من الجرح إلى المنار: قراءة ذرائعية في قصيدة «جُروح» للشاعر الأردني أمين أسعد زيد الكيلاني بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي
مقدمة القراءة
في حضرة الجرح الفلسطيني، لا تكون القصيدة مجرد نحيبٍ شعري، لكنها تتحوّل إلى منارةٍ لغوية تهدي الروح وسط ظلمة الفقد والمقاومة.
في قصيدته «جُروح»، ينسج الشاعر أمين أسعد زيد الكيلاني خريطةً شعورية تنطلق من لحظة مأساوية حدثت في طمرة — حيث سقطت أرواحٌ بريئة بين رماد المنازل والبحر المكلوم — لتصبح قصيدته سجلاً حيًّا للمقاومة والذاكرة الجمعية.
تتقدم هذه القراءة الذرائعية لتحلّل أبعاد النص في مستوياته المختلفة: البصري، اللغوي، الديناميكي، النفسي، والرمزي، في ضوء سياقه التواصلي والأخلاقي. تحاول أن تلتقط كيف ينجح الشاعر في تحويل الألم إلى قوة معنوية، والدمعة إلى صلاةٍ صافية، بحيث يصبح كل بيتٍ في القصيدة أشبه بمنارة تضيء درب الهوية الفلسطينية، وتعلن أن الأرض، مهما نزفت، ستبقى موثّقةً بدم أبنائها.
هكذا، تصبح قصيدة «جُروح» أكثر من نص؛ إنها وثيقة شعرية تتلاقى فيها الحقيقة والجمال، ليولد منها معنى أعمق: الجرح الذي لا يندمل إلا حين يتحوّل إلى منار، وإلى وعدٍ بالعودة.
أولًا – البؤرة الفكرية الواقعية والخلفية الأخلاقية:
القصيدة تنهض من حدثٍ طارئ ودامٍ: سقوط صاروخٍ على طمرة في 15 يونيو 2025 أودى بحياة أربع نساء من عائلة واحدة، بينهنّ الأم منار وابنتاها شذى وحلا، وقريبتهن منار ذياب خطيب .
مركز المعنى هنا هو جرحٌ جمعيٌّ يتجاوز حدود الألم الشخصي إلى صياغة رؤية تضحية وفداء من أجل الوطن الفلسطيني.
ثانيًا – المستوى البصري (التصويري)
«النَّايُ أضحى تائهًا» (ب٤) يرسم آلةً موسيقيّةً فقدت نَفَسها، فتتجسّد الغربة بصريًّا في صمت الناي.
«سقطت منارُ، ومِن شهابٍ حارقٍ / حَرَقَ الطموحَ…» (ب٨) تشخيصٌ مضاعف: الاسم «منار» = منارة/منارة بشرية. سقوطها يشبه انطفاء منارة بحرية، وتحوّل الشهاب إلى قذيفةٍ يحرق «الطموح» في لقطةٍ سينمائيّة خاطفة.
«صوتُ المآذنِ… مُتَهَدِّلٌ» (ب٥) يُحيل إلى مئذنةٍ منكسرةٍ أحالت نداءَ السماء إلى أنينٍ أرضي.
ثالثًا – المستوى اللغوي والموسيقي
اعتماد رويّ ثابت بـ«ـيقَه» يمنح النص إيقاعًا دائريًّا يكرّر صوت القافية كما يكرّر الألم.
الوزن يقترب من البحر الرجز (مُسْتَفْعِلُنْ) لكن الشاعر يكسر التفعيلات أحيانًا لصالح الدفقة الشعورية؛ ما يعكس ارتباك البوصلة في البيت الثالث نصًّا وموسيقى.
حقلٌ معجميٌّ للألم: «جرح – جراح – حريق – زفرة – غصّة – مأتم» يقابله حقلٌ تعلُّقي مضاد: «منار – طموح – فداء – جَنَّة». أسلوب التضاد يُبرِز صراع الذاكرة مع الحاضر.
رابعًا – المستوى الديناميكي (تنامي الحدث)
1. الانفجار الداخلي (ب١–٣): وصفٌ مفصل لعمق الجرح وفقدان البوصلة.
2. ارتباك الأصوات (ب٤–٦): تحوُّل أدوات الهوية (الناي، المئذنة) إلى رموزٍ مشروخة.
3. تشييع المنار (ب٧–٩): إعلان السقوط ثم تعداد الخسائر («ذوت زهورٌ في ربيع شبابها»)
4. العودة إلى البحر/الأرض (ب١٠–١٤): إعادة ترسيم حدود الانتماء («ذي أرضُنا… جذورُنا»).
5. أُفق الدعاء (ب١٥–١٦): إغلاق بنبرةٍ عرفانية ترفع الضحايا إلى «جَنَّةٍ مَغدوقَه».
التنامي يحوّل الجرح من محنةٍ فردية إلى حجّةٍ وطنية تُعيد إدخال الفداء في دورة الرمزية الفلسطينية.
خامسًا – المستوى النفسي
القصيدة تعرض مراحل الصدمة وفق نموذج Kübler-Ross (الإنكار لا يكاد يظهر، ينتقل سريعًا إلى غضبٍ مكتوم ثم حزنٍ عميق فتقبّلٍ مشروط بالدعاء).
البيت «ضَيَّعتُ بوصَلَتي» (ب٣) يكشف عن لحظة تفكّك إدراكي، بينما المناجاة الأخيرة («يا ربّ») تقترح إسقاط الأمل على الآخرة، وهو آلية دفاع جماعية في ثقافة المقاومة.
سادسًا – المستوى الإيحائي والرمزي
البحر يُذكّر بامتداد حيفا إلى عارة إلى طمرة؛ وهو خط مائي يشهد على اتصال الفلسطيني بأرضه رغم التهجير («للبحرِ بَرٌّ عِيقةً» ب١٠).
تكرار لفظ «منار» يوظّف لعبة الدالّ/المدلول: منارة = هداية، و«منار» الضحية = تجسيد تلك الهداية التي أُطفِئت.
تماهت «الجذور» في ب١٤ مع «الجراح» في ب١؛ إيحاء بأن الوجع نفسه متجذّر بعمق الأرض.
سابعًا – المستوى الحجاجي:
الحجّة الرئيسية: عِظَم الفداء يشرعن البقاء؛ فكلّ جرحٍ يُعيد تأكيد أحقيّة الأرض («عَظُمَ الفِداءُ لأجلِ نوركَ موطني» ب١٢).
الاستراتيجية الحجاجيّة تقوم على:
1. الاستعطاف (توصيف المأساة).
2. التقويم القيمي (رفع الضحية إلى مستوى المنارة).
3. الاستنتاج الأخلاقي (الدعاء لهم وللأرض).
ثامنًا – التجربة الإبداعية للشاعر
أمين أسعد زيد الكيلاني، مثقفٌ درس علم النفس واللغة العربية في الداخل الفلسطيني، ويكتب قصائد تجمع بين التراث العروضي والهمّ الوطني .
معرفته بعلم النفس تتجلّى في ضبط المشاعر وتدرّجها، بينما تكوينه الشرعي يُغذّي اشتغال القصيدة على المآذن والدعاء والآخرة.
خاتمة: تأويل ذرائعي مختصر
«جُروح» نصٌّ يُفعِّل الأبعاد الوظيفية للغة: يحتفظ بالوزن والقافية (البعد الجمالي)، يُعالج حدثًا عينيًّا (البعد التداولي/التواصلي)، ويوظّف الرمز الديني والبحري لتثبيت هويةٍ مقاومة (البعد الأخلاقي).
بهذا يحقِّق الشاعر أحد موجهات الذرائعية الأساسية: ترسيخ العلاقة بين النصّ وسياقه لتوجيه سلوك المتلقّي نحو التماسك والوفاء للأرض.
ملاحظة ختامية
يتسق البناء اللولبي للقصيدة مع «نظرية اللولب الذرائعية » التي ترى أن تداولية النص تنمو عبر مسار دائري يضاعف المعنى مع كل دورة. هنا يُعاد تلفّظ القافية «ـيقَه» ست عشرة مرّة، لتُذكّر المتلقّي، في كل التفاف، بغور الجرح وبثبات الجذور.
القصيدة
جروح:
شعر امين اسعد زيد الكيلاني(شن)
عاره: قضاء حيفا
١) جُرحٌ تَعَمَّقَ وَالجِراحُ عَمِيقَهْ
مِنها الجَديدُ، وَغَيرُها فَعَتِيقَهْ
٢) في" طَمرَةَ" الأَوجاعُ أَوْهَت مِعصَمِي
وَمَدامِعِي أُجَّتْ بِها، فَحَرِيقَهْ
٣) ضَيَّعْتُ بُوصَلَتِي، وَضِقْتُ بِأُفقِها
وَ تَبَدَّلَت أَلحانُها الموسِيقَهْ
٤) فَالنَّايُ أَضحَى تائِهاً فِي غُربَةٍ
وَالكَفُّ وَلَّى، ناشِداً إِبريقَهْ
٥) صَوتُ المَآذِنِ قَد عَلا مُتَهَدِّلاً
فِي زَفرَةِ الآلامِ، كانَ حَقِيقَهْ
٦) فَفِراقُ مَن كانُوا قُبَيْلَ سُوَيْعَةٍ
بَينَ الأَحِبَّةِ، فَغَصَّنا بِطَريقَهْ
٧) بِطَريقَةِ الآهاتِ وَالجُرحِ الَّذِي
شَقَّ الفُؤادَ بِمَأْتَمٍ وَصَفيقَهْ*
٨) سَقَطَتْ مَنارُ، وَمِنْ شِهابٍ حارِقٍ
حَرَقَ الطُّموحَ، أَحالَها مَعْتُوقَهْ
٩) وَذَوَتْ زُهورٌ في رَبِيعِ شَبابِها
نَضَبَ الحَلا، جَفَّ الشَّذا، وَرَفِيقَهْ
١٠) هذِي مَنارُ، حَليفَةٌ لِمَنارِها
وَكِلاهُمَا لِلْبَحرِ بَرٌّ عِيقَهْ*
١١) نَبَأٌ عَظيمٌ، وَالبَلاءُ نَوازِلٌ
عَظُمَ الفِداءُ، فَمُشْفِقٌ وَشَفِيقَهْ
١٢) عَظُمَ الفِداءُ، لِأَجْلِ نُورِكَ مَوطِنِي
كَمْ مِنْ مَنارٍ لِلْفِدَا مَسْبُوقَهْ
١٣) ذِي أَرْضُنَا، فَالأَرْضُ أَرضُ جُدُودِنَا
فيها نَمَتْ أَشجارُنا المَمْشوقَهْ
١٤) وَتَجَذَّرَتْ عَبرَ الزَّمانِ جُذورُنا
وَتَعَمَّقَتْ، ما بَدَّلَتْ تَوْثِيقَهْ
١٥) كَمْ مِنْ حَلَا، أَو مِنْ شَذَا في جَنَّةٍ
فَوقَ الأَرائِكِ، في العُلَا مَرمُوقَهْ
١٦) يا رَبِّ أَنزِلْ مَنْ فَقَدنَا جَنَّةً
يَنْعَمنَ فيها نِعمَةً مَغدُوقَهْ
المفردات
١) صفيقة : غلظة.
٢) عيقة : سواحل.
الأربعاء: 18/6/2025
طمرة: الجليل الغربي
#دعبيرخالديحيي الاسكندرية - مصر 22/6/ 2025
تعليقات
إرسال تعليق