طابعًا مسرحيًا أو معدًّا سلفًا، بحيث يبدو منظّمًا وليس عشوائيًا.

2. الكاميرا بوصفها عينًا توثق الحدث:

"حين يقف أمام الكاميرا":

الكاميرا هنا تمثل عين المراقب أو الراوي، ممّا يوحي بأن الموت في هذه اللحظة ليس مجرد نهاية بيولوجية، بل مشهد مرسوم أو ممسرح. يمكن أن تعكسه الكاميرا، وسائل الإعلام، التوثيق، أو حتى الوعي الإنساني الذي يحاول فهم الموت عبر الصورة والتمثيل الفني.

3. الدلالة الفلسفية والتشكيك في الواقعية

الجمع بين "الموت" و"الكاميرا" قد يشير إلى تزييف الحقيقة أو تهذيبها عبر الصورة، حيث يصبح الموت أكثر تقبلًا عندما يُرى في إطار فني أو إعلامي.

العنوان قد يكون نقدًا لظاهرة التطبيع مع مشاهد الموت والعنف في الإعلام، حيث يتم تجميله وإخضاعه لقواعد الجماليات السينمائية.

4. البعد المسرحي والدرامي للموت

العنوان يوحي بأن الموت لا يحدث في الخفاء، بل تحت الأضواء، وكأنّه عرض يجب أن يكون متقنًا أمام عدسة الكاميرا. هذا التصوير يمنح الموت صفة تمثيلية، حيث يتوقف عن كونه مجرد نهاية عابرة ليصبح مشهدًا متكررًا أمام الجمهور.

بالنتيجة، يحمل العنوان بعدًا نقديًا وساخرًا، حيث يتم إعادة تشكيل صورة الموت في إطار جمالي وفني، مما يطرح تساؤلات حول كيف ندرك الموت عندما يصبح جزءًا من المشهد الإعلامي أو الفني.

إنه عنوان يحمل تناقضًا فلسفيًا بين الفناء والتجميل، وبين الرهبة والتمثيل، وبين الحقيقة والتوثيق المصطنع.

 

عناوين القصائد والشكل البصري للقصائد:

الكتاب يتضمن عناوين قوية تحمل بُعدًا رمزيًا مثل:

"الموت الأنيق"

"النص الماجن"

"النص المتمرّد"

القصائد موزعة في فقرات غير منتظمة، ما يعزّز الإحساس بالتشظّي الذي يعكس الفوضى الشعورية للنص.

بعض القصائد تأتي بدون عناوين واضحة، مما يعكس الطبيعة المتحرّرة للنص.

هذا التحليل يشير إلى أن الكتاب يعتمد على تجربة شعرية عميقة، ذات بنية مفتوحة تأخذ القارئ في رحلة تأملية عبر اللغة والصورة والمجاز.

 

·      الديناميكية في المستوى اللغوي والتصوير الجمالي:

1. الحركة والتباين في الصور الشعرية

تعتمد الشاعرة على ديناميكية التراكيب والتغيرات المفاجئة في الصور، ما يمنح النصوص إيقاعًا متحركًا ومتغيرًا باستمرار.

في قولها في قصيدة (الموتُ، لا يستهويه مُزاحٌ):

" أجرّ الأيام من جدائلها

وأدوّنُ على تجاعيدها ما يلي:

أنا امرأةٌ لا تصلح إلا لحزن يُخلّفُ أبناءَهُ

على جسدِها

ويتهاوى في بركة الأشواقِ الميتة"

 الحركة في الصور الشعرية:

تبدأ الشاعر بفعل قوي وملموس: "أجرّ الأيام من جدائلها"

هذه الصورة تمنح الأيام جسدًا حيًّا يمكن الإمساك به، وتحديدًا في شكل امرأة ذات "جدائل"، وهو ما يخلق حركة حسية: السحب، الجرّ، السيطرة على الزمن. هذه الحركة تشحن الصورة بطاقة ديناميكية عالية، تنقل الشاعرة من موقف المتلقي السلبي إلى فاعل يتحكم بزمنه، ولو شكليًا.

ديناميكية التراكيب:

الجملة التالية تنتقل بنا فجأة إلى فعل مختلف:

"وأدوّنُ على تجاعيدها"

هنا يتحوّل الفعل من الجذب والجر (حركة عنيفة) إلى الكتابة (حركة تأملية دقيقة). هذا التغير المفاجئ بين فعلين متناقضين (الجرّ ← التدوين) يعزّز ديناميكية التراكيب. نلاحظ أيضًا أن الصورة الثانية (التجاعيد) تعمّق البعد الزمني: فالأيام ليست فقط ذات جدائل فتية، بل هي عجوز ذات تجاعيد، ما يخلق تباينًا بصريًا وزمنيًا داخل الصورة الواحدة.

 التغيرات المفاجئة في الصور:

الجملة التالية تقدم انزياحًا دلاليًا حادًا:

"أنا امرأة لا تصلح إلا لحزن..."

من حديث خارجي عن الأيام، يعود الخطاب فجأة إلى الذات، في حركة انعطافية حادة. ثم تتجسّد صورة الحزن:

"يخلّف أبناءه على جسدها"

الحزن هنا يتحول من مجرّد شعور إلى كائن منتج، ينجب أبناءً، وتصبح المرأة (الذات الشاعرة) حاضنة لهذا الحزن المتكاثر. هذه المفاجأة (أن الحزن يخصب وينجب) تخلق صورة مقلقة وعميقة في آن، وتمثل قفزة في المخيلة الشعرية.

الصورة الأخيرة:

"ويتهاوى في بركة الأشواق الميتة"

تكمل التغير المفاجئ، فبعد الحزن النشط المنتج، نجد حركة "التهاوي"، التي تشير إلى سقوط وضعف، في فضاء "بركة" راكدة ميتة. هنا يعود الزمن إلى حالة الجمود، بعد أن بدأ بحركة الجرّ والتدوين. هذا التفاوت بين البداية الديناميكية والنهاية الساكنة يولد توترًا جماليًا في النص، ويعكس الصراع بين الحياة والموت، والحركة والجمود.

فالنص يعتمد بذكاء على ديناميكية الصور، إذ ينتقل بين الأفعال القوية (يجرّ، يدوّن، يخلّف، يتهَاوَى) والتغيرات المفاجئة في التصوير (الأيام كامرأة، الحزن ككائن ينجب، بركة الشوق كجثة ميتة). هذا التباين بين الحركة والتوقّف، وبين الخصوبة والموت، يخلق إيقاعًا داخليًا متقلبًا، ويمنح النص قوة تصويرية مشحونة بالعاطفة والصراع.

2. تجسيد التوتر والصراع الداخلي

تقول الشاعرة في قصيدة ( حين تنزلق اللغة على شفتيك):

"لا أعترف بلغة لا تخلع ملابسها وتدق بكعب حذائها العالي

على نوافذنا المعتمة .

لا أعترف بها ما لم تشعلْ أصابعَها لتضيء نفقَ تعاستنا

.... أنا الآن أكتبُ خذلاني على ورقة التوت الأخيرة

التي احتفظت بها اللغة لتحفظ ماء وجهها ".

هذا المقطع ينضح بتجسيد التوتر الداخلي والصراع النفسي، ويستخدم صورًا متمردة وجريئة لتكثيف هذا الإحساس. لنحلل كيف تحقق الشاعرة ذلك بدقة:

اللغة ككيان جسدي متمرد:

"لا أعترف بلغة لا تخلع ملابسها وتدق بكعب حذائها العالي"

هنا يتم تجسيد اللغة كامرأة، لكنها ليست صورة تقليدية للأنوثة؛ بل صورة أنثى متمردة، مثيرة، عنيفة في حركتها (دق الكعب العالي). هذا التجسيد يعطي للصراع بُعدًا جسديًا، كأن الشاعرة تطالب بلغتها أن تتحول من كائن محايد إلى كائن جريء، فاضح، مزلزل للثوابت.

هذا أول مؤشر على التوتر: فالكلام نفسه، الأداة الأساسية للتعبير، صار محل رفض وتمرّد داخلي، ما يعكس أزمة (الذات الكاتبة) مع وسيلتها الوحيدة للخلاص.

 الصراع بين الظلام والنور:

"لا أعترف بها ما لم تشعل أصابعها لتضيء نفق تعاستنا"

هنا ينتقل الصراع إلى مستوى رمزي: الظلام (نفق التعاسة) مقابل الضوء (أصابع اللغة المشتعلة). الشاعرة لا تكتفي بلغة "عادية"؛ تطالب بلغة تحترق كي تنير، ما يكشف عن قسوة الصراع الداخلي، حيث الخلاص لا يأتي إلا من خلال الاحتراق والتضحية.

هذه الصورة تجعل من الكتابة نفسها فعلًا مؤلمًا، لكنه ضروري.

 خذلان الذات وخيانة اللغة:

"أنا الآن أكتب خذلاني على ورقة التوت الأخيرة"

التوتر يبلغ ذروته هنا؛ الذات تعترف بالخذلان، والفعل (الكتابة) يتحوّل إلى طقس من فضح الفشل بدل الانتصار.

واختيار "ورقة التوت" ليس عشوائيًا؛ هذه الورقة ترمز تاريخيًا إلى ستر العورة، وهنا تقول الشاعرة إنها تكتب على الورقة الأخيرة، ما يعني أنها تكشف كل شيء، وتعرّي نفسها ولغتها.

ثم تضيف:

"التي احتفظت بها اللغة لتحفظ ماء وجهها"

وهذا يعمق الشعور بأن هناك صراعًا بين الذات ولغتها، كأن اللغة نفسها كانت تحاول أن تحافظ على ما تبقى من كرامتها، بينما الشاعرة تسحب منها ذلك الستار الأخير.

 

3. التفاعل بين الحركة والسكون:

تقول الشاعرة في قصيدة ( اللغة بريئة منّا):

" النزاعات .. والمصالحات

تنزع فتيل الصمتِ عن رغباتنا الجامحة

لاتخجل من تأوّهات حرماننا

ولا من عجزنا حين نبلغ ذروة النشوة..

ولا نفصح عنها

نختلق صمتًا من الصمت"

هذا النص يمثل مشهدًا شعريًا بليغًا في تصوير الصراع الخفي بين الحركة والسكون، حيث يُبنى التوتر على هذا التفاعل الدقيق. لنحلل بتركيز:

 بداية التمرّد على الصمت:

"النزاعات.. والمصالحات تنزع فتيل الصمت عن رغباتنا الجامحة"

هنا يبدأ النص بفعل ديناميكي واضح: "تنزع فتيل الصمت"، وكأن الصمت قنبلة موقوتة، والنزاع والمصالحة معًا (كقوتين متعارضتين) هما من يطلقان العنان لهذه الرغبات الكامنة. هذه الجملة تشحن النص بطاقة حركية، حيث تنتقل الرغبات من حالة الكمون إلى حالة الانفجار أو الاشتعال. أي أن النص يوحي أن الحركة (الرغبات الجامحة) لا تنبثق إلا بعد إزالة عائق السكون (الصمت).

 تجسيد الجسد كفضاء توتر:

"لا تخجل من تأوهات حرماننا، ولا من عجزنا حين نبلغ ذروة النشوة"

هنا تتشابك الحركتان معًا:

التأوّهات = صوت، حركة جسدية، انفعال.

الحرمان = نقص، سكون داخلي مؤلم.

ثم يبلغ النص قمته التوترية: "حين نبلغ ذروة النشوة.. ولا نفصح عنها".

هذه العبارة تجسد التفاعل الأقصى بين الحركة والسكون:

هناك حركة قصوى (ذروة النشوة).

وفي ذات اللحظة، هناك سكون صارم (عدم الإفصاح).

هذا التعايش المتناقض يصنع توترًا داخليًا عميقًا؛ كأن الجسد يهتز في ذروته، بينما يكمم الفم روحه بالصمت.

وكأننا أمام طقس داخلي من الانفجار المكتوم.

 صناعة الصمت المزدوج:

"نختلق صمتًا من الصمت"

هذه الجملة العبقرية تضاعف التوتر بين السكون والحركة. فالصمت هنا ليس مجرد غياب للصوت، بل هو صناعة نشطة، فعلٌ مقصود، كأن الذات تُحْدِث صمتًا جديدًا، أعمق، داخل الصمت الأصلي.

وهذا يوحي بأن السكون هنا ليس حالة سلبية، بل هو نشاط معقّد يخفي تحت سطحه عواصف من الحركة المكبوتة.

 الدينامية الداخلية:

ما يميز هذا النص هو أن الحركة فيه داخلية وليست ظاهرية:

الصراعات، والرغبات، والنشوة، والتأوهات كلها تتحرك في عمق الجسد والروح.

بينما السطح يظل محكومًا بالصمت والتكتم.

هذا يجعل من النص ساحة لصراع مزدوج: حركة عنيفة في الداخل، وسكون صارم في الخارج.

وهذا هو جوهر التفاعل بين الحركة والسكون هنا: الانفجار الصامت، أو الحركة المختنقة

 

4. الحراك اللغوي والصور المتحركة:

تقول الشاعرة في قصيدة ( الحياة مدفن ضيق):

" النساءُ غاباتُ سنديان محروقة

والرجال ينتحبون على جسد الريح الهزيل

يدخنون تبغًا سيء السمعة

يعيدون تدويرَ عريهم ،

ويمزّقون نصوصًا فاضحة، علّقوها على حبال شهوتهم."

النص مشحون بحركة لغوية وصور شعرية متدفقة، تنبض بطاقة بصرية ودينامية، وكأننا أمام مشهد سينمائي متتابع اللقطات. يتحقق الحراك اللغوي والصورة المتحركة هنا من خلال :

الافتتاح بصورة ثابتة ولكن مشحونة بالإيحاء:

"النساء غابات سنديان محروقة"

الصورة هنا في ظاهرها ساكنة (غابات محروقة)، لكنها محمّلة بطاقة تاريخية وبصرية كثيفة:

السنديان رمز للصلابة والجذور والقوة. لكن حين يُحرق، يصبح صورة للدمار والانطفاء.

هذه الصورة كأنها لقطة بانورامية واسعة تُمهِّد للحركة التالية، وفيها إيحاء بأن الحركة (الاحتراق) قد حدثت مسبقًا وما زالت آثارها تتصاعد.

 بداية تحريك المشهد الرجالي:

"والرجال ينتحبون على جسد الريح الهزيل"

هنا تبدأ الكاميرا الشعرية بالتحرك:

ينتحبون: فعل حركي، صوتي، جسدي.

جسد الريح الهزيل: الريح هنا مجسّدة ككائن ضعيف، هزيل، ما يخلق تناقضًا، لأن الريح عادةً قوة، وهنا تتحول إلى جسد خائر.

هذه الصورة تخلق حركة مزدوجة:

حركة الرجال في النحيب.

وحركة الريح، لكنها حركة ضعيفة، هزيلة، أشبه بالأنين.

تسارع الحراك اللغوي عبر أفعال متعاقبة:

"يدخنون تبغًا سيء السمعة"

هذا الفعل يُدخِلنا إلى حيز الحياة اليومية، لكنه مشحون بدلالة أخلاقية (سيء السمعة).

الدخان هنا هو حركة تتصاعد، ما يضيف عنصرًا بصريًا متحركًا جديدًا في المشهد.

تصعيد الحركية إلى دائرة الفعل الفاضح:

"يعيدون تدوير عريهم"

يعيدون تدوير = حركة دائرية مستمرة، فيها إيحاء بالتكرار، كأنهم يستهلكون أنفسهم بلا نهاية.

عريهم = الصورة تتجاوز الحركة الجسدية إلى حركة رمزية: إعادة إنتاج الفضيحة، إعادة استهلاك الجسد.

ذروة الحركة في تمزيق النصوص:

"ويمزقون نصوصًا فاضحة، علّقوها على حبال شهوتهم"

يمزقون: فعل عنيف، سريع، حاد.

نصوصًا فاضحة = تحريك الصورة إلى فضاء اللغة، كأن الصراع هنا انتقل من الجسد إلى الورق، إلى الكلمة نفسها.

علّقوها على حبال شهوتهم = صورة متحركة جدًا:

الحبال = عنصر بصري يوحي بالتعليق، التأرجح، الحركة.

شهوتهم = تمنح الحركة طابعًا غريزيًا، جسديًا.

وهكذا نجد الصورة تزداد ديناميكية: من الدخان، إلى التدوير، إلى التمزيق، إلى التعليق، كأننا أمام سلسلة من الأفعال المتتابعة التي تصعّد الإيقاع الحركي للنص.

كيف يتحقق الحراك اللغوي والصور المتحركة هنا؟

عبر تتالي الأفعال: (ينتحبون، يدخنون، يعيدون، يمزقون، علقوها).

وعبر التناقضات الحركية: الريح (الهزيلة) التي يُنتحب عليها، الدخان المتصاعد، العري المدور، النصوص الممزّقة.

وعبر التحريك الرمزي: تحويل الجسد، والريح، والنصوص إلى كائنات تتحرك، تئن، وتُستهلك.

فالنص يشتغل على الحركة كأداة فضح، حيث تتحرك الصور من السكون (الغابات المحروقة) إلى النحيب، فالتدخين، فالتدوير، فالتمزيق، في تتابع يُصعد المشهد حتى يبلغ قمة الانكشاف والفضيحة.

واللغة هنا ليست فقط أداة وصف، بل آلة سينمائية تصنع صورًا تنبض بالحركة وتُجبر القارئ على ملاحقتها بنظرته وخياله.

 

·      المستوى الديناميكي في البناء:

1.الحركة والصراع الداخلي

    تعتمد الشاعرة على الحركة المتوترة داخل النصوص، حيث نجد تصادمًا مستمرًا بين الأفعال والانفعالات، كما في قولها في قصيدة ( القصيدة تهوى المنافيَ البعيدة):

" في آخر موت له ..

علِق في برزخ الشعر وهو يوزِّع قصائدَه الشاحباتِ

على العابرين

لاجدوى من حبر يغدو دمعةً حارقة

في مآقي القصيدة"

هذا المقطع يشتغل بدقة على ثنائية الموت والبعث، ويُجسِّد حركة بطيئة مأساوية، حيث يتداخل الزمن الشعري (برزخ، انتظار، توزيع) مع الزمن الانفعالي (دمعة، حرقة، لا جدوى).

أهم عناصر الصورة المتحركة والتوتر الديناميكي في النص:

الافتتاح بـ"في آخر موت له"

هذه العبارة تخلق مباشرة زمنًا دائريًا؛ إذ إن الموت عادةً فعل نهائي، لكن هنا صار آخر موت، ما يوحي بأنه تكرر من قبل، وكأنه سلسلة من الانطفاءات.

العبارة نفسها توحي بحركة الاحتباس: الشخصية عالقة بين موت متكرر وبعث غير مكتمل.

"علق في برزخ الشعر"

البرزخ في الدلالة الصوفية والدينية هو منطقة بين الحياة والموت، بين الفعل والسكون، وهنا يُصبح الشعر نفسه هذا البرزخ.

هذه صورة ساكنة-متحركة في آن: الشخصية عالقة (ساكنة)، لكنها توزع قصائده (متحركة).

هذا التضاد بين السكون (العلق، البرزخ) والحركة (التوزيع) يصنع توترًا داخليًا متواصلًا في النص.

"وهو يوزع قصائده الشاحبات على العابرين"

يوزع: فعل حركي، فيه حركة يد، لقاء مع الآخر، انتقال.

القصائد الشاحبات: الصورة هنا تضع القصائد في جسد مريض، شاحب، خافت، بلا حياة.

العابرين: يضيف حركة أخرى، فهم يمضون، لا يستقرون، ما يعمق الشعور باللاجدوى. القصائد تتحرك باتجاههم، لكنهم لا يتوقفون، ما يخلق حركة عبثية مستمرة.

 "لا جدوى من حبر يغدو دمعة حارقة"

هنا الذروة في الصورة المتحركة:

الحبر (رمز الكتابة) يتحول إلى دمعة (رمز الألم)، أي أن الكتابة تتحوّل إلى بكاء.

يغدو = فعل تحوّل، وهو الذي ينقلنا من حالة إلى أخرى، ما يخلق دينامية داخل الصورة.

دمعة حارقة: الدمعة عادة رمز للراحة والتنفس، لكنها هنا مؤلمة، ما يضاعف التوتر الداخلي

"في مآقي القصيدة"

الصورة تصل إلى أقصى التجسيد:

القصيدة لم تعد ورقًا أو كلامًا، بل صارت كائنًا له مآقٍ (عيون)، تبكي بدورها.

هذا التجسيد يُحرك الصورة من التجريد إلى الجسد، فيستكمل دائرة التحوّل:

من الحبر (مادة جامدة)

إلى الدمعة (سائلة، حية)

إلى مآقي القصيدة (عين القصيدة ككائن حي يبكي).

الحركة هنا تصاعدية وتحويلية، تشتغل على تحويل الجماد إلى كائن نابض بالألم.

2. التوتر الدرامي والتمرّد على الثبات:

     تقول الشاعرة في قصيدة ( لاتدخلني في التجربة):

"أنا سأكمل ثرثرتي على أنقاض صمتك، وأنت تركض حافيًا خلف سراب الكلمة".

هنا يتم تضاد بين الحركة (الثرثرة والركض) والسكون (الصمت والسراب)، مما يعكس تفاعلًا داخليًا بين الشخصيات داخل النص.

استخدام "الثرثرة على أنقاض الصمت" يوحي بأن النصوص نفسها في حالة إعادة تشكيل دائمة، حيث تتحرك بين الفوضى والسكون.

3. الزمن كقوة ديناميكية متحركة

"حين تذعن لرغبة الغيم بالهطول".

هنا يتم تقديم الزمن كمكوّن متغيّر، حيث يكون الهطول نتيجة لاستسلام الغيم، مما يعكس حتمية التحولات.

4. الزمن كعنصر متغير

"الوقت الآن في العناية المشددة"

هنا يتمّ التعامل مع الزمن كديناميكية قائمة بذاتها، حيث يخضع للتحوّل والاضمحلال.

هذه الصورة تجسد التغير المستمر للزمن وكأنه كائن حي يخضع للضعف والانهيار.

5.التناقض الديناميكي بين الحياة والموت

"نصف موت هنا.. ونصف موت هناك.. وحين أفرغ من موتي، أطأ مراياك المكسورة حافية القدمين"

هذه الصورة تقدم الموت كعملية مستمرة، وليس كحالة ثابتة، مما يعكس ديناميكية الصراع مع الفناء.

"وبعد عدّة ميتات، أدرك لماذا لا تليق بنا الحياة".

التكرار هنا يعزز إيقاعًا متحركًا بين الفناء والبقاء، حيث يصبح الموت تجربة متجددة بدل أن يكون نهاية قاطعة.

وهنا يتجلى المستوى الديناميكي في نصوص الشاعرة من خلال:

التوتر الحركي داخل الجملة الشعرية، حيث يتم تصوير الذات في حالة تغير مستمر.

استخدام أفعال وصور تدل على الانفجار، الاحتراق، التردد، والتحول.

الزمن كقوة متغيرة وغير مستقرة، مما يخلق حالة من التناقض الديناميكي بين الفناء والاستمرار.

بهذه العناصر، تظلّ النصوص في حالة دائمة من التحول والحركة، مما يجعلها نابضة بالتوتر والانفعالات المتغيرة. هذا المستوى يعتمد على التحولات المستمرة، سواء في الزمن، المشاعر، أو العلاقة مع الآخر. يتم تصوير الواقع كمجموعة من الحركات المتتابعة التي تتصادم فيما بينها، مما يمنح النصوص طابعًا متغيرًا ومتجددًا باستمرار.لتصعيد الديناميكي يظهر بوضوح، فالشاعرة لا تصف نفسها فقط، بل تعيش التغير وتندمج مع الحركة.

 

·      المستوى النفسي :

 

1.    القلق الوجودي والهوس بالموت:

في قصيدة ( حبٌّ ميت لن يحييني) تثول الشاعرة:

"أحصي أنيني قبل الموت وبعد الموت"

هذا المقطع يعكس هوسًا بالموت كحالة مستمرة وليست مجرد نهاية، مما يشير إلى قلق وجودي دائم.

2.    الحنين والانغماس في الماضي:

من نفس القصيدة :

"أعاود الركض إلى الخلف لاهثة الأنفاس

 أفتش في جيوب الماضي عن خيباتي

 وأمضغها متلذذة بمرارتها"

استخدام الفعل "أمضغها متلذذة بمرارتها" يشير إلى نزعة نفسية تميل إلى اجترار الألم بدل تجاوزه.

3.    التشاؤم والصراع النفسي:

أيضًا من نفس القصيدة:

"موت واحد لم يعد يكفيني"

تعبير "موت واحد لم يعد يكفيني" يعكس شعورًا نفسيًا بالإنهاك العاطفي، وكأن الموت المتكرر هو السبيل الوحيد للتعبير عن الألم.

"بين موت وآخر نموت"

هذه الجملة تؤكد فكرة التكرار الدراماتيكي للحزن والفقدان، حيث يصبح الموت حدثًا دوريًا لا نهاية له.

4. الشعور بالاغتراب واللا انتماء

"أنها كهذه البلاد، لا تعترف بأسماء حزني السبعة"

هذه الجملة تكشف إحساسًا عميقًا بالغربة، وكأن الشاعرة تعيش على هامش العالم، غير مندمجة معه.

"وكأننا ما خُلقنا إلا لنغرف الحزن ونزيّن به موتنا المرتقب"

الحزن هنا ليس مجرد شعور، بل حالة دائمة، وكأنه تأشيرة عبور إلى الحياة نفسها.

تعكس النصوص حالة نفسية مأزومة، حيث تتكرر ثيمات الموت، الاغتراب، الحنين، والتشاؤم.

الشاعرة تتعامل مع الألم كشكل من أشكال الوجود، حيث لا تحاول تجاوزه بقدر ما تغوص فيه وتتأمل تفاصيله.

البنية النفسية للقصائد قائمة على التوتر بين الحياة والموت، وبين الحاضر والماضي، مما يجعل التجربة أشبه برحلة دائمة بين الذكريات والقلق الوجودي.

 

المدخل السلوكي:

1.    تأثير التجربة على النصوص

الشاعرة تستند إلى تجربة ذاتية مكثفة تترجمها في النصوص عبر سلوكيات نفسية وشعورية تتكرر داخل القصائد، مما يعكس حالة وجدانية وانفعالية تفرض نفسها على اللغة والبناء الشعري.

في قولها:

"أحصي أنيني قبل الموت وبعد الموت"،

هنا يتجلى سلوك ذهني متكرر يرتبط بالوعي الدائم بالموت كحالة حاضرة، مما يكشف عن تأمل دائم في الفناء.

"أفتح صندوق الذكريات الأسود، يرفرف حزني العتيق"

فعل "فتح الصندوق" يوحي بمحاولة مواجهة الماضي، لكنه مليء بالحزن المتجدد، مما يعكس سلوكًا نفسيًا متكرراً يرتبط بالاجترار العاطفي.

2.    التساؤلات الفلسفية والوجودية

التساؤل في النصوص ليس مجرد أداة بلاغية، بل حالة دائمة من البحث عن المعنى، حيث تتكرر الأسئلة التي تعكس قلقًا وجوديًا ومعاناة داخلية.

"لم ولدت؟ لم سأموت؟"

هذه الأسئلة تجسد القلق الفلسفي حول المصير، وهو تساؤل جوهري في الأدب الوجودي.

"أين أنت؟ أين أنا؟"

هذه الأسئلة تعكس حالة التيه والاغتراب النفسي، حيث يتم فقدان الإحساس بالزمن والمكان والهوية.

"كيف للغة مهدور دمها أن تغفر لأيلول شحوبه؟"

هذا التساؤل يتخذ بعدًا جماليًا وفلسفيًا في آنٍ واحد، حيث تتحول اللغة إلى كائن حي يعاني مثل الإنسان.

 

تتجلى السلوكيات النفسية في النصوص من خلال اجترار الأحزان، وتكرار الانشغال بالموت والغياب.

التساؤلات الفلسفية تعكس حالة عدم اليقين والبحث عن المعنى، حيث تتحول القصيدة إلى مساحة تأملية وجودية.

هذه العناصر تجعل النصوص ليست فقط تجارب شعورية، بل أيضًا أدوات فلسفية لسبر أغوار الذات والعالم.

 

المدخل التقمصي الوعظي

1. التقمص كآلية تعبيرية

تعتمد الشاعرة على التقمص في التعبير عن حالات نفسية وروحية، حيث تلجأ إلى استحضار ذوات متعددة داخل النص، مما يعكس تعددية صوتية تمنح النص بعدًا وعظيًا وتأمليًا.

في قولها:

"طوبى لمن رافقتهم الوحدة إلى الطرف الآخر من الحياة، طوبى لمن اقتنع أن الحياة خدعة وسخر منها، طوبى لمن بالحرب والنأي كفر".

استخدام التكرار الوعظي عبر "طوبى لمن" يعكس خطابًا شبه ديني، حيث يتم تقديم الحياة كحكمة مُتعلمة من التجربة.

هذا التكرار يذكرنا بأسلوب المواعظ الدينية أو الصوفية التي تعتمد على الإيقاع اللفظي لتعزيز الفكرة الفلسفية.

 

2. الوعظ كموقف فلسفي

في مقطع آخر، تقول:

"أركل العالم بقدمي الصغيرتين، أنا الموقّعة أدناه، أعترف أنني لم أكن يومًا أنا".

هنا يظهر البعد الفلسفي الوعظي، حيث يتم الاعتراف بعدم الثبات والهشاشة الوجودية.

هذه النزعة تحاكي النبرة الصوفية أو التأملية التي تتساءل عن الذات والمعنى.

 

3. استدعاء الخطاب الوعظي في مواجهة الزمن

"الحياة ضلع قاصر يأبى النضوج، يهيم على وجهه في المدافن".

هنا يتم تقديم الزمن بوصفه كيانًا غير مكتمل، مما يعكس نظرة فلسفية وجودية تشبه الطرح الصوفي حول الزمن والفناء.

التقمص في القصيدة ليس مجرد استبدال للأصوات، بل هو محاولة لصياغة خطاب وعظي فلسفي يعيد تشكيل الذات داخل النص.

استخدام الجمل التكرارية والأسلوب التأملي يعكس نزعة صوفية أو وجودية تقترب من المونولوج الداخلي الوعظي.

اللغة الوعظية لا تُستخدم لتقديم حلول، بل تفتح أبواب التساؤلات حول الحياة والموت والهوية

التناص في تجربة الشاعرة

تعتمد الشاعرة على التناص المتعدد المستويات، حيث تستلهم نصوصًا دينية، فلسفية، وأدبية، مما يمنح قصائدها بعدًا فكريًا عميقًا، ويجعلها منفتحة على أكثر من تأويل.

1. التناص مع النصوص الدينية

تقول الشاعرة:

"ملحدة أنا، لا أؤمن بكتب سماوية تجعلنا نبدو بعين المطر نصَّين عدوَّين، يتقاتلان خارج أسوار القصيدة".

هنا تتجلّى جدلية المقدّس والتشكيك، حيث تتفاعل مع التقاليد الدينية، لكنها تعيد تأويلها من منظور نقدي وفلسفي.

هذا المقطع يحمل صدى للنزعة الفلسفية التي تحاكي أسئلة الوجود والقدر والمصير، كما نجدها في نصوص أدونيس، الذي أعاد قراءة التراث من زوايا حداثية.

في قولها:

"يقوم من بين الأموات مسيح.. هللويا هللويا"،

تستدعي فكرة القيامة والخلاص، لكنها توظفها في سياق ساخر، مما يذكرنا باستخدامات محمود درويش للأسطورة الدينية في شعره، حيث يجعلها جزءًا من تجربة الإنسان اليومية بدل أن تبقى في مجالها اللاهوتي.

2. التناص مع الأدب العالمي والحديث

في اختيارها لاسم "إلزا" كإشارة إلى إلزا تريوليه، ملهمة لويس أراغون، يبدو التناص واضحًا مع الشعر الفرنسي، حيث تستعير رمزية إلزا كأنثى ملهمة، لكنها تعيد تشكيلها في سياق الحروب والضياع العاطفي.

في جملة:

"منذ آخر نص بللته بريق انتظارك، وأنا لست على أهبة التاريخ والجغرافيا"،

نجد صدى للنبرة التي تبناها سعدي يوسف ومحمود درويش، حيث تتقاطع التجربة الشخصية مع البعد الجغرافي والتاريخي، لتصبح الذات متنقلة بين الأزمنة والأماكن.

3. التناص مع الأسطورة والفلسفة

في قولها:

"الحكاية تقول إن الحياة لا تؤمن بتعدّد الأمنيات"،

نجد تداخلًا مع الفلسفة العبثية عند ألبير كامو وسارتر، حيث يتم التشكيك في المعنى الوجودي للحياة، والتأكيد على حتمية العبث.

عندما تقول:

"الوقت الآن في العناية المشدّدة"،

نجد انعكاسًا للرؤية الفلسفية الزمنية عند بورخيس، حيث يتم التعامل مع الوقت ككائن حي يعاني من التحلل، وليس مجرد مقياس مجرد.

تتناص الشاعرة مع أدونيس، محمود درويش، وسعدي يوسف في توظيف النصوص الدينية والتاريخية في سياقات معاصرة.

تستدعي الأسطورة والفلسفة بشكل يوازي استخدامات بورخيس وكامو وسارتر، حيث يكون الزمن والحياة سؤالين مفتوحين على العبث واللاجدوى.

اللغة تحمل في بعض مواضعها ظلالًا من الشعر الفرنسي، خاصة في استدعاء إلزا وتوظيف البنية السردية الشاعرية كما في تجربة أراغون.

بهذا، تبدو التجربة الشعرية متعددة الجذور، لكنها لا تتوقف عند الاستلهام، بل تعيد إنتاج التناص في سياق خاص يعكس رؤية الشاعرة للعالم.

 

اخترت أن أتناول بالتحليل الذرائعي  بعض قصائد المجموعة:

§      القصيدة الأولى: "الموت لا يستهويه مزاح"

القصيدة ترتكز على رؤية فلسفية للموت بوصفه كيانًا صارمًا لا يقبل التفاوض أو التخفيف بالمزاح، حيث تطوقه الشاعرة بالمجاز والصور العميقة لإبراز جديته.

الخلفية الأخلاقية للنص تتمثل في طرح الموت كحتمية وجودية، لكن في الوقت ذاته يتم تحميله دلالات إنسانية ونفسية تعكس صراع الذات مع المصير.

ديناميكية الصور البصرية يظهر في تكرار الصور القاتمة مثل "يطوقني العالم بأصابعه النحيلة" و"أنشر رسائلي بأسماء مستعارة"، حيث يتم رسم لوحة تمثل العزلة والخوف من المجهول.

لغويًّا :القصيدة محملة بإيقاع داخلي قوي نابع من التكرار والصور المتقنة.

على سبيل المثال، الجملة:

"أقول للخوف: توارَ واخلد إلى النوم، لا يليق بك السهر"

تحمل إيقاعًا موسيقيًا نابعًا من التوازن في الكلمات والتضاد بين "توارَ" و"اخلد إلى النوم".

الجملة تتضمن نداءً صريحًا للخوف، مما يضفي طابعًا دراميًا على النص.

التراكيب النحوية: الجمل في القصيدة قصيرة ومتتابعة، مما يعكس سرعة الإيقاع وتوتر الشعور. كما أن الجمل الاعتراضية والمفارقات اللغوية مثل:

"الموت لا يستهويه مزاح"

تجعل النص يبدو وكأنه تأمل داخلي تتخلله وقفات فكرية.

التكرار:

يظهر التكرار كعنصر بنائي في النص، حيث يتكرر المعنى بأشكال مختلفة مثل:

"أعيد قراءة الموت من وجهة نظر الخوف"

هنا نجد استخدامًا للتكرار بأداة جديدة، مما يضفي بعدًا فلسفيًا على النص.

الصور البلاغية والمجازات:

النص غني بالصور التي تدمج بين الحسي والمجرد، مثل:

"يطوقني العالم بأصابعه النحيلة"

هنا تتحول المجردات إلى كيانات محسوسة، حيث يُصور العالم وكأنه كائن حي يحيط بالشاعرة.

أيضًا، تصوير الخوف وكأنه كيان يمكنه السهر أو النوم يضفي بُعدًا تجسيديًا مؤثرًا.

التضاد والتناقض:

تعتمد القصيدة على التناقضات لإبراز عمق الفكرة، كما في:

"الموت لا يستهويه مزاح"

حيث يتم وضع "الموت" الصارم بجانب "المزاح"، مما يخلق تناقضًا جماليًا يلفت الانتباه.

القصيدة تتسم بلغة مشحونة بالعاطفة والعمق الفلسفي، حيث تمزج بين الصور البلاغية والإيقاع الداخلي والتكرار، مما يمنحها طابعًا جماليًا قويًا.

على المستوى الديناميكي هناك توتر بين الجمود والحركة، فالشاعرة تتنقل بين حالات مختلفة من التأمل في الموت، والخوف منه، ومحاولة استيعابه.

وعلى المستوى النفسي: القصيدة تتسم بشحنة وجدانية عالية، حيث تنقل الإحساس بالخوف الوجودي من الموت، لكنها في الوقت ذاته تعكس حالة من التحدي عبر قولها:

"أقول للخوف: توارَ واخلد إلى النوم"، مما يشير إلى موقف يقاوم الاستسلام.

التناص الأدبي:

يمكن ملاحظة تناص مع الفلسفة الوجودية، حيث يظهر أثر الأفكار التي تطرح تساؤلات حول الموت والخوف واللاجدوى.

§      القصيدة الثانية : "من طين وصلصال جبلنا"

 البنى الفلسفية في قصيدة:

القصيدة تحمل العديد من البنى الفلسفية التي تتداخل مع البعد الوجودي، حيث توظف رمزية الطين والصلصال لتعكس عدة مفاهيم فلسفية:

1. التكوين الإنساني والجدل الوجودي

العنوان نفسه "من طين وصلصال جبلنا" يستند إلى بعد ديني وفلسفي يشير إلى أصل الإنسان، لكنه يوظف هذا المفهوم في سياق نقدي للحياة والحروب.

يظهر تساؤل وجودي حول طبيعة الإنسان في مقابل الأحداث الكبرى، كالحروب والمآسي.

2. التاريخ والدورة الزمنية للحروب

في المقطع:

"سنحتسي النبيذ كما كنا نفعل قبل سبعِ حروب"

توحي الجملة بأن التاريخ يعيد نفسه في دائرة لا نهائية من العنف والدمار، وهو مفهوم فلسفي يتلاقى مع فكرة "العود الأبدي" لدى نيتشه.

3. العبثية واللاجدوى

"لن أسألك عن حرب ترتجلُ الشعرَ الرديْ

 على خصور الغانيات"

يتم تصوير الحرب وكأنها تلعب دور الشاعر، لكنها تفعل ذلك بسخرية عبثية. هنا يظهر البعد السارتري والعبثي، حيث يصبح الإنسان مجرد متلقٍّ لأحداث قاسية بلا معنى.

4. جدلية الموت والحياة

يتم توظيف فكرة الموت كمحرك للحياة، وكأنه جزء من معادلة حتمية لا يمكن الفرار منها.

"ونتبادل نخب موتنا الآتي من شقوق الغيم"

يتم تقديم الموت كشيء محتوم، لكنه يأتي من "الغيوم"، مما يضفي عليه بعدًا شاعريًا يخفف من وطأته.

القصيدة تطرح تساؤلات فلسفية حول طبيعة الإنسان، والجدلية المستمرة بين الحرب والحياة، والعبثية التي تحكم الوجود. توظف اللغة الرمزية والصور الشعرية لتعميق هذه المفاهيم، مما يجعلها نصًا فلسفيًا بامتياز.

§      القصيدة الثالثة : "لا عذرَ لكِ أيتها الحرب"

دراسة البنية الرمزية والإيحائية والتصويرية في قصيدة

1. البنية الرمزية

"حول ذاكرتي.. تزدحم أجزائيَ على مشارفها

وأنزف اسمي واسمَك": يشير إلى فلسفة العدمية، حيث يتم تصوير الموت والدمار كقوة تمحو الأفراد من سجل الذاكرة .

2. البنية الإيحائية

توحي القصيدة بأن الحرب تستمر في التلاعب بالمصائر، حيث تصور رجلاً يعبر شوارع الذاكرة، مما يرمز إلى الأثر النفسي العميق الذي تتركه الحرب في نفوس الناجين.

"لن أقربك إلا وأنا غائبة عن الوعي": تعبير يوحي بأن مواجهة ذكريات الحرب تتطلب فقدان الوعي، وكأن الألم لا يُحتمل إلا إذا كان الإنسان مخدرًا أو منفصلًا عن الواقع.

3. البنية التصويرية

تعتمد القصيدة على صور بصرية وحركية تعزز أجواء الحرب والدمار:

"الموت يدس أنفه الطويل في العتبات": تشبيه مجازي يصور الموت ككيان متطفل لا يترك البشر وشأنهم، بل يتسلل إليهم عبر تفاصيل حياتهم اليومية.

"التماثيل لا مكان لها إلا في العراء": ترميز لغياب الأمان، حيث يُصبح كل شيء مكشوفًا أمام الفناء الذي تفرضه الحرب.

"نخب موتنا الآتي من شقوق الغيم": صورة تجمع بين القدرية (الموت الذي يأتي من السماء) والاحتفاء المرير بالموت كما لو كان كأسًا يتم تجرعه.

القصيدة توظّف الحرب كرمز للفوضى والعبث، وتستخدم تقنيات التصوير والإيحاء للكشف عن آثارها النفسية والاجتماعية، مما يجعلها نصًا غنيًا بالدلالات الفلسفية والوجودية.

§      القصيدة الرابعة : "ما زلت كذبة بيضاء"

الصور المشهدية الجمالية والمجازات في قصيدة

1. الصور المشهدية الجمالية

القصيدة تقدم صورًا مشهدية مرسومة بدقة، تعتمد على التلاعب بالضوء والظل والفراغات، مما يعكس أجواءً شاعرية تتداخل مع الشعور بالغربة والحيرة:

"لأنني أرتق بكَ جرحَ السماء"

مشهد بصري قوي يجمع بين العاطفة الكونية والصورة الجسدية، حيث تتحول السماء إلى كائن حي ينزف، والشاعرة تحاول تضميده.

"خلعت رداء كذبة بيضاء منسية على رفوف الذاكرة"

مشهد استعاري يجسد الذكريات كأشياء ملموسة، توضع على الرفوف مثل أشياء منسية، مما يعزز الإحساس بالضياع لا يكف عن التواني

تصوير المشاعر وكأنها ظلٌ يتحرك ببطء، يوحي بالرهبة والضياع في العلاقة مع الآخر .

" ظلّكَ الذي لا يكفُّ عن التواري كلّما تثاءبَ الليلُ

من كوّة زنزانتي"

2. المجازات في القصيدة

القصيدة غنية بمجازات عديدة وعميقة:

المجاز المكاني:

"من كوة زنزانتي": الزنزانة هنا ليست مجرد مكان، بل تمثل حالة عقلية ونفسية تعكس السجن الداخلي الذي تعيشه الشاعرة .

المجازات الزمنية:

"حين يسكنه الصمت ويبني فيه مملكته": يبني مملكة داخل الجسد، مما يرمز إلى هيمنة الوحدة أو العزلة على الكيان النفسي للشاعرة .

المجاز الحسّي:

"تشبه ضوءَ الفجر وماءَ النهر": استخدام الضوء والماء كرموز للنقاء وآلة في العثور على حقيقة مطلقة أو حب صادق .

القصيدة تعتمد على الصور المشهدية الدقيقة والمجازات العميقة، حيث تتحوّل المشاعر والذكريات إلى كيانات، ما يعزّز البعد الفلسفي والعاطفي للنص.

 

§      القصيدة الخامسة : " النص المتمرّد"

تحليل تقنية التوازي في قصيدة "النص المتمرد"

1. تعريف تقنية التوازي في القصيدة:

تقنية التوازي تعتمد على تكرار البنية التركيبية أو الدلالية داخل النص، مما يخلق إيقاعًا داخليًا يعزّز المعنى ويمنح القصيدة توترًا تعبيريًا. في قصيدة "النص المتمرد"، يظهر التوازي في عدة مستويات:

2. التوازي التركيبي:

تتكرّر تراكيب مثل:

"النص المتمرّد"

"النص الأخير"

"لن يقرأ لك أحدٌ ما لم تدوّنه بدمكَ القاني"

"لن يقرأ لك أحدٌ ما لم تحتضر على عتباته"

هذه العبارات تحمل بنية تركيبية متوازية، حيث يبدأ كل سطر بنفس التركيب اللغوي، ممّا يعزز الإيقاع الداخلي ويوجه انتباه القارئ نحو تصاعد الدلالة.

3. التوازي الدلالي

التكرار ليس مجرد إعادة للألفاظ، بل يعكس دلالة متصاعدة:

"لن يقرأ لك أحد ما لم تدوّنه" = الكتابة شرط للقراءة.

"لن يقرأ لك أحد ما لم تحتضر على عتباته" = الكتابة الحقيقية تتطلب التضحية والمعاناة.

هنا، يتطوّر المعنى من مجرد الفعل الكتابي إلى الارتباط بالموت والتضحية، ممّا يضفي بعدًا فلسفيًا على القصيدة.

4. التوازي الإيقاعي

التكرار في بداية الجمل يصنع إيقاعًا موسيقيًا داخليًا يجعل القراءة أكثر تأثيرًا.

الفواصل الزمنية بين الجمل تعكس إيقاعًا تدرجيًا في تصاعد الأفكار، حيث يتحوّل التكرار إلى وسيلة لإبراز الفكرة المركزية للنص: التمرّد والكتابة كفعل مقاومة.

تقنية التوازي في القصيدة ليست مجرّد أداة أسلوبية، بل تعكس رؤية فلسفية حول ماهية الكتابة، إذ يتمّ تقديمها كفعل وجودي لا يكتمل إلا عبر المعاناة والتمرّد، ممّا يجعل النص يرفض الثبات في إطار محدد.

 

§      القصيدة  السادسة : "ما خُلِقتُ يومًا من ضلع آدم"

 

1.    موضوع القصيدة

القصيدة تعيد مساءلة مفهوم الخلق والهوية النسوية، حيث ترفض الشاعرة الفكرة التقليدية التي تربط المرأة بكونها مخلوقة من ضلع الرجل (آدم). النص يحمل نبرة تمرّدية على الخطاب الذكوري، مشيرًا إلى أن المرأة كيان مستقل لا يستمد وجوده من الرجل.

يظهر ذلك بوضوح في جملة:

"ولأنني ما خُلقتُ يومًا من ضلع آدمَ

ذبحتُ صمتكَ المبين من الوريد إلى الوريد"

حيث يتم استبدال فكرة الخلق البيولوجي بفكرة الخلق العاطفي والإبداعي.

 

2.     اقتران موضوع الخلق باللغة

اللغة كمجال للتمرد:

الشاعرة تربط بين الخلق واللغة من خلال التأكيد على أن المرأة ليست مجرد انعكاس أو ظل للرجل، بل كيان يخطئ ويصيب داخل اللغة كما في:

"أخطاء عرجاء، تثرثر كنساءِ الحارات العتيقة"

هنا تدمج اللغة بالجسد النسوي، حيث يتم تصوير الأخطاء على أنها كائنات نسائية تتحدث بل تتحدّث بلا توقّف مما يشير إلى رفض المعايير اللغوية الذكورية.

3.    التلاعب بالدلالة اللغوية:

الشاعرة لا ترفض فقط الفكرة الدينية التقليدية عن الخلق، بل تربطها بأسلوب كتابي يعيد تشكيل العلاقة بين الجسد، اللغة ، والهوية.

في الجملة :

" تضع رجلًا على رجل

وتُدخّنُ لفائف التبغِ على العتبات"

هذا التصوير يجعل اللغة ذات كيان أنثوي مستقل، حيث تصبح الأخطاء شخصية تتخذ وضعية الاسترخاء والتفكير، مما يعزز الفكرة بأن اللغة ليست جامدة بل خاضعة للتأويل والتطور.

فالقصيدة تستخدم اللغة كأداة لكسر القوالب التقليدية حول المرأة والخلق، حيث تعيد تشكيل الفكرة الأسطورية من منظور لغوي وشعري، مما يجعلها بيانًا شعريًا ضد المفاهيم التقليدية التي تحصر الرأة في إطار التبعية للرجل.

§      القصيدة السابعة: " لا مكان لي في سياق النص"

تقنية السخرية: في قصيدة "لا مكان لي في سياق النص"

تعتمد القصيدة على تقنية السخرية كأداة تعبيرية قوية، حيث تستخدم التناقض، المفارقات، والتلميحات النقدية لتقديم رؤية لاذعة حول واقع الكتابة، القراءة، والنشر.

1.     السخرية من المؤسسة الأدبية

"الناشرُ ملحدٌ عتيقٌ والقارئ شيخٌ ضالٌّ

يلفُّ عمامتهُ حولَ خصرِ تلك النصوص"

هذا المقطع يحمل تناقضًا ساخرًا بين طرفين متضادّين، ممّا يعكس رؤية تهكمية للمؤسسة الأدبية التي تبدو فاقدة للاتساق.

التصوير هنا يسلط الضوء على العبثية التي تحكم العلاقة بين الناشر، القارئ، والنص.

2.    السخرية من القارئ والناقد

"يراقصها التانغو والفالس

 يقيم لها أمسيات شعرية في أزقة الوقت"

يتم تصوير النقّاد أو القرّاء على أنهم متلاعبون بالكلمات، يحتفون بالنص في أوقات غير مناسبة أو وسط أزمات حقيقية، مما يعكس سطحية بعض القراءات الأدبية.

الجمع بين التانغو والفالس كأساليب رقص راقية مع واقع نقدي مشوه يخلق تناقضًا ساخرًا.

 

3.     السخرية من طبيعة الكتابة والنصوص

"يلزمني عشرة أمتار من الشعر العموديِّ

 وضعفها من شعر التفعيلة

لأصل إليك على جناحيِّ قصيدة، لم يُعترف بها

 ابنةً شرعيةً لقصيدة النثر"

هنا تسخر الشاعرة من الجدل حول الأجناس الأدبية، حيث تصوّر الصراع بين الشعر العمودي، التفعيلة، وقصيدة النثر وكأنّه معركة تحتاج إلى مسافة للعبور.

استخدام عبارة "ابنة غير شرعية" يعكس النظرة الدونية التي يواجهها شعر النثر مقارنة بالأشكال التقليدية، ممّا يشكل نقدًا ساخرًا للنقاشات الأكاديمية حول الشرعية الأدبية.

4.     السخرية من سلطة اللغة والتأويل

"الكلمات غائبة عن الوعي

 الأوراق فارغةٌ مني ومنكَ

 تنتعل أحذية الركض السريع"

هنا يتم تصوير اللغة ككائن فاقد للوعي، مما يعكس حالة العبث والفوضى في النصوص الحديثة.

التشبيه بـ"أحذية الركض السريع" يشير إلى السرعة السطحية التي تُنتج بها بعض الأعمال الأدبية، مما يضفي بعدًا تهكميًا على المشهد الأدبي.

تستخدم القصيدة السخرية بذكاء، عبر التناقضات، التصوير الهزلي، والمفارقات اللغوية، ممّا يجعلها نصًّا نقديًّا لاذعًا يكشف عن أزمة الأدب الحديث، العلاقة بين الكاتب والناقد، وهيمنة الجدل على الإبداع.

 

§      القصيدة الثامنة : " لا تدخلني في التجربة"

فلسفة الصمت واللغة في قصيدة "لا تدخلني في التجربة"

1.    الصمت كفلسفة وجودية

في جملة :

"أنا سأكمل ثرثرتي على أنقاض صمتك"

يظهر الصمت هنا كقوة معاكسة للثرثرة، لكنه ليس مجرد غياب للكلام، بل موقف وجودي يعبّر عن رفض الاستسلام للضوضاء الفارغة.

الصمت في القصيدة لا يعبر فقط عن السكون، بل هو حالة من الرفض، حيث يصبح أداة للمقاومة والتحدي في وجه سطحية اللغة وكثافة الضجيج اللفظي.

 

2.    اللغة بوصفها تجربة غير مكتملة

في جملة:

"وأنتَ ستركضُ حافيًا خلفَ سرابِ الكلمة"

يتمّ تصوير اللغة كمطاردة سرابية، ممّا يعكس فكرة أن الكلمات غير قادرة على احتواء التجربة الوجودية بالكامل.

توظّف الشاعرة اللغة بوصفها كيانًا هاربًا ومتغيّرًا، فهي ليست أداة واضحة، بل حالة غير مستقرة تتطلّب إعادة تشكيل مستمرة.

3.    العلاقة الجدلية بين الصمت واللغة

"وأردّد في سري..

 لا تدخلني في التجربة ولكن نجني منكَ.. آمين"

هذه العبارة تكشف عن حالة تذبذب بين الرغبة في الانخراط في اللغة والخوف منها، حيث تبدو اللغة تجربة خطرة، لكنها ضرورية.

هناك تناص ديني واضح في عبارة "نجني منك.. آمين"، حيث يتم استدعاء صيغة دعائية في سياق نقدي، مما يمنح الصمت بعدًا روحيًا مقابل اللغة التي تبدو كفخ.

فالصمت ليس مجرد غياب للغة، بل موقف فلسفي يواجه عبثية الكلام.

اللغة تظهر بوصفها تجربة غير ثابتة، تلاحقها الذات لكنها لا تتمكن من امتلاكها بالكامل.

العلاقة بين الصمت واللغة في القصيدة تتخذ طابعًا جدليًا، حيث يتم تصوير الصمت كملاذ، لكنه لا يستطيع الاستغناء عن اللغة تمامًا.

 

§      القصيدة التاسعة : "في مهب الغضب"

التكثيف الرمزي وغموض المعنى في قصيدة "في مهب الغضب"

1.    التكثيف الرمزي

القصيدة تعتمد على الرمزية الكثيفة، حيث يتم تحويل الشخصيات والأحداث إلى رموز متعدّدة المعاني، ممّا يمنح النص مرونة تأويلية تسمح بقراءات مختلفة وفق تجربة القارئ.

"الرجل الذي التقيته صدفًة بتوقيت ساعة غضبٍ

تأخّر هذه المرّة متعمّدًا، لأنني نسيتٌ حذائي تحت وسادةِ

هدوئه القاتل"

الرجل هنا ليس مجرد شخصية عابرة، بل رمز لفكرة معينة، قد يكون السلطة القمعية، أو صوت الضمير، أو حتى القدر المحتوم.

ارتباط اللقاء بـ "توقيت ساعة الغضب" يضيف بعدًا زمنيًا قدريًا، حيث تبدو المواجهة حتمية بالتي ما زالت تلوك صوته.

"جاءَ ليحدثني عن ملاءة كان قد أخفى فيها ملامح الطريق وسارَ

على عكّاز السنين العجافِ التي ما زالت تلوك صوتَه"

استدعاء لرمزية "السنوات العجاف"، ممّا يعكس فترة القحط المعنوي أو القمع السياسي، حيث تصبح السنوات كائنًا حيًّا يستهلك الصوت، أي يقمع الحقيقة.

"ينبش بين نهدي الحقيقة

 عن جنرالات القمع وتجّار القمح"

هنا تتشابك رمزية الجسد بالحقيقة، حيث يتمّ تقديم البحث عن الحقائق على أنّه عملية جسدية عنيفة.

"جنرالات القمع" و"تجار القمح" يشيران إلى السلطة السياسية والاقتصادية، حيث يتمّ وضع الاستبداد والجوع في ثنائية متكاملة .

2.    الغموض المتعمّد:

حيث يتم طرح الأفكار بطريقة غير مباشرة، مما يدفع القارئ لإعادة التأويل والتفسير.

في جملة : "يوشوشها بجثث رسمها على وجه غيمة؛ فأمطرت موتًا"

الصورة هنا مفتوحة للتأويل، فقد تشير إلى الحروب أو القمع السياسي الذي يحوّل الحياة إلى مأساة، أو قد تكون تأملًا فلسفيًا في دورة الفناء والتجدد.

3.    التناص الأدبي:

"يحدثني عن مائة عام من العزلة لماركيز

 وعن أزهار الشر لبودلير

وعن طبائع الاستبداد للكواكبي"

هذا التناص الأدبي يعكس تشابك الأدب مع التجربة الشخصية والسياسية، حيث يتم تقديم الشخص وكأنه نتاج لمآسي الإنسانية الموثقة في الأدب .

القصيدة تستخدم رمز قارئ يتورّط في عملية تأويلية معقّدة، حيث لا تقدّم إجابات مباشرة، بل تفتح المجال للبحث عن الحقيقة وسط ضباب من الغموض والتناقضات.

 

§      القصيدة العاشرة : " شغب"

السردية في قصيدة "شغب"

1.    توظيف السرد داخل البناء الشعري

تستخدم القصيدة أسلوبًا سرديًا واضحًا، حيث يتم تقديم الأحداث في شكل متواليات مشهدية، تتبع تسلسلًا دراميًا متصاعدًا، ممّا يجعلها قريبة من النصوص النثرية المفتوحة رغم بنيتها الشعرية.

2.    الحبكة السردية والشخصيات

تبدأ القصيدة بمشهد حفار القبور الذي يصرّ على إنزال المتحدّثة إلى الحفرة، ممّا يخلق توترًا دراميًّا منذ البداية.

" حفّار القبور يُصرُّ على إنزالي في الحفرة"

الشخصية الرئيسية (المتحدّثة) تواجه حتمية الموت أو الدفن، لكنها تحاول المساومة والتفاوض مع حفّار القبور،

"لم يقبل مني رشوة ولم يرض أن يؤجّلني إلى صباح الغد"

هنا يظهر الحفار كشخصية متصلبة لا تخضع للمساومة، مما يعكس فكرة حتمية الموت أو المصير المحتوم.

يضاف عنصر الوعي الذاتي لدى المتحدثة، حيث تقول:

"ريثما أستحم وأزيل عن جسدي تلك البقع الداكنة"

هذا السطر يكشف عن البعد النفسي للصراع، حيث يبدو الموت وكأنه طقس تطهيري لا مفر منه، كما أن الإشارة إلى "البقع الداكنة" توحي بآثار الخطيئة أو الجراح التي خلفها الزمن.

3.    الحوار والسرد الذاتي

يتمّ تقديم الحوار بأسلوب سردي داخلي، كما في قولها:

"همستُ له: لم أنتهِ بعدُ من قراءة تاريخنا الأسود

4.    استخدام الاسترجاع والتناص التاريخي

المتحدثة تحاول تأجيل مصيرها عبر الحديث عن الماضي، كما في قولها:

"لم أنته بعد من قراءة تاريخنا الأسود"

هنا يظهر التناص مع السياقات التاريخية للحروب والظلم، حيث يتم تقديم الماضي كحِمل ثقيل يمنع الذات من الاستسلام للموت بسهولة.

في جملة :

"القابلة والحفار متواطئان مع التاريخ والحاضر أيضًا"

يتم تقديم الزمن وكأنه قوة متآمرة ضد الفرد، حيث يصبح الموت والولادة كلاهما جزءًا من منظومة يتحكم بها الآخرون، مما يعزز البعد السردي للفكرة.

5.    النهاية المفتوحة والتكثيف السردي

تنتهي القصيدة بمشهد يجمع بين السرد والرمزية، حيث لا تُحسم النهاية بوضوح، ممّ....ا يجعل القارئ مشاركًا في تأويل مصير المتحدثة.

استخدام لغة كثيفة بصريًا ومشحونة بالعاطفة يجعل النص متشابكًا بين السرد والشعر، حيث تتداخل المشاهد الحيّة مع التأملات الداخلية.

فالقصيدة تعتمد على بنية سردية متماسكة داخل نص شعري، حيث يتم تقديم الأحداث في تسلسل درامي متصاعد، مع توظيف الشخصيات، الحوار، التناص التاريخي، والاسترجاع، مما يجعلها قصيدة سردية بامتياز تحمل بُعدًا فلسفيًا عميقًا.

§      القصيدة الحادية عشرة : " الشاعر يموت في حضن القصيدة"

حداثية المفردات: في قصيدة "الشاعر يموت في حضن القصيدة"

تعتمد القصيدة على مفردات حداثية تعكس رؤية شعرية جديدة، حيث يتمّ توظيف اللغة بطريقة تتجاوز الاستخدام التقليدي للكلمات، ممّا يمنح النص إيحاءات فلسفية ورمزية تتماشى مع اتجاهات الشعر الحديث.

1.    توظيف الصور الحداثية

"النصُّ الموغِلُ في الموت يربضٌ دون نعشٍ"

النص هنا يتحوّل إلى كيان حيّ لكنه معلّق بين الحياة والموت، ممّا يعكس رؤية حداثية تربط بين الإبداع والفناء.

"في حضن شاعر، يصرُّ على تغيير الكفن"

الكفن هنا ليس مجرد رمز للموت، بل إشارة إلى التحوّلات المستمرّة في اللغة والقصيدة، حيث يصبح الإبداع عملية متجدّدة لا تنتهي عند حدود معينة.

2.     تفكيك اللغة وإعادة تشكيلها

استخدام تعابير مثل:

"كلّما أصيبتِ الكلماتُ بنوبة حكاكٍ

وتبعثرتْ على مسامات جلده كثآليل منتفخة الأوداج"

هذه التراكيب تكسر البناء التقليدي للجملة الشعرية، حيث تتحوّل الكلمات إلى كيانات جسدية تعاني من الاضطراب، ممّا يعكس رؤية حداثية للغة باعتبارها كائنًا حيًا.

3.     المجاز والرمزية الجديدة

"فليس لديه قصائد تكفي بعد أن قدّمها هدية

لتلك الممرضة التي غيّرت ملاءة النص

وتركتْ له مهمة تفصيل الكفن"

المجاز هنا يقوم على تصوير العلاقة بين العطاء (القصائد) والفقد (الكفن).

الرمزية الجديدة تظهر في جعل الممرضة (رمز الشفاء عادة) تتحول إلى محفز للموت الرمزي.

النص يُزاوج بين صور الحياة اليومية (الممرضة، الملاءة) وصور الموت (الكفن) ليخلق طبقات من الدلالة.

"أكّد لي أنه سيستعير مِقصّ بيير كاردان

كي لا يخطئَ في التصميم

لم ينتبه إلى أصابعه التي انزاحت عن خط الأفق

ولا إلى الشمس التي سقطت باكيةً عند قدميِّ البحر

تستجدي ملحه،لكنه أقسم لي

أنّه سمع صلواتِها على نعش أصابعه المبتورة

ورآها تضع له المسكّنات بين السطور. "

لمجاز هنا يقوم على تداخل الجسد بالنص، والكون بالذات.

الرمزية الجديدة تظهر في جعل أدوات التصميم (المقص)، وعناصر الطبيعة (الشمس، البحر)، وأعضاء الجسد (الأصابع) شركاء في عملية الكتابة والألم والشفاء.

هناك تصعيد للصورة الشعرية: من فعل بسيط (القص) إلى مشهد كوني (سقوط الشمس)، ثم إلى طقس ديني (الصلوات)، وينتهي في فعل شعري (المسكّنات بين السطور).

تستخدم القصيدة مفردات حداثية قائمة على التجريد والتكثيف، حيث يتم تفكيك العلاقة بين الشاعر والنص، وتقديم القصيدة ككيان مستقل ومتمرد، مما يعكس مفاهيم الحداثة الشعرية القائمة على التحرر من الأطر التقليدية والانفتاح على التجربة الذاتية والفكرية.

§      القصيدة الثانية عشرة : " للمرّة الألف"

الفلسفة في قصيدة "للمرّة الألف"

1.    فلسفة القهوة: الارتباط بالمزاج والكتابة

تقول الشاعرة:

"يجب أن أجفّفَ النص الذي كتبته لك البارحة

 بعد أن ذرفتْ قهوتي دموعها على متنِه".

هنا تتحوّل القهوة إلى رمز للمزاج والكتابة، حيث تعكس حالة الشاعرة النفسية.

إسقاط الدموع على القهوة يرمز إلى حالة من الحزن العميق الممزوج بالاعتياد على الألم، ممّا يجعلها جزءًا من الطقس اليومي للكتابة.

2.     فلسفة البلل: الانفعال العاطفي والتفاعل مع النص

البلل في النص ليس مجرّد حالة مادية، بل حالة شعورية:

"ما الذي ستفعله امرأة وحيدة مثلي..

تفشل دومًا في تنشيط ذاكرتها بنصوص مبللة؟".

البلل هنا يرمز إلى الأثر العاطفي العميق الذي تتركه التجربة الحياتية في النصوص، حيث لا يمكن فصل التجربة الذاتية عن الكتابة.

كما أن البلل قد يشير إلى الحاجة إلى تجفيف المشاعر قبل نشر النصوص، وكأن النشر يتطلب تجريدًا من الأحاسيس الخاصة.

3.    فلسفة النشر: مواجهة القارئ والذات

النشر في القصيدة لا يُنظر إليه كفعل محايد، بل كعملية تتطلب مواجهة:

"لكنّ جارتي العجوز المتصابية .. سرقت الملاقط

لتنشر صورَ عشاقِها بسراويلهم الضيقة".

هنا يتم تشبيه النشر بعملية فضح أو عرض الذات، حيث يصبح تعليق النصوص على "حبال النشر" شبيهًا بكشف تفاصيل الحياة الحميمة.

يظهر التناص مع فكرة أن النصوص، مثل الصور، يمكن أن تصبح عرضة للتأويل والتجريد من سياقها الأصلي.

فالقهوة في القصيدة ليست مجرد مشروب، بل رمز للحالة العاطفية والطقوس الإبداعية.

والبلل يمثل امتزاج الكتابة بالعاطفة، حيث تتحول النصوص إلى امتداد للذات.

والنشر يُنظر إليه كفعل يتجاوز مجرد إيصال الفكرة إلى القارئ، ليصبح كشفًا ذاتيًا قد يكون قاسيًا أو ساخرًا في بعض الأحيان.

 

§      القصيدة الثالثة عشرة : " بورتريه"

التناص الفني مع الألوان والشخصيات الفنية في قصيدة "بورتريه"

1. التناص مع الفن التشكيلي والألوان

في جملة :

 "يجب أن أركن سيارتي على إطار اللوحة

التي أرسمها"

هنا يتم دمج الفعل الفني بالحركة اليومية، ممّا يعكس رؤية حداثية ترى الفن كجزء لا يتجزأ من الحياة.

"لكن لا تنس أن تجلب معك علبة ألوان زيتية

 فقد فرغت للتو من رسم بورتريه لك

بالأبيض والأسود"

الأبيض والأسود هنا ليسا مجرّد ألوان، بل إشارة إلى الحياد والتجريد، حيث يتمّ إقصاء الألوان الأخرى التي قد تحمل دلالات عاطفية. هذه الثنائية تعكس صراعًا بين الوضوح والغموض، وبين الحياة والموت، ممّا يجعل اللوحة كيانًا رمزيًا يتجاوز التصوير التقليدي.

"لا أؤمن بلونين يحدّدان ملامحك"

رفض الثنائية اللونية يعكس تأثرًا بالمدارس الفنية الحديثة التي تتجاوز التصنيف الجامد للأشياء، مما يجعل الصورة أكثر تعقيدًا وتأويلًا.

2. التناص مع الشخصيات الفنية والأدبية

"هو نفسه الجسر الذي تحدث عنه اللورد بيرون

 في أسفار شيلد هارولدز"

هنا يتم استدعاء اللورد بايرون، الشاعر الرومانسي الإنجليزي الذي اشتهر برؤيته التأملية والسفرية للحياة.

استخدام الجسر كرمز يوحي بفكرة العبور والتحوّل، حيث تصبح اللوحة أو البورتريه وسيلة لالتقاط لحظة عابرة بين الماضي والمستقبل.

3. التناص مع الفلسفة البصرية للوحة والبورتريه

"لا أؤمن بلونين يحدّدان ملامحك

لذلك عليك الإسراعِ

حتى لو اضطُرِرْتَ أن تنسفَ الجسرَ

بقبلاتك وأشواقك"

هنا يتمّ تقديم فكرة أن الفن ليس مجرد نسخ للواقع، بل تأويل شعري له، حيث تصبح الألوان عنصرًا نفسيًا أكثر منه بصريًا.

يذكرنا هذا بأسلوب بابلو بيكاسو في لوحته "غيرنيكا"، حيث استخدم الألوان الأحادية لإبراز المأساة الإنسانية.

فالقصيدة تستدعي الفن التشكيلي والألوان كشخصيات قائمة بذاتها، حيث تتحوّل اللوحة والبورتريه إلى وسيط فلسفي يعكس رؤية الشاعرة للعالم، ويتداخل التناص الأدبي والتشكيلي ليخلق نصًّا بصريًّا مشحونًا بالدلالات الوجودية.

§      القصيدة الرابعة عشرة : " حكاية ما قبل النوم"

العبثية والتشظّي في قصيدة "حكاية ما قبل النوم"

1. العبثية: التلاعب بالزمن والمنطق

القصيدة تعكس رؤية عبثية من خلال تقديم مفاهيم الزمن والهوية بطريقة غير خطية، حيث يتم دمج الحاضر بالماضي بشكل غير منطقي:

"كبرتُ قبل أن تتزوّج أمي من أبي"

هذا التركيب يكسر المنطق الزمني التقليدي، حيث يبدو المتحدّث قد عاش قبل ميلاده، ممّا يعكس حالة عبثية تفكّك التسلسل الطبيعي للأحداث.

"وحينَ رأيتُ النورَ لأوّل مرّة، كنت قد بلغتُ الثمانين"

هنا يصبح الموت والولادة متداخلين، حيث يولد الشخص في حالة شيخوخة رمزية، ممّا يعزّز إحساس الفناء المبكّر والعبثية الوجودية.

2. التشظّي: تفكك الشخصيات والمفاهيم

"أبي اتخذ له زوجة ثانية لأن أمي لم تنجب منه

 سوى الكهول"

هنا تتحوّل الأبوة إلى فعل عبثي، حيث لا يتمّ إنجاب الأطفال بل الشيخوخة نفسها، ممّا يكسر القواعد البيولوجية والاجتماعية المتعارف عليها.

" تحوّلتِ العائلة إلى جيش من المحاربين القدماء

 وذوي العاهاتِ والأطرافِ الاصطناعية"

هذا التصوير يكشف عن تشظّي الزمن والمفاهيم داخل العائلة، حيث تتحوّل الأسرة إلى كيان حربي لا ينتمي إلى سياق طبيعي، ممّا يعكس حالة الفوضى الوجودية.

3. اللغة كأداة تعبير عن التشظي

الجمل المفكّكة والتراكيب غير المنطقية تعزز الإحساس بانهيار العالم الداخلي للمتحدث، حيث تبدو الهوية والزمن في حالة اضطراب مستمر.

يتم استخدام صور متناقضة (مثل الطفل العجوز، والأم الشابة التي تنتظر الأب العجوز)، مما يعكس تشظي الإدراك داخل النص.

فالعبثية تتجلّى في كسر القوانين المنطقية للزمن والهوية، ممّا يجعل القارئ يشعر بعدم الاستقرار والضياع

والتشظّي يظهر من خلال تفكك الشخصيات والصور الشعرية، حيث يتم تقديم الحياة كمزيج من التناقضات التي لا يمكن فهمها بطريقة تقليدية. القصيدة تعكس نظرة فلسفية ساخرة اتجاه الزمن والوجود، حيث يتم تقويض المعاني الثابتة لصالح تجربة عبثية لا تقدّم إجابات حاسمة.

§      القصيدة الخامسة عشرة : " منذ آخر نص"

نسوية المضمون والتدين في قصيدة "منذ آخر نص"

1.    نسوية المضمون:  صوت المرأة في مواجهة التاريخ والجغرافيا

القصيدة تقدم صوتًا نسويًا متمردًا على الأطر التقليدية، حيث يتم تقديم الذات الأنثوية في مواجهة الزمن والمكان والانتظار:

"منذ آخر نص بللتُه بريق انتظارك

 وأنا لست على أهبة التاريخ والجغرافيا"

هنا، تربط الشاعرة الزمن والتاريخ بوضع المرأة، حيث يبدو أنها خارج المعادلة التاريخية والجغرافية، مما يعكس تهميشًا مزدوجًا.

استخدام "بللته بريق انتظارك" يرمز إلى أن الانتظار نفسه أصبح جزءًا من النص، وكأن المرأة تُختزل في حالة الترقب والانتظار الأبدي.

"ماذا تفعل امرأة مثلي..

 تحبسُ أنفاس الغيم وتعصب عينيه

 في محاولة منها لتجفيف جنونها"

هنا، يتم تقديم صورة المرأة بوصفها كيانًا مسجونًا داخل دوامة من المشاعر والمراقبة، حيث تتحوّل حتى الطبيعة (الغيم) إلى عنصر مسيطر تحاول المرأة مقاومته.

"تجفيف جنونها" إشارة إلى الضغوط الاجتماعية التي تحاول تطبيع مشاعر المرأة وإجبارها على احتواء ذاتها داخل قوالب محددة.

2.    التديّن: العلاقة المتوترة مع المقدس

"ملحدة أنا، لا أؤمن بكتب سماوية تجعلنا نبدو بعين المطر نصّين عدوَّين،

 يتقاتلان خارج أسوار القصيدة"

هنا يظهر نقد ديني واضح، حيث يتمّ تقديم الدين كقوة تفصل بين البشر بدل أن تجمعهم، مما يعكس رفضًا للثنائية المطلقة التي تضع المرأة والرجل في مواجهة أبدية.

المطر كرمز سماوي يتمّ تقديمه كطرف محايد، لكنه يراقب هذا الصراع، ممّا يعكس صراعًا داخليًا بين الإيمان والشك.

"والآخر، ما زلت أعمل عليه ليبدو كصراط مستقيم"

التناص الديني هنا مع فكرة "الصراط المستقيم" يعكس محاولة لإعادة كتابة النصوص بطريقة أكثر عدالة وإنسانية، بدلًا من التقيد بالتفسيرات التقليدية.

توحي الجملة بأن الكتابة نفسها تصبح طريقًا روحيًا بديلًا عن المعتقدات المتوارثة.

فالبعد النسوي في القصيدة يظهر من خلال رفض التهميش، وتقديم الذات الأنثوية ككيان مستقل يرفض أن يكون مجرد انتظار في خلفية المشهد التاريخي.

التدين في القصيدة يتجلّى في شكل مواجهة نقدية، حيث يتم إعادة مساءلة النصوص الدينية، ومحاولة تقديم نصوص بديلة عبر الكتابة الشعرية.

القصيدة تدمج بين التحدّي النسوي والتمرد الفكري، مما يجعلها نصًّا يجمع بين البعد الوجودي والبعد الاجتماعي والسياسي.

§      القصيدة السادسة عشرة : " تراتيل النور"

الفلسفة القدرية في قصيدة "تراتيل النور"

1. الإيمان بالحتمية والقدر المحتوم

تقول الشاعرة:

"أقول لك، ولظى الأنفاس اللاهثة

إلى النهايات المحتومة، يطوّقني".

هنا يظهر مفهوم القدر المحتوم حيث تُصوَّر الحياة على أنها تسير بشكل قسري نحو النهاية، ولا يمكن تغيير هذا المسار.

"الأنفاس اللاهثة" توحي بالصراع المستمر مع الزمن، لكن النتيجة النهائية تبقى ثابتة: الفناء.

2. استدعاء الزمن والذاكرة ككيانات قدرية

"ترنو إلينا صورنا العتيقة، نناغيها بشغف عشّاق الأمس

 نستجديها أزمنتنا الغابرة".

هنا، يتم تصوير الماضي وكأنه قوة قدَرية تسيطر على الحاضر، حيث تتحوّل الصور العتيقة إلى رموز لقدر لا يمكن التراجع عنه.

"نستجديها أزمنتنا الغابرة" يشير إلى رفض القدر أو محاولة تغييره، لكنه يبقى مستحيلًا، ما يعزّز البعد الفلسفي للقصيدة.

3. مواجهة المصير بوعي فلسفي

"أنِ ابتسم للوجوه، ربما تكون فرصتك الأخيرة".

هذه الجملة تكشف عن وعي فلسفي باللحظة الراهنة، حيث يتمّ التعامل مع الحياة كفرصة أخيرة دائمة.

هذا الفكر يعكس مزيجًا من القدرية والوجودية، حيث يتم قبول حتمية الموت، لكن في الوقت ذاته يتم التشبث باللحظة العابرة.

4. الصراع بين القدر والإرادة الحرة

"من باستطاعته أن يخمد شوق

 ذاكرة ولود، تغيظ النسيان في كل اجتياح".

هنا يتم تقديم الذاكرة كعنصر مقاوم للقدر، حيث تحاول مقاومة "النسيان" الذي يمثّل زحف الزمن والموت.

هذا الصراع بين التذكّر والنسيان يعكس جدلية بين القبول بالقدر ومحاولة تجاوزه من خلال استعادة الماضي.

فالقصيدة تقوم على رؤية قدرية واضحة، حيث يتمّ تقديم الزمن والمصير كقوى محتومة لا يمكن تجاوزها.

في الوقت ذاته، هناك محاولة فلسفية لإيجاد معنى في هذه الحتمية، عبر التمسّك بالذاكرة واللحظات العابرة.

النص يعكس مزيجًا من الفكر القدري والتأمل الوجودي، مما يمنحه طابعًا فلسفيًا عميقًا.

 

§      القصيدة السابعة عشرة: " تقول الحكاية"

الأسطرة والتناص  في قصيدة "تقول الحكاية"

الأسطرة:

1. استدعاء البنية الحكائية التقليدية

تبدأ القصيدة بعبارة "تقول الحكاية"، مما يشير إلى وجود قالب سردي مألوف يوحي بأسطورة أو قصة موروثة يتم استدعاؤها وإعادة صياغتها.

استخدام الجملة بهذه الصيغة يضفي طابعًا شفهيًا، حيث تبدو وكأنها حكاية متناقلة عبر الزمن، لكنها تحمل أبعادًا رمزية جديدة.

2. الأسطرة عبر إعادة تشكيل الرموز التاريخية

في المقطع:

"إنّ النهرَ يبكي في فراش أرملة شابّة

 هزمتْها الحرب "

هنا يتمّ تقديم صورة رمزية تربط بين الحب والفقدان والحرب، مما يمنح القصة طابعًا أسطوريًا، حيث تصبح الحرب كائنًا مهزومًا أمام العاطفة.

"تصلّي لأجلِنا نحن الخطأةُ"

هذا المقطع يوحي بطقس ديني أو أسطوري حيث تتحوّل الصلوات إلى وسيلة لإضفاء القدسية على الحكاية، ما يعزّز الجانب الأسطوري في النص.

3. إعادة إنتاج البنية الأسطورية من خلال الموت والفداء

"لن تذهب إلى المقبرة، ستكمل لتُكملَ نُذورها"

هنا يتم تحريف مسار الحكاية التقليدية، حيث لا تكون النهاية الموت بل استمرار الرحلة، وهو عنصر يتكرّر في الأساطير الكبرى التي تركّز على البطل الذي يتجاوز المصير الحتمي.

"ستُعلِّقُ جسدها المبلّل على مشجبٍ قربَ النافذة

 ليجفَّ تمامًا

ستفكّ ضفائرَها وتُسدلُها على الماضي البعيدِ

هذا ما اعترفتْ به للمرآة"

استدعاء المرآة والماء يربط القصيدة بالموت والتجدّد، وهما عنصران مركزيان في العديد من الأساطير التي تتناول التحوّلات الكبرى والبعث.

تقوم القصيدة بأسطرة الحكاية العادية عبر إعادة تشكيلها بلغة رمزية، وإدخال عناصر الحرب، الفداء، والتحوّل.

يتمّ استخدام الطابع الشفهي والمفردات المرتبطة بالموت والتاريخ والدين لجعل الحكاية تتجاوز التجربة الشخصية إلى مستوى الميثولوجيا.

النص يعكس نظرة فلسفية تعتمد على تفكيك الحكايات التقليدية وإعادة بنائها في سياق أكثر تأمّلًا ومعاصَرة.

 

التناص:  مع إلزا حبيبة لويس أراغون

1.    التناص الأدبي مع إلزا تريوليه

تسمية "الأرملة الشابة" بإلزا في القصيدة هو إشارة واضحة إلى إلزا تريوليه، الحبيبة والملهمة الأبدية للشاعر الفرنسي لويس أراغون، الذي كتب لها أشهر قصائده، مثل "عيون إلزا".

"الأرملة الشابة، اسمها إلزا، تيمّنًا بحبيبة لوي أراغون"

إلزا في أعمال أراغون كانت رمزًا للحب الثوري والأنوثة الملهمة، وهذا يفتح باب التأويل في القصيدة، حيث تتحوّل إلزا الأرملة الشابة إلى رمز يتجاوز الفردي نحو الأسطوري.

2. إعادة إنتاج أسطورة إلزا في سياق مختلف

بينما كانت إلزا عند أراغون رمزًا للحب المقاوم والزمن الذي لا يغير المشاعر، فإن إلزا في القصيدة تتخذ بعدًا مأساويًا، حيث تصبح أرملة شابة، تعيش وسط الحروب والهزائم.

"يطوّق الموت الأرعنُ عُنُقَ ذاك الشاعر

وهو لم يبدأ بعدُ في نظم الشعر لها

تخطفُه الحربُ على كتِفِ الريح، وتولي هاربة

إلى أقرب سماء"

هذا يعكس مفارقة بين الحب الأبدي كما صوّره أراغون، وبين الفقدان الذي تعيشه إلزا الجديدة.

3. دور إلزا في تشكيل البعد الأسطوري في القصيدة

إلزا في القصيدة ليست مجرد شخصية عابرة، بل تتحوّل إلى كائن رمزي يربط بين الحب والمأساة والتاريخ، حيث تصبح نموذجًا لكل النساء اللواتي فقدن أحباءهن بسبب الحروب.

"إلزا تشرب قهوتها

تدلقها على سرير الوحدة كل صباح

تفكّر بالنهايات، وتضع سيناريوهات لبداياتٍ مُحتملة

كأن يهطل ذاك الشاعر مع مطر الشتاء

ويندسَّ في فراشها البارد"

اختيار اسم إلزا يمنح النص عمقًا ثقافيًا وتاريخيًا، حيث يتم دمج أسطورة حب أراغون مع سردية الحرب والفقدان والمقاومة في القصيدة.

فاستخدام إلزا كثيمة شعرية هو تناص مع تجربة أراغون الأدبية، لكنه يُعاد تشكيله في سياق الحرب والفقدان.

تتحول إلزا من رمز للحب الرومانسي إلى رمز للمرأة التي تواجه مصيرها وسط الخراب.

القصيدة تستفيد من هذا التناص الأدبي العاطفي والسياسي لتقديم رؤية شعرية جديدة تربط الحب بالتاريخ والمأساة.

 

§      القصيدة الثامنة عشرة: " الوقت يحتضر على رجلٍ واحدة"

تقنية التجسيد وتجسيد الحزن في قصيدة "الوقت يحتضر على رجل واحدة"

1. تقنية التجسيد: تحويل المفاهيم إلى كائنات حية

القصيدة تعتمد على تشخيص الزمن والمشاعر، حيث يتم إعطاء الوقت والحزن والذاكرة صفات إنسانية، مما يخلق بعدًا دراميًا وشعوريًا مكثفًا.

"الوقتُ يَحتضرُ على رجلٍ واحدةٍ"

هنا يتم تجسيد الزمن ككائن بشري يعاني، يتألم، ويترنّح مثل بهلوان، ممًا يضفي على المفهوم المجرّد طابعًا ملموسًا وحسّيًا. وصفه بأنه "يحتضر" يعزّز الشعور بأن الحياة تفقد توازنها، وأن الزمن لم يعد مستقيمًا بل معتلًّا.

"الوقت الآن في العناية المشدّدة"

هنا يتم وضع الزمن في إطار طبّي، وكأنه مريض يحتاج إلى إنعاش، مما يعكس فكرة أن اللحظات الأخيرة لا تزال تحمل بقايا أمل في النجاة.

2. تجسيد الحزن: مشهد بصري حسّي

"الحزن الآن، مستلقٍ على ظهر الوقت"

الحزن هنا يصبح كجسد مادي يتمدد على الزمن، مما يعزز الشعور بالخمول والانكسار واللاجدوى.

الفكرة تدلّ على أن الزمن لم يعد مجرد تيار متحرك، بل مساحة يستلقي عليها الألم، مما يوحي بالاستسلام والانهيار.

"يدلّكه بالمسكِ وجوزةِ الطّيب"

هذه الصورة تقدّم بُعدًا حسيًّا قويًّا، حيث يتمّ تقديم الحزن كمريض بحاجة إلى علاج بالروائح العطرية، وهو ما يخلق مفارقة بين الألم والرائحة التي ترتبط عادة بالراحة والطمأنينة.

هذا التجسيد يعكس حالة تصالح مع الحزن، حيث يصبح جزءًا من الطقس اليومي للحياة.

3. رمزية الألفاظ: زهر الليمون، المسك، جوزة الطيب

"لم تنفع رائحة زهر الليمون في إنعاشه"

زهر الليمون يرمز إلى النقاء والبدايات الجديدة، لكنه هنا يفشل في إنقاذ الزمن، ممّا يرمز إلى أن الأمل لم يعد كافيًا لإنقاذ ما هو محكوم بالانهيار.

"يدلّكه بالمسك وجوزة الطيب"

المسك رمز للتطهير والتقديس، وجوزة الطيب ترتبط بالحواس والتأمل، مما يوحي بأن الحزن ليس مجرد معاناة، بل تجربة حسية معقدة تمزج بين الألم والتصالح معه.

فالقصيدة تعتمد على التجسيد بقوة، حيث يصبح الزمن والحزن كيانات مادية تتفاعل مع العالم.

الألفاظ العطرية (زهر الليمون، المسك، جوزة الطيب) تحمل معاني رمزية تعكس الصراع بين الألم ومحاولة التخفيف منه.

الصور الشعرية تمنح الحزن بعدًا إنسانيًا، حيث يبدو وكأنه شخصية قائمة بذاتها، تتعايش مع الزمن في حالة انتظار دائم.

§      القصيدة التاسعة عشرة : " الذي غاب عن وعي الهوى"

المفارقة في قصيدة "الذي غاب عن وعي الهوى"

1. المفارقة الزمنية والوجودية

"يكفي أن أولدَ ميتًا

 وأدفنَ حيًّا"

هذه الجملة تحمل تناقضًا صارخًا، حيث يتمّ الجمع بين الميلاد والموت في لحظة واحدة.

تعكس المفارقة حالة العبث واللاجدوى، حيث يبدو أن الوجود نفسه عملية متناقضة، بلا معنى حقيقي.

تشير إلى إحساس بالضياع، حيث يولد الإنسان إلى واقع يشبه الموت، لكنه يظلّ يعيش وكأنه لم يولد حقًا.

2. المفارقة في تصوير الحرب والسلام

"ماتت الحربُ.. عاشتِ الحرب"

هنا يتمُّ استخدام التناقض الحاد بين الموت والحياة لتصوير استمرارية العنف والصراع.

الحرب لا تنتهي، بل تتجدد بأشكال مختلفة، مما يعكس واقعًا سياسيًا واجتماعيًا لا يسمح بفكرة السلام الحقيقي.

هذه المفارقة قد تكون إشارة إلى الدورات المتكررة من العنف في التاريخ، حيث تُعلن نهاية الحرب ظاهريًا، لكنها تبقى قائمة تحت مسميات أخرى.

3. المفارقة الدينية والأسطورية

"يقومُ من بين الأموات مسيحٌ تِلوَ الآخر

 هللويا! هللويا!"

هذه الجملة تتلاعب بفكرة القيامة والخلاص، حيث يتم استدعاء صورة المسيح الذي يقوم من بين الأموات.

لكن المفارقة تكمن في أن هذا الفعل لا يأتي كخلاص حقيقي، بل كجزء من دورة تكرارية من الألم والموت.

استخدام "هللويا" يوحي بفرح زائف أو تهكّم ضمني، حيث يتم الاحتفاء بحدث قد لا يكون خلاصًا بقدر ما هو إعادة تكرار لمأساة أخرى.

إذًا، تعتمد القصيدة على التناقضات الحادة والمفارقات اللغوية لإبراز عبثية الوجود، ودورات العنف، والصراع بين الموت والحياة.

يتم استدعاء الرموز الدينية والتاريخية بطريقة توظف المفارقة الساخرة، حيث يبدو الأمل مرتبطًا بشكل لا فكاك منه بالألم.

المفارقة في القصيدة ليست مجرد لعبة لغوية، بل هي تعبير عن رؤية فلسفية مظلمة تجاه الزمن والحياة والحرب والقيامة.

سأكتفي بتحليل هذا العدد من القصائد، حيث بلغ عدد القصائد 72 نصًّا، مفرودة على على بياض 162 صفحة.

 

·      تقييم التجربة الإبداعية للشاعرة :

على ضوء تحليل العديد من نصوص المجموعة  نستطيع أن تقييم التجربة الإبداعية للشاعرة، حيث تميزت ب:

1. الأصالة والتجديد

تمتاز التجربة بأصالة التعبير والمزج بين الذاتي والكوني، مما يمنح النصوص بعدًا إنسانيًا مفتوحًا على التأويل.

التجديد يظهر في تفكيك الأنماط الشعرية التقليدية، حيث تعتمد الشاعرة على التراكيب المفاجئة، التناصات المتعددة، والتجسيد الحسي للمفاهيم.

2. اللغة وبنية النص

اللغة الوسيطة بين الفصحى والمتداولة تجعل القصائد أكثر قربًا للقارئ دون أن تفقد قيمتها الجمالية.

بعض النصوص تتجه نحو التكثيف الشديد والاقتصاد اللغوي، مما يجعلها تجريبية لكنها تحتفظ بجاذبية بصرية ونغمية. استخدام الصور الحسية والمجازات المركبة يضيف للنصوص طابعًا سينمائيًا ومشهديًا قويًا.

3. التناص والتفاعل مع التراث :

التجربة غنية بالتناصات الأدبية، التاريخية، والدينية، لكنها لا تعتمد عليها كمجرد زخرفة، بل تعيد توظيفها في سياقات حداثية، كما في توظيف شخصية المسيح، إلزا، والحرب.

التفاعل مع التراث لا يكون بشكل تقريري، بل يأتي ضمن رؤية نقدية فلسفية تستكشف المعاني العميقة في الرموز المستعادة.

4. الفكر الفلسفي والبعد الوجودي

التجربة تميل إلى طرح أسئلة كبرى حول الزمن، الهوية، الذاكرة، والموت، مما يجعلها ذات طابع تأملي وجودي. بعض النصوص تتبنى العبثية والسخرية كأسلوب لكشف التناقضات في الحياة، كما في:

"ماتت الحرب.. عاشت الحرب".

5. نقاط القوة

ثراء اللغة وصورها الشعرية، توظيف التناص بشكل إبداعي، التجريب في الشكل والبنية، التعبير عن القضايا الكبرى بأسلوب غير مباشر

6. نقاط يمكن تطويرها:

في بعض المواضع، قد تميل الكثافة الرمزية إلى الإغراق في الغموض، مما يجعل بعض النصوص تتطلّب جهدًا تأويليًّا عاليًا من القارئ. بعض النصوص تحتاج إلى توازن بين التكثيف والانسيابية، حتى لا تفقد وضوحها العاطفي لصالح الفلسفة.

بالنتيجة، تجربة الشاعرة في مجموعة "الموت أنيق حين يقفُ أمامَ الكاميرا " تمثّل مشروعًا حداثيًا متكاملًا، حيث تجمع بين التعبير الشخصي، التناص، التجريب اللغوي، والتأمل الفلسفي.ويمكن تقييمها كواحدة من التجارب الشعرية التي تعكس وعيًا عميقًا بتقنيات الكتابة الحديثة، مع وجود بعض التحديات التي تجعلها نصوصًا تحتاج إلى قارئ متفاعل قادر على فكّ رموزها العميقة.

                            #دعبيرخالديحيي                       الاسكندرية – مصر                    2/ 5/ 2025

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سرد الاغتراب والبحث عن المعنى قراءة ذرائعية في رواية ( منروفيا ) للكاتب المصري أحمد فريد مرسي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

أدب الرسائل عند الأديبة حياة الرايس (رسائل أخطأت عناوينها) دراسة ذرائعية مستقطعة بقلم الناقدة الذرائعية د. عبير خالد يحيي

أدب الرحلات المعاصرة: سفر في الجغرافيا والذات دراسة ذرائعية مستقطعة على كتاب (نيويورك في عيون زائرة عربية) للكاتبة اللبنانية هناء غمراوي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي