التهكم السياسي وتعرية المقدّس الزائف مقاربة ذرائعية لقصيدة (أعلُوا هُبَل) للشاعر السوري عمر هزاع بقلم الناقدة د. عبير خالد يحيي

 


التعرية الرمزية للانحطاط السياسي والديني

يأتي هذا النص الشعري المعنون ب ( أعلوا هبل) للشاعر السوري عمر هزاع في إطار تفكيك ساخر ونقدي لمشهد سياسي معاصر، تتماهى فيه رموز الحداثة المزعومة مع أصنام الجاهلية الأولى.

تبدأ القصيدة بنداء استرجاعي لأُسطورة "هُبَل"، كناية عن عودة الأصنام القديمة في هيئة جديدة – إعلامًا، ساسة، طغاة، مشايخ – يتلبّسون ثوب القداسة الزائفة.

 

·      البؤرة الفكرية العامة

إن البؤرة الفكرية تتلخص في تفجير الخطاب الزائف، وفضح التواطؤ بين السلطة والدين والقومية في آن، حيث يتنصّل الجميع من "الشام"، وتُقدّس "هَجَر" في مشهد سريالي يفيض بالسخرية السوداء.

 

·      الخلفية الأخلاقية

القصيدة تمارس التحريض الأخلاقي المعكوس، حيث يعمد الشاعر إلى فضح السلوكيات الوحشية من خلال تصعيدها إلى أقصى تخييل فجٍّ ممكن. مشهد ذبح "النهر" أضحية، واستبدال "الأخضر بالأزرق"، وشدّ الطبول بجلد الثكالى، هي كلها صور تضع القارئ في صدمةٍ أخلاقية مقصودة، تحفّزه على رفض هذا العالم المعكوس.

 

·      المستوى اللساني الجمالي

النص مكتوب بلغة هجينة ومركبة، مشحونة بالدلالات الدينية والأسطورية والسياسية، وتتميّز بـ:

نحت لغوي خاص (أعلُوا هُبَل – اذبحُوا النهرَ – شُدّوا على الطبلِ جِلدَ الثكالى).

تراكيب تضادّية: حضر / بدو، داوود / القَدَر، الأزرق / الأخضر.

استحضار بلاغي ساخر من النصوص الدينية: (لا مساسَ – أثَر – استفتحوا باسم داوود).

كثافة التكرار: "بحق الشوارب"، "يا بَنِيَّ"، "قولوا"، كأدوات إيقاع داخلي وتحريض درامي.

اللغة الشعرية هنا تتلبّس قناع الخطيب الطاغية لتعرّي منطقه.

 

·      المستوى الديناميكي

القصيدة تتحرك عبر تدرج انفعالي تصاعدي:

1. من افتتاح ساخر باسم "هُبَل"،

2. إلى نداءات تحريضية متطرفة (اذبحوا النهر، اقتلوا البدو)،

3. إلى لحظة احتفال رمزي مشوّه (نقرع ناقوسنا للخطر، نُقسم الشجر).

هذا التدرج يمنح النص إيقاعًا مسرحيًا سوداويًا، يُقوّض فيه الشاعر كل استقرار دلالي، ليرتفع نحو ذروة الكابوس.

 

·      المستوى الإيحائي العميق

شحن رمزي مضاد للمرجعيات

القصيدة تنهض على مجازات تكتنز مستويات رمزية متعدّدة:

"هُبَل": رمز الطغيان المتكرر عبر الزمن.

"ذبح النهر": قتل الحياة والخصب.

"استبدال الأخضر بالأزرق": استبدال الوطن  بالانتماء الزائف.

"داوود – سلمان – الكيان": رموز دينية وسياسية تُقحم في خطاب النصر المزوّر.

كما أن القصيدة تفيض بالإيحاءات المركبة:

"هُبَل": صنم جاهلي يعود في رمزية الطغيان الحديث.

"اذبحوا النهر": نفي للحياة، اغتيال للخصب.

"الأخضر والأزرق": الأخضر رمز الحياة، رمز الدولة السورية الجديدة، الأزرق رمز التدخل الغريب أو السكون الميت، رمز الكيان الصهيوني.

"شواربنا": رمزية الفحولة الشرقية المزيّفة.

"بسلمان، ثم الكيان": إيحاء سياسي مباشر بصيغة هزلية.

الإيحاء العميق هنا لا يتخفّى بل يفجّر نفسه في وجه القارئ كقنبلة

الإيحاء في النص ليس مجرد خلفية فكرية، بل قوة فاعلة تُفجّر الخطاب السياسي والديني وتعيد ترتيبه من زاوية الضحية الساخرة.

 

·      المستوى النفسي – مدخل التناص والصراع الشعوري

القصيدة تسير في توتر شعوري ثنائي القطب: بين الهجاء والحداد، بين التحريض والفضح، بين نبرة الخطيب المنفلت ونبرة الشاعر المراقب داخليًا.

في هذا التوتر، يظهر الصراع النفسي للنص، الذي لا يُنشد الحقيقة مباشرة، بل يُفجّر زيفها عبر تقمّص نبرة الطغيان، أي عبر أن يتحدث بلسان خصمه لكي يعريه.

 التناص بوصفه آلية صدمة ووعي:

يعتمد الشاعر على تناص ديني وتاريخي فجّ، لا لاستلهام المقدس، بل لفضحه عبر التهكم:

"أعلُوا هُبَل": تناص مع الجاهلية، يُستدعى في سياق معاصر، لتأطير الأنظمة الطائفية والقبلية كامتداد للصنم نفسه.

"لا مساس.. قولوا: أَثَر": تناص صريح مع قصة السامري في القرآن، يوظّف هنا بصورة هزلية لتعرية التوظيف الديني للسلطة.

"استفتحوا باسم داوود": يستدعي التوراة بشكل ساخر، ليكشف عن الحلف الديني-السياسي القائم على العنف.

"بسلمان، ثم الكيان": تناص مع الخطابات السياسية العربية التي تتغنى بالانتصار الزائف، هنا يُحاكى صداها لا ليُكرّسها، بل ليُفجّرها من الداخل.

كل تناص هنا يخدم بُعدًا نفسيًا مزدوجًا:

1. انكشاف الذات الجمعية المخدوعة بخطاب ديني قومي طقوسي

2. إفاقة القارئ عبر الصدمة الساخرة التي تنقله من الاستلاب إلى الوعي

 

الانفعال النفسي الداخلي للنص:

يُمارس الشاعر نوعًا من الاحتراق الداخلي المنضبط، حيث لا يظهر الغضب بوصفه هستيريا بل يتحوّل إلى هجاء رمزي ساخر، يُقلب المشهد رأسًا على عقب حتى يفقد القارئ توازنه، ويُجبر على إعادة تموضعه النفسي أمام النص.

القصيدة ليست تعبيرًا عن شعور ذاتي، بل عن غضب جماعي مشوّش، يتم تمثيله عبر أداء مسرحي داخلي يحاكي صوت المستبد بدقّة، ثم يكشف انحطاطه عبر اللغة نفسها.

 

·      التجربة الإبداعية

الشاعر عمر هزاع يكتب من قلب الكارثة، بلسان السخرية السوداء والدراما المقلوبة.

يُمارس نوعًا من الفضح الماكر للأنظمة، لا من خلال الخطابة المباشرة، بل من خلال المحاكاة الساخرة لصوت الجلاد.

وهذه اللعبة البلاغية تُظهر تحكمًا عاليًا بالأدوات الشعرية، وقدرة على صناعة المعنى عبر التهكّم والمجاز المضاد.

 

ختامًا:

نص "أعلُوا هُبَل" هو صرخة شعرية معاصرة، تقف في قلب التيه العربي، لتفضح تواطؤ الطوائف والقوميات على الشام، وعلى الإنسان.

يعتمد الشاعر أسلوب التوليد العكسي للوعي: لا يواجه القارئ بالخطب المباشرة، بل يدفعه إلى الاشمئزاز من صورة مقلوبة يضعها أمامه.

إنها قصيدة مقاومة بالدهشة، وبالاستعارة السوداء، حيث يتحول النص إلى مرآة مشروخة لانهيار العقل الجمعي.

 

الآن:

ـــــــــــ

أعلُوا هُبَل..

ـــــــــــــــــــــــــــ

إلى مربَدٍ..

- قِيلَ -

ملءَ البَصَرْ..

تشابهَ فيهِ خوارُ البَقَرْ..

يصيحُ بهم حِكمتُ الهَجَريُّ:

اكفُروا بالشآمِ!

وأعلُوا هَجَرْ!

بحقِّ شواربِنا؛ يا بَنِيَّ؛ اذبحُوا النهرَ أضحيةً للحَجَرْ!

بحقِّ الشواربِ..

والسامِريِّ..

اقبضُوا؛ لا مساسَ ..(..)؛ وقولُوا:

أَثَر..

هلمُّوا!

اقتلُوا البَدوَ تَنجُ السُّويداءُ يَخلُ لكم وجهُها..

يا حَضَرْ!

وصُبُّوا لنا في جماجمِهم دَمَ أطفالِهم!

كي يطولَ السمَرْ..

وشُدُّوا على الطبلِ جِلدَ الثكالى!

وللعودِ جِلدَ اليتامى وَتَرْ!

وبالأخضرِ استبدِلوا الأزرقَ!

استفتِحوا باسمِ داوودَ شَقَّ المَمَرْ!

وقولوا:

بسَلْمانَ..

ثمَّ الكيانِ..

انتصرنا..

وليسَ برَبِّ القَدَرْ..

على جبلٍ أحمرٍ..

في الجنوبِ..

وقفْنا نُخضِّبُ وجهَ القَمَرْ..

ونُخرجُ للناسِ؛ في الظُّهرِ؛ نَجمًا..

ونَقرعُ ناقوسَنا للخَطَرْ..

ونَدعو ملوكَ الطوائفِ حتى نُقَسِّمَ للعاصفاتِ الشجَرْ..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* يتبع..

* عمر هزاع  1-8-2025..

#دعبيرخالديحيي                          طرطوس- سوريا                         2/8/ 2025

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سرد الاغتراب والبحث عن المعنى قراءة ذرائعية في رواية ( منروفيا ) للكاتب المصري أحمد فريد مرسي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

إشهار كتاب النزعة الصوفية والنزعة التأملية في شعر الأديب السوري منذر يحيى عيسى

أدب الرحلات المعاصرة: سفر في الجغرافيا والذات دراسة ذرائعية مستقطعة على كتاب (نيويورك في عيون زائرة عربية) للكاتبة اللبنانية هناء غمراوي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي