"القصيدة في مواجهة القذيفة: قراءة ثقافية في شعرية المقاومة" في قصيدة "ماذا تفعل القصيدة حين تباغتها قذيفة؟" للشاعرة السورية د. عبير خالد يحيي بقلم الناقد الأردني محمود عقيل الزعبي

 



في لحظة اشتباك الشعر مع الحرب، تقف القصيدة في مواجهة مباشرة مع أدوات العنف: لا بوصفها ضحية، بل فاعلًا رمزيًا يعيد إنتاج الحياة من الموت، ويُرمم الوعي في لحظة الفقد. تمثل قصيدة "ماذا تفعل القصيدة حين تباغتها قذيفة؟" نموذجًا لخطاب ثقافي مقاوم، ينبثق من تحت الركام، ويعيد مساءلة وظيفة الشعر في زمن الانهيار. من خلال المنهج الثقافي، يسعى هذا المقال إلى كشف العلاقات الخفية بين الخطاب الشعري والأنساق الثقافية الكامنة وراءه، منطلقًا من مبدأ أن النص لا يُنتج داخل فراغ، بل يُعاد إنتاجه ضمن صراع رمزي مع السلطة، والسلاح، والتاريخ.

يحضر النسق المعلن في بنية القصيدة عبر صورة الصدمة المباشرة بين القصيدة والقذيفة. في ظاهر النص، يُعلن الشاعر أن الشعر لا يموت بالقصف، بل يُعيد بناء ذاته من الحطام:

"تجمعُ الحروفَ كما تُجمعُ الأشلاء،

تُلملمُ المعنى من تحت الردم"

إن التوازي بين الحروف والأشلاء، والمعنى والردم، يعيد تشكيل وظيفة القصيدة، لا بوصفها تسجيلًا للعطب، بل كـ"إعادة بناء" للمعنى. إن الشعر هنا لا ينهار، بل يتحول إلى عملية إنقاذ رمزي، تشبه طواقم الإسعاف التي تنتشل الحياة من تحت الحطام. ويستمر النسق المعلن في تصوير القصيدة ككائن عنيد، ينهض من الرماد، لا يغادر موقع الكارثة، بل يتجذر فيه:

"تغسلُ وجهَ الكارثةِ

بندفةِ استعارة"

إن الاستعارة هنا ليست ترفًا بل ضرورة وجودية. إنها تُجمّل الرعب، لكنها لا تُخفيه. إنها تمنح "وجه الكارثة" بعدًا إنسانيًا لا يُمحى. بهذا، تتجلى القصيدة كصوت آخر للتاريخ، لا يوثق فحسب، بل يحاكم ويفكك ويعيد التكوين.

في البنية التحتية للقصيدة، يحضر النسق المضمر بوصفه مقاومة للمنظومة الرمزية التي تحتكرها السلطة/السلاح. فالقذيفة، بوصفها رمزًا للعنف المادي، تحاول إسكات القصيدة، لكنها تفشل. القصيدة لا تُقابل القذيفة بالصراخ، بل بالكتابة، ولا تنهار أمامها، بل تتحول إلى عنقاء تطير من الرماد:

"وتطيرُ عنقاءَ من الرماد

بجناحين من دخانٍ وغيمة"

تحضر أسطورة العنقاء بوصفها كناية عن تجدد الذات الثقافية رغم الفناء. القصيدة تُعيد ولادتها من الدخان، أي من الأدوات ذاتها التي حاولت قتلها. وهذا ما يشير إليه المنهج الثقافي بوصفه قدرة النص على تفكيك البنية الرمزية للسلطة، وإعادة تشكيل معناها لصالح الهامش/الضحية. كما يتضح النسق المضمر أيضًا في موقف القصيدة من الشهادة. فهي لا تكتب فقط عن الدماء، بل عن بقايا الحياة:

"بل عن شجرةٍ بقيت واقفة،

عن يدٍ نبت عليها اسم الفتى،

عن قط نهض من تحت الركام،

عن طفلٍ نجا،

وحملَ القصيدةَ في حقيبة المدرسة"

هذا المقطع يمثل قمة التحول في النسق، حيث تتحول القصيدة من نص حداد إلى نص حياة. إنها تنتصر للنجاة، تُجسّد حضور البسيط، العادي، الكائن الحي وسط الدمار، وتعلن أن القصيدة لا تُكتب للموتى فقط، بل للأحياء أيضًا.

من منظور ثقافي، تحمل القصيدة وظيفة توثيقية ذات طابع رمزي. فحين تقول:

"تكتب

للذينَ لم يُسعفهم الوقتُ ليكتبوا وصاياهم"

تتحول القصيدة إلى ذاكرة بديلة، تستعير صوت الغائب وتُدوّن ما لم يُدوّن. إنها كتابة ضد المحو، ضد الصمت القسري، وضد احتكار "السرد الرسمي". وهنا يتقاطع النص مع المنهج الثقافي بوصفه إعادة تشكيل الذاكرة من منظور الهامش، لا المركز.

القصيدة تنقل مركز البطولة من "المقاتل" إلى "الشاعر"، من "القذيفة" إلى "القصيدة"، ومن "سردية الدم" إلى "سردية الحبر". فهي حين تحط في:

"يدٍ ترتجفُ

لكنها ما زالت تكتب"

فإنها تُعلي من شأن الضعف الإنساني لا كمجرد ضعف، بل كـ"إصرار ناعم". ترفض القصيدة منطق القوة الغاشمة، وتحتفي بالفعل الرمزي الخفي، وتنتصر لما يمكن تسميته بالاستمرار الثقافي في وجه الانقطاع العسكري.

لا تقدم هذه القصيدة مجرد رثاء أو تأبين، بل تقدم ما يمكن وصفه بمانيفستو شعري للمقاومة الرمزية. إنها قصيدة ترفض الخضوع، وتُعيد تعريف الشعر كفعل ثقافي فاعل، يقف في وجه الهيمنة والعنف، ويعيد ترتيب العالم الرمزي من جديد. من خلال المنهج الثقافي، رأينا كيف يتقاطع النص مع أنساق رمزية ظاهرة (القصيدة، القذيفة، العنقاء) وأخرى مضمرة (الكتابة ضد المحو، الذاكرة البديلة، تمجيد الهامش). وبهذا، تتحول القصيدة إلى شهادة جمالية على بقاء الإنسان رغم العنف، وعلى فاعلية الشعر كأداة حياة لا أداة نسيان.

 

القصيدة:

ماذا تفعل القصيدة حين تباغتها قذيفة؟

حين تُباغتُ القصيدةَ قذيفة،

لا تصرخُ،

تُنصتُ لشظاياها،

وتجمعُ الحروفَ كما تُجمعُ الأشلاء،

تُلملمُ المعنى من تحت الردم،

وتُعيدُ ترتيب الوجعِ في سطرٍ مستقيم.

لا تخلعُ قميصَها الأبيض،

لا تهربُ من رائحته،

تشدُّه على الجرحِ كما تشدُّ الأرملةُ وشاحَها

وتكتُب

للذينَ لم يُسعفهم الوقتُ ليكتبوا وصاياهم.

تزرعُ زهرةً في فُوَّهةِ مدفع،

وتحفرُ مجازًا

في لحمِ اللغة،

تغسلُ وجهَ الكارثةِ

بندفةِ استعارة،

وتحني رأسَها قليلًا

لا تخضع،

تنصت،

تسمع صرخة الأبجدية وهي تُولد من الطين.

القصيدة..

حين تُباغتها القذيفة،

لا تموت،

تتخفّى في فمِ الريح،

تُهرّبُ النشيدَ من بين الأنقاض،

وتطيرُ عنقاءَ من الرماد

بجناحين من دخانٍ وغيمة.

تحطُّ في حنجرةٍ

ما زالت تؤمنُ بالغناء،

وفي يدٍ ترتجفُ

لكنها ما زالت تكتب.

وتواصل...

بعد أن تهدأَ صفاراتُ الإنذار،

وتخفتَ زحمةُ الرعب،

تنهضُ القصيدةُ من غفوتها

كبدنٍ خرج تَوًّا من رؤيا.

تمسحُ الغبارَ عن جفونها،

تتفقدُ أوزانَها المبعثرة،

وتُرمّمُ قوافيها كما تُرمَّمُ مدينة.

تكتبُ من جديد،

لا عن دماء لطخت ثوب الطهر،

ولا عن أرواح طارت بجناح ملاك فقط،

بل عن شجرةٍ بقيت واقفة،

عن يدٍ نبت عليها اسم الفتى،

عن قط نهض من تحت الركام،

عن طفلٍ نجا،

وحملَ القصيدةَ في حقيبة المدرسة.

القصيدة،

حين تُباغتُها قذيفة

لا تموت،

تضع يدها على نبضِ الأرض،

وتقول:

"ما زال في الحبرِ متّسعٌ للحياة."

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سرد الاغتراب والبحث عن المعنى قراءة ذرائعية في رواية ( منروفيا ) للكاتب المصري أحمد فريد مرسي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

أدب الرسائل عند الأديبة حياة الرايس (رسائل أخطأت عناوينها) دراسة ذرائعية مستقطعة بقلم الناقدة الذرائعية د. عبير خالد يحيي

أدب الرحلات المعاصرة: سفر في الجغرافيا والذات دراسة ذرائعية مستقطعة على كتاب (نيويورك في عيون زائرة عربية) للكاتبة اللبنانية هناء غمراوي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي