جدلية السرّ والجهْر قراءة ذرائعية في ديوان )بين سرّي وجهري( للشاعرة السورية ابتهال معراوي بقلم الناقدة د. عبير خالد يحيي

 

 



     يأتي ديوان "بين سري وجهري" للشاعرة ابتهال معراوي امتدادًا لتجربتها الشعرية التي تجمع بين الأصالة الكلاسيكية والهمّ المعاصر، حيث تلتزم الشاعرة بالبنية العمودية والوزن الخليلي، في الوقت الذي تحمّل فيه قصائدَها همومَ الذات والروح والوطن والإنسانية.

إنّ عنوان الديوان نفسه يشي بجدليةٍ مركزية بين الداخل والخارج، بين ما يُكتم في جوف الروح وما يُعلن في فضاء الجماعة، وهو ما يشكّل بؤرة فكرية متصلة بالنصوص التي تتأرجح بين المناجاة والتضرع (كما في قصيدة صلاة)، والاحتجاج على الحرب والمنافي (كما في بيرق المنافي)، واستعادة الشهادة والقداسة (كما في قداسة).

من هنا، تكتسب القراءة الذرائعية أهمية في مقاربة هذا الديوان، لأنها تتيح استجلاء المستويات اللغوية، الإيحائية، الجمالية، الديناميكية والنفسية، بما يعكس خصوصية التجربة الشعرية لدى الشاعرة ابتهال معراوي، التي استطاعت أن تحوّل الألم الشخصي والجمعي إلى رؤية شعرية ذات بعد روحي وإنساني.

 

 دراسة العنوان "بين سري وجهري":

·      على المستوى البصري

يتكون العنوان من ثلاث كلمات قصيرة متقابلة الإيقاع:

 بين (حرف ظرفي وصلة)، سري (مخفي/داخلي)، جهري (مُعلن/خارجي).

هذا التقابل البصري يعكس ثنائية الخفاء/الظهور، الداخل/الخارج.

توزّع الكلمتين "سري" و"جهري" في طرفي العنوان يعطي انطباعًا بصريًّا بتوازن الكفّتَين، وكأنّ الشاعرة تعمّدت أن تضع القارئ بين حدّين متقابلين.

بينما الحرف "بين"في صدر العنوان يوحي بمكان وسيط، أي أن القارئ سيكون مدعوًّا للوقوف في مساحة التوتر بين الكتمان والإعلان.

 

·      المستوى الدلالي:

العنوان يحمل بؤرة فكرية غنية: فهو صراع بين الوعي الباطني والإفصاح العلني.

السِّر: يحيل إلى الهمّ الذاتي، المعاناة الداخلية، الرغبات، المناجاة.

الجهر: يحيل إلى الصوت الجمعي، الشهادة العلنية، الاحتجاج ضد الظلم، التمسك بالحق. المناجاة الجماعية

الجمع بينهما يعبّر عن ثنائية أساسية في الشعر العربي: الباطن / الظاهر، الذات/ الآخر، الوجدان / الواقع.

العنوان بذلك مفتاح لفهم النصوص التي تتأرجح بين المناجاة الداخلية (كما في صلاة) والنداء الجمعي (كما في بيرق المنافي).

 

·      المستوى اللغوي

تعتمد الشاعرة لغة جزلة فصيحة، تتكئ على معجم عربي أصيل: (السؤول، ارتغابًا، مرتجى، محراب، سدول).

وبين الصور الحديثة (مثل: ملاءات التلطّف، بيرق المنافي).

 تميل إلى توظيف المفردات القرآنية والدينية، مما يضفي على النصوص سمة روحية وهيبة وقداسة (سجود، فداء، محراب، جنات الخلود).

 

كما تستثمر الجذر العربي الأصيل لتعزيز الإيقاع الداخلي والبنية الموسيقية، مثل التكرار الاشتقاقي (سؤال – سؤول، رجا – مرتجى، غربة – اغتراب، فرج/ انفراج).

 

·      المستوى الإيحائي

الإيحاء في نصوصها يغلب عليه البعد الروحي والرمزي:

في "صلاة" يتجلى الإيحاء في التحوّل من الذات المبتلاة إلى الذات المستعينة بالمطلق (وكن سؤلنا في عظيم البلاء).

أن اكشف وخفّفْ ظلامات حربٍ       وكن سؤلنا في عظيم البلاء

في "إشراق" يصبح النور استعارة عن الأمل والخلاص، فيما يرمز الظلام إلى الانكسار واليأس.

وكنتَ النورَ في غلس الخفايا        وكنتَ المدَّ والضيقُ استهامُ

في "قداسة" يُستعار الشهيد كجسر أو ساحٍ، كناية عن عبوره للأمة نحو الخلود.

أيامَن في الوغى حيّرتَ وصفًا        أأنت الجسرُ أم في العمق ساحُ

في "بيرق المنافي" يتخذ الإيحاء بُعدًا سياسًا ـ فالصوت المقاوم (مظفر النواب) يتحول إلى بيرق خالد.

سأواسي قدسنا فقدًا سما          كان صوتًا صادقًا بالحق زمجرْ

في "ملاءات التلطف" الليل رمز للحزن والسهاد، لكن الشاعرة تحيله إلى نداء رفيق يمكن أن يواسي.

وحشيُّ ليل المتعبين سَدولُ        ثملٌ، لأحمال الحنين سَبولُ

في "وكذا السواقي" يحضر الإيحاء في رمزية الغصن والجذور كعلاقة بين الإنسان وأرضه/أهله.

أيميسُ غصنٌ إن جفتْهُ مياهٌ؟         فَمِن الجذور شرابه وغِذاهُ

الإيحاء العام في الديوان يتأرجح بين الروحي والوطني، وبين الحزن الفردي والجماعي.

 

·      المستوى الجمالي

الجمالية قائمة على:

1. الصورة المركّبة: مثل (فطام النور عن ضرع التجلّي – صورة تجمع بين الرضاع والنور).

2. المجاز المكثّف: (الشام تتنفس بغداد- إسناد التنفس إلى مدينة).

3. الموسيقى الداخلية: من خلال التكرار، التوازي الصوتي (جد – مد)، والاشتقاق (غربة – اغتراب).

4. الحوارية الضمنية: القصائد تنطوي على مناداة مستمرة (يا عيد، يا ليل، يا صبح، يا بغداد) تجعل القصائد ذات بعد حواري، وكأنها رسائل مفتوحة.

 

البحور الشعرية

قصائد ابتهال معراوي موزونة عموديًّا، أغلبها على بحور: الطَّويل، الكامل، البسيط، والوافر.

مثال:

"صلاة": على بحر الكامل (متفاعلن متفاعلن متفاعلن).

"إشراق": على بحر البسيط (مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن).

"قداسة": على الطويل (فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن).

"وكذا السواقي": على الوافر (مفاعلتن مفاعلتن فعولن).

هذا الالتزام بالبحر الكلاسيكي يعكس انتماء الشاعرة إلى القصيدة العمودية التراثية مع مضمون معاصر.

 

·      المستوى الديناميكي

ديناميكية النصوص تعتمد على التدرج من الانكسار إلى الرجاء:

يبدأ النص عادةً من أزمة أو محنة (ظلمات الحرب، القنوط، الغربة) ثم يتحرك نحو أفق انفتاح (الصبح، النور، الفجر).

هذا يمنح القصائد حركة تصاعدية، تمنح النصوص ديناميكية درامية، تتناسب مع ثيمتها الإيمانية والإنسانية، تخرجها من الرتابة إلى التوتر والصعود.

 

·      المستوى النفسي

النصوص تعكس:

البعد السلوكي: الالتجاء إلى الله كخيار نفسي وروحي في "صلاة".

البعد التقمّصي: استدعاء صوت الشهيد أو المناضل (قداسة/بيرق المنافي) وكأنها تتقمص وجدان الجماعة.

البعد التعويضي: في "على زند المنى" و"ملاءات التلطف"، نجد محاولة تعويض فقد/ألم بالتماهي مع الأمل والسكينة.

البعد التوليدي: توليد طاقات أمل جديدة من رحم الأزمة كما في إشراق حيث يولد نور الفجر من رحم الظلام

 

·      التجربة الإبداعية

تجربة الشاعرة ابتهال معراوي تنطلق من الوجع الجمعي السوري والعربي (الحرب، المنافي، الشهداء، الأعياد المبتورة)، لكنها لا تغرق في المباشرة، بل تحوّل الألم إلى رموز كونية (النور، العيد، الليل، الغربة).

و تتأسس على الجمع بين القصيدة العمودية الكلاسيكية والهموم المعاصرة. فهي تستثمر البنية التراثية لتعبّر عن قضايا الحرب والغربة والمقاومة والروحانية.

ثيمة مركزية: ثنائية السر والجهر (الداخل/الخارج). المزج بين الروحانية والوطنية، بين صوت الفرد وصوت الجماعة.

التقنية: التدرج الدرامي من الانكسار إلى الفجر، مما يجعل النصوص ذات نفس ملحمي.

خصوصية التجربة: تحويل الألم الشخصي والجماعي إلى خطاب شعري يحمل بعدًا روحيًّا ووطنيًّا. وإحياء القصيدة العمودية الكلاسيكية بوجدان حديث، يوازي صوت شعراء المقاومة (مظفر النواب) مع البعد الأنثوي العاطفي.

الرؤية: استعادة صوت الجماعة من خلال الأنا الشاعرة، وتوظيف الرمز الديني والوطني لتوليد أفق أمل.

 

·      الخاتمة

يقدّم ديوان "بين سري وجهري" للشاعرة ابتهال معراوي تجربة شعرية راسخة في تقاليد القصيدة العربية، لكنها مفعمة بالأسئلة المعاصرة. من خلال جدلية الداخل والخارج، والسر والجهر، تنسج الشاعرة صورًا تجمع بين الروحانية والاحتجاج، بين الغربة والرجاء، بين الشهيد والقداسة.

إنّ هذه القراءة الذرائعية تكشف عن وعيٍ شعريٍّ يزاوج بين الوزن العمودي الموروث والرمزية الحديثة، وبين التجربة الذاتية والوجع الجمعي، ليؤكد أن القصيدة العمودية لا تزال قادرة على مواكبة قضايا العصر متى ما وُظفت بوعي وجمال.

 

                   #دعبيرخالديحيي                     الاسكندرية – مصر                         29 / 8 / 2025

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سرد الاغتراب والبحث عن المعنى قراءة ذرائعية في رواية ( منروفيا ) للكاتب المصري أحمد فريد مرسي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

إشهار كتاب النزعة الصوفية والنزعة التأملية في شعر الأديب السوري منذر يحيى عيسى

أدب الرحلات المعاصرة: سفر في الجغرافيا والذات دراسة ذرائعية مستقطعة على كتاب (نيويورك في عيون زائرة عربية) للكاتبة اللبنانية هناء غمراوي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي