من الغياب إلى الذاكرة: قراءة ذرائعية في مجموعة القصصية (المرأة التي فقدت ظلها) للقاص السوري أحمد حسين حميدان بقلم الناقدة الدكتورة عبير خالد يحيي
تأتي هذه المجموعة القصصية في إطار الأدب
السوري الذي وُلد من رحم الحرب والاغتراب والفقدان. القاص أحمد حسين حميدان يوظّف
القصة المكثفة الموجزة لتجسيد جدلية الحياة/الموت، الحضور/الغياب،
والذاكرة/النسيان. النصوص، برغم قصرها، تتكئ على شحنة إيحائية عالية، تجعل من كل
قصة صورة رمزية مشبعة بالبعد النفسي والاجتماعي والفلسفي.
المنهج الذرائعي
هنا يكشف المستويات الجمالية والديناميكية والنفسية لهذه النصوص، إضافةً إلى
الحمولات الأخلاقية والاجتماعية التي تشكّل خلفية العمل.
أولًا: الديباجة السيميائية والدلالات
الإيحائية
النصوص تنفتح
على شبكة واسعة من الرموز:
الظل: علامة
سيميائية للهوية، حين يُفقد، يتلاشى الفرد في العدم أو الغياب.
الموتى
والأحياء: الحدود بينهما مُخترقة؛ الأموات ينهضون، الأحياء يدفنون، بما يشي بتشوش
الزمان والمكان تحت وطأة الحرب.
المفاتيح
والبيوت: مفاتيح العودة المعلقة في الذاكرة تتحوّل إلى رمز للحنين والاقتلاع
القسري.
الأطفال: يمثلون
البراءة الضائعة، أو الأمل المؤجّل (كما في قصة الطفل الذي يهدي المعلّمة عطرًا
ليشم رائحة أمه الغائبة).
العصافير/الموسيقا/الأحلام:
صور بديلة للحياة، لكنها محاصرة بالقصف أو الغياب.
الدلالة
الإيحائية لهذه الرموز تخلق لغة مزدوجة: ظاهرها السرد الواقعي، وباطنها خطاب وجودي
عميق.
ثانيًا: التحليل الذرائعي
1. المستوى الديناميكي
(الحركة السردية والتقنيات)
يقوم السرد على
التكثيف، حذف التفاصيل الثانوية لصالح ومضة قوية.
استخدام
المفارقة: كالموت الذي يضحك في وجه من ينتظره.
في قصة "ما
قاله الموت" (ص.12):
«كان الموت يقهقه من حوله
ويقول له: لا، لم يحن دورك بعد!»
هذا المثال يوضح
المفارقة الدرامية حيث يُشخّص الموت ككائن ساخر، وهو ما يحرك السرد نحو اللايقين.
تقنية المرايا:
تكرّرت في أكثر من قصة لتأكيد ضياع الهوية وانكسار الصورة الذاتية.
التقاطع بين
الواقع والمتخيل: القبور تنطق، الأموات يعاتبون الأحياء، الأطفال يخاطبون الغياب.
في قصة
"المفتاح" (ص.53):
«المفتاح الذي قفلَ به أحب
الأبواب إلى قلبه ورأى المفتاح مثله يبادله النظر بعينه الكبيرة»
هنا تقنية
التشييء/المجاز الحي، حيث يتحول المفتاح إلى شخصية تتبادل المشاعر مع البطل، فيحرك
دينامية الحنين إلى البيت.
2. المستوى الجمالي
واللغوي
اللغة مكثفة،
مشبعة بالإيحاء، متكئة على صور حسية (الدم، العطر، المطر).
في قصة
"عطر" (ص.11):
«قدّم لمعلمة الصف زجاجة
عطر… أجابها: كي أشم رائحة أمي في غرفة الصف كل صباح»
لغة حسية تعتمد
على المجاز الشمي الذي يحول العطر إلى مرادف للذاكرة.
الميل إلى
الانزياح الشعري، حيث تتداخل القصة مع قصيدة النثر.
في قصة
"مطر.. مطر" (ص.45):
«صاحت السماء بأمطار لم
ترَ بيت المدينة مثلها من قبل!»
اللغة هنا مشبعة
بالانزياح الشعري؛ السماء تتحول إلى ذات فاعلة، مما يضفي بعدًا جماليًا ملحميًا
الجمل قصيرة
نابضة، تحافظ على إيقاع متوتر يوازي قسوة الواقع.
3. المستوى النفسي
النصوص تكشف عن
صدمة الحرب: صدمة الفقد، الغياب، التهجير.
في قصة
"مرايا الغياب" (ص.28):
«اقترب من المرآة الكبيرة…
لم يرَ صورته في المرآة!»
هذه إشارة إلى
تفكك الهوية تحت وطأة الفقد، حيث يفقد الإنسان صورته مع غياب من يحب.
حضور قوي
لثنائية الذاكرة والإنكار: الشخصيات ترفض تقبّل الفقد، فتتخيّل عودة الميت أو تستحضره
في المنام.
في قصة
"رأس سنة الغياب" (ص.25):
«مال الطفل بأذنه نحو
التربة، وقال لأمه: سمعت صوته يا أمي!»
هنا يظهر
الإنكار النفسي لغياب الأب، عبر خيال الطفل الذي يحاول استدعاء الميت.
الميل إلى
التناص النفسي مع الأساطير (الحلم بالطيران مثل الملائكة، الخلود بالظل، القيامة
من القبور).
4. الحمولات الفلسفية
والرمزية والاجتماعية
الفلسفي: أسئلة
عن معنى الموت والحياة، حضور الغياب، حدود الزمن (قصة الجد والساعة).
الرمزي: الموتى
الذين يعودون، المفاتيح، العصافير، كلها رموز لحقائق وجودية.
الاجتماعي: نقد
الفساد، الحرب الأهلية، التهجير، استباحة المدن. النصوص وثيقة إبداعية عن مرحلة
تاريخية دامية.
ثالثًا: البؤرة الفكرية
والخلفية الأخلاقية
البؤرة الفكرية: الإنسان السوري/العربي في مواجهة العدم؛ كيف يحوّل الحرب والفقدان
إلى ذاكرة وحكاية.
الخلفية
الأخلاقية: انحياز الكاتب
للضحايا، رفضه للقتل والفساد والحصار، وتأكيده على قيمة الإنسان مهما كانت هشاشته.
النصوص تُدين كل أشكال القتل والاقتلاع، وتتمسك بالحب والذاكرة كقيمة أخلاقية
مقاومة.
مجموعة "المرأة التي فقدت ظلها"قصص قصيرة/مكثفة موجزة تتجاوز حدود الحكاية إلى فضاء رمزي فلسفي، تنفتح على أسئلة
الوجود ومعنى الغياب. والقاص أحمد حميدان يمارس كتابة تُشبه الشظايا، لكنها تنحت
في وجدان القارئ أثرًا عميقًا.
القيمة
الذرائعية للمجموعة تكمن في الجمع بين اللغة الجمالية المكثفة والرمزية الاجتماعية
والنفسية، لتتحوّل القصص إلى شهادات أدبية على مأساة جماعية، وفي الوقت ذاته إلى
بحث عن معنى وسط الركام.
اخترت ثلاث قصص
لأحلّلها ذرائعيًا:
· القصة الأولى: صحراء الأيام
البؤرة الفكرية:
تصوير الزمن كصحراء قاحلة تمتص حيوات الناس وتتركهم في العراء.
الخلفية
الأخلاقية: نقد الاستسلام للواقع المرير، والدعوة إلى مراجعة الذات وعدم الانخداع
بالمظاهر.
المستوى
الديناميكي: الحوار الجماعي بين العجوز والناس في الساحة؛ حركة السرد أشبه بمشهد
مسرحي/حوار فلسفي.
المستوى
الجمالي: استخدام صور مكثفة: «الجسد العاري للجوع»، «الصحراء بلا ستر».
المستوى النفسي:
حالة القلق الجماعي من الفناء، والخوف من المستقبل.
المستوى الدلالي
الإيحائي:
الصحراء = رمز
للفراغ، القحط، موت المعنى.
الجوع والبرد =
استعارات للخذلان السياسي والاجتماعي.
السلحفاة
المختبئة (في النص) = أمل خفي، كنوز داخلية لا تُرى إلا بالصبر.
· القصة الثانية: حنين
البؤرة الفكرية:
العودة المستحيلة إلى الماضي/الطفولة عبر بوابة المقبرة.
الخلفية
الأخلاقية: الوفاء للذكريات والأحبة، والإصرار على صلة الأرحام حتى بعد الموت.
المستوى
الديناميكي: حركة الرجل العجوز نحو المقبرة، مشهدية حسية (العكاز، الغروب،
الأصدقاء الراقدون).
المستوى
الجمالي: صورة بديعة: «المقبرة عمارها محاط بالغروب»، «حمل الغياب على كتفيه حتى
قوّس ظهره».
المستوى النفسي:
شعور بالذنب والخذلان، الحنين الموجع الذي يتحول إلى هوس.
المستوى الدلالي
الإيحائي:
المقبرة = رحم
بديل يحتضن الغائبين.
الغروب = انطفاء
العمر.
العكاز = بقايا
القوة/حامل الذاكرة.
الحنين هنا ليس
مجرد عاطفة، بل قوة جاذبة تستدعي الموت نفسه.
· القصة الثالثة: غضب الموتى
البؤرة الفكرية:
الموتى يحتجون على الفساد كما يحتج الأحياء، في مفارقة سريالية.
الخلفية
الأخلاقية: إدانة الفساد حتى في أكثر الأماكن قداسة (المقبرة).
المستوى
الديناميكي: بناء قصصي ساخر، حيث يبدأ من حلم/منام، ثم يتطور إلى احتجاج جماعي.
المستوى
الجمالي: صور ساخرة: «الموتى يتجمعون حوله صارخين احتجاجاً».
المستوى النفسي:
تفريغ للغضب المكبوت من خلال خيال يحمّل الموتى مسؤولية الاحتجاج بدل الأحياء.
المستوى الدلالي
الإيحائي:
الموتى الغاضبون
= ضمير جماعي يتكلم من تحت التراب.
حفّار القبور
الفاسد = رمز للاستغلال حتى في الموت.
الاحتجاج = صورة
معكوسة لشلل الأحياء.
القصة تتساءل:
إذا كان الأحياء صامتين، فهل ينهض الموتى ليصرخوا بالحق؟
تكشف هذه القصص الثلاث أن أحمد حسين حميدان
يحوّل التجربة السورية القاسية إلى نصوص قصيرة مشبعة بالرمز والإيحاء.
صحراء الأيام:
مجاز عن القلق الوجودي والجوع السياسي.
حنين: عودة إلى
رحم الموت طلبًا للدفء المفقود.
غضب الموتى:
احتجاج ساخر يعرّي فساد المجتمع.
القيمة
الذرائعية الكبرى لهذه النصوص أنها تمسك بقدرة القصة القصيرة والمكثفة الموجزة على أن تكون
شهادةً رمزية وفلسفية واجتماعية، مع اعتماد المستوى الدلالي الإيحائي كجوهر يمنح
النصوص معناها العميق.
#دعبيرخالديحيي الإسكندرية - مصر 11 سبتمبر 2025
تعليقات
إرسال تعليق