السجين بين الرمزي والوجودي قراءة ذرائعية في قصة ( السجين) للقاصّة المصرية نيرمين دميس بقلم الناقدة د. عبير خالد يحيي
تُشكّل قصة "السجين" إحدى أبرز النصوص في مجموعة (صندوق أرابيسك) للقاصّة نيرمين دميس لما تنطوي عليه من عمق رمزي ونفسي وفلسفي يتجاوز الحكاية الواقعية إلى تجربة وجودية صادمة. ففي فضاء يبدو للوهلة الأولى بسيطًا – زيارة إلى متحف الشمع – ينقلب المشهد إلى كابوس وجودي، يجد فيه البطل نفسه عاجزًا عن التنفس أو الصراخ، محاصرًا بين تماثيل جامدة وظلام خانق، فيتساءل: هل ما زال إنسانًا حيًّا، أم أصبح بدوره تمثالًا بلا روح؟
من خلال هذا التحول، تستحضر الكاتبة أسئلة الإنسان المعاصر حول الحرية، الهوية، والاغتراب، مقدّمة نصًا يزاوج بين الواقعي والرمزي، ويمنح القارئ تجربة قرائية متوترة، بصرية ومشحونة بالقلق.
1. البؤرة الفكرية
البؤرة الفكرية للقصة تتمثل في سؤال الوجود: هل يبقى الإنسان إنسانًا إذا فقد حريته وصوته، أم يتحول إلى "شيء" بلا قيمة؟
هذا السؤال يُختصر في صرخة البطل: «أنا لست تمثالًا من شمع، بل إنسان من لحم ودم!»، حيث تتحول التجربة من مجرد خوف جسدي إلى احتجاج وجودي عميق.
2. المستوى البصري
القصة غنية بالصور البصرية: التماثيل الشمعية المتقنة الصنع، قاعة المتحف المعتمة، تفاصيل الوجوه الجامدة. هذه العناصر ليست ديكورًا فقط، بل رموز للجمود والموت.
« دار بين التماثيل الشمعية في الردهة الداخلية، يتأمل دقة صنعها، لدرجة جعلتها تضاهي الواقع، كأنها من لحم ودم »
تتحوّل الصورة البصرية إلى مرآة للاغتراب، حيث يذوب الحد بين الحي والميت.
3. المستوى اللغوي
اللغة تبدأ بنبرة واقعية تقريرية، ثم تنزاح تدريجيًا إلى لغة رمزية / شعورية، قبل أن تنفجر في خطاب وجودي مباشر.
يتصدّر ساحة متحف الشمع لافتة ضخمة، مكتوب عليها بحروف كبيرة ولغات مختلفة: ”احذر لمس المعروضات، وإلا تصيبك لعنة سنوية، لا نعلم توقيتها “
البداية: نقد ساخر لصاحب فكرة المتحف .
« ما هذا الهراء؟! بالطبع إنها حيلة سخيفة من قبل إدارة المتحف؛ للحفاظ على المعروضات من عبث الزائرين، يبدو أن صاحب الفكرة متأثّر بدرجة مبالغ فيها بأفلام الإثارة والتشويق ».
الوسط: لغة شعورية مكثفة، مشحونة بالرعب: «عيناي مفتوحتان ولا أرى.. كأنني قُذفت في جب مظلم»
النهاية: خطاب فلسفي مباشر: «لا.. لا تتركوني وحدي، فأنا لست تمثالًا من شمع، بل إنسانًا من لحم ودم»
4. المستوى الديناميكي
الحركة السردية تقوم على تصاعد درامي: من دخول عادي إلى المتحف، إلى انقباض نفسي، إلى اختناق جسدي، إلى وعي وجودي.
ينقلب الزمن من خارجي (زيارة) إلى داخلي (وعي وارتباك نفسي)، فتغدو القصة مسرحًا للصراع بين الحياة والموت.
5. المستوى النفسي
القصة تعكس تجربة الرهاب الوجودي، حيث يعاني البطل من فقدان القدرة على الحركة والصوت. الخوف هنا ليس من الموت البيولوجي، بل من التحوّل إلى تمثال بلا روح.
«يحاول الصراخ بأعلى صوته، .... لكن صوته صار حبيس تلك الغرفة المظلمة المغلقة داخله».
إنها صورة رمزية لاغتراب الإنسان المعاصر، الذي يشعر بأنه محاصر في صمت مفروض عليه.
6. المستوى الأخلاقي
على المستوى الأخلاقي، تمثل القصة دفاعًا عن الكرامة الإنسانية. الصرخة الأخيرة للبطل ليست مجرد صرخة خوف، بل إعلان للتمسك بالهوية الإنسانية في وجه التشييء:
« ....فأنا لست تمثالًا من شمع.. بل إنسانَا من لحم ودم».
7. المستوى الحجاجي/التداولي
القصة تحاور القارئ بشكل غير مباشر: هل نحن أحرار فعلًا أم أسرى أنظمة اجتماعية وسياسية تحوّلنا إلى تماثيل صامتة؟
النص يطرح سؤالًا فلسفيًا مفتوحًا بدل أن يقدّم جوابًا، ويترك القارئ في مواجهة قلقه الخاص.
8. التجربة الإبداعية
إبداع الكاتبة يكمن في مزج الواقعي (متحف الشمع) بـ الرمزي (السجن الداخلي)، مستخدمة تقنيات قريبة من أدب الرعب والواقعية السحرية.
نجحت في تحويل مكان مألوف إلى فضاء كابوسي يعكس قلق الإنسان المعاصر من الاستلاب وفقدان الحرية.
في الختام:
قصة "السجين" ليست نصًا قصصيًا تقليديًا، بل صرخة وجودية تتجاوز حدود الأدب الاجتماعي لتطرح سؤالًا إنسانيًا كونيًا: متى يفقد الإنسان إنسانيته؟
ومن خلال المستويات الذرائعية، يتضح أن النص يزاوج بين:
البصري (التماثيل والظلام)،
النفسي (الاختناق والذعر)،
الأخلاقي (رفض التشييء)،
الحجاجي (سؤال الحرية)،
وبذلك تكون "السجين" القصة الأعمق في المجموعة، وذروة الأرابيسك السردي الذي ينسج من اليومي العابر دلالة فلسفية كبرى.
#دعبيرخالديحيي الإسكندرية - مصر 23/ 8 / 2025
تعليقات
إرسال تعليق