بين الهواجس الفردية وصوت الجماعة: دراسة ذرائعية في رواية /عندما تقرع الطبول/ للروائية المغربية آمنة برواضي بقلم الناقدة الدكتورة عبير خالد يحيي

 


     تنتمي رواية عندما تقرع الطبول (دار ديوان العرب، 2019) إلى الرواية الواقعية الاجتماعية ذات الأفق السياسي والإنساني والإسقاطات الرمزية. فهي رواية تحاكي قضايا معاصرة كالخوف من الحروب، الهجرة، الغربة، ضياع الهوية، واستغلال معاناة الأبرياء في زمن النزاعات. اشتغلت الكاتبة على بنية ملحمية سردية يتقاطع فيها المحلي مع الكوني، لتكشف هشاشة الإنسان أمام قدره، وتضع القارئ أمام مرايا متعددة للوجود.

 

·      البؤرة الفكرية

تتمحور البؤرة الفكرية في رواية عندما تقرع الطبول حول هاجس الحرب وما تولّده من خوف واغتراب وفقدان للمعنى.

منذ الصفحات الأولى، يتوقف نزار عن فتح متجره لأنه يعيش تحت وطأة الخوف من حرب قادمة (ص 4).

الحرب هنا ليست مجرد حدث سياسي عابر، بل قدر شامل يُعيد تشكيل وعي الإنسان ويحوّله إلى كائن قَلِق لا يثق في غده.

الطبول في العنوان تتكثف كرمز لهذه البؤرة: صوت الإنذار الدائم الذي لا يتيح للشخصيات ولا للقارئ أن ينعم بالطمأنينة.

إذن، البؤرة الفكرية = الخوف من الحرب بوصفه قدرًا وجوديًا يعصف بالإنسان ويحوّل حياته إلى دائرة مغلقة من الهواجس. 

إضافة إلى بؤر: الغربة والاغتراب، الفقر، وانعدام العدالة الاجتماعية في العالم الثالث خصوصًا.

·      الخلفية الأخلاقية

تقوم الخلفية الأخلاقية للرواية على التضحية والإيثار والروح الجماعية في مقابل أنانية النجاة الفردية.

نزار، رغم هواجسه، يظل متمسكًا بفكرة الانتماء وضرورة مواجهة المصير مع الجماعة، حتى لو كان الثمن باهظًا.

حضور الأطفال (سالم وعصام) يُعيد التذكير بالمسؤولية الأخلاقية تجاه الأجيال القادمة، وبأن فقدانهم يعني خيانة المستقبل.

شخصية مامادو تضيف بعدًا أخلاقيًا عالميًا، فالعنصرية التي يتعرض لها تضع القارئ أمام سؤال الضمير الإنساني: هل من حق أي مجتمع أن يحكم على إنسان بلونه أو لغته؟

إذن، الخلفية الأخلاقية = دعوة إلى التضامن الإنساني، ورفض الأنانية، والإيمان بكرامة الإنسان أيًا كان لونه أو موطنه.

 

-       الترابط بين البؤرة الفكرية والخلفية الأخلاقية:

في رواية عندما تقرع الطبول، يتداخل الهمّ الفكري مع الأخلاقي في نسيج واحد. فـ الخوف من الحرب وتداعياتها (البؤرة الفكرية) لا يُطرح في النص كهاجس فردي فقط، بل يُصبح محكًّا يكشف القيم الأخلاقية للشخصيات. هنا تتولد أسئلة: هل نهرب لننجو فرادى، أم نواجه المصير مع الجماعة؟

نزار، الذي يعيش تحت وطأة الهواجس، يتحول بفعل التساؤلات القيمية التي تولّدها تلك الهواجس إلى مرجعية أخلاقية:

" كان التفكير في الهجرة يشغل باله لكنه لم يشأ أن يترك أهله وعشيرته، ... وإذا هرب كل واحد وبحث عن خلاصه؛ أين هي روح الجماعة التي تربى عليها؟ أين هي التضحية من أجل الآخر ؟ أين هو الإيثار؟" ص6

وهكذا، فإن الخوف من الحرب لم يكن سوى الشرارة التي أظهرت معدن الإنسان، بين أنانية تُفكك الجماعة وقيم إيثار تعيد بناءها.

بهذا، تصبح الحرب في الرواية اختبارًا أخلاقيًا بقدر ما هي اختبار وجودي، ويتحوّل قرع الطبول من مجرّد نذير موت إلى امتحان للضمير الإنساني.

 

-       انعكاس البؤرة الفكرية والخلفية الأخلاقية في السرد واللغة

جاء السرد في الرواية محمّلًا بإيقاع يتناسب مع البؤرة الفكرية المتمثلة في الخوف من الحرب وتداعياتها، حيث تتكرر المفردات ذات الصلة (الخوف، الطبول، الدمار، الغربة)، فيحاكي النص تردّد الهواجس في ذهن نزار. هذا التكرار، وإن كان يبطئ من حركة السرد أحيانًا، إلا أنه يعكس بصدق الدائرة المغلقة للهاجس النفسي الذي لا يهدأ.

أما الخلفية الأخلاقية فقد انعكست بوضوح في لغة الحوارات:

الحوار بين عصام ومامادو:" وأنت يا أخي أجل أخي، لا فرق لدي في اللون، وقد جاء القرآن ليمحو كل الفوارق ويجمع بين الإنسانية، ولم يجعل للّون أية قيمة..." ص 12

لغة الشخصيات الأخرى، كأم سالم أو صالح، بدت أكثر براغماتية وواقعية، تكشف عن توترات القيم حين تصطدم بضرورات الحياة.

إلى جانب ذلك، استخدمت الكاتبة اللغة الشاعرية كأداة جمالية تُخفف من قسوة الحدث لكنها في الوقت ذاته تعمّق دلالاته الرمزية: "نار الحرب تأكل في الهشيم" (ص 8).

هذا المزج بين المباشرة في الحوار والانزياح البلاغي في السرد هو ما جعل الرواية تحمل بصمة وجدانية خاصة، حيث يتضافر الفكر مع الأخلاق في خدمة المعنى.

 

·      المستوى اللغوي والجمالي والأسلوبي

1- المستوى اللغوي

لغة الرواية فصيحة سلسة، بعيدة عن التعقيد، لكنها مشحونة بالمفردات الانفعالية.

الكاتبة تُكثر من استخدام أفعال الحواس والانفعالات: خاف، ارتجف، ذعر، بكى، صرخ… مما يرسّخ الطابع النفسي للنص.

المفردات المرتبطة بالحرب تتكرر: الدمار، النار، الخراب، القصف، الطبول، فتؤسس لمعجم دلالي ينسجم مع البؤرة الفكرية.

شاهد: "... ما أن كل توقعاته كانت تقع تباعًا، مما زاد هاجس الخوف لديه من الآتي" (ص 4).

 

2- المستوى الجمالي

الجمالية في النص نابعة من التشبيهات والاستعارات التي تخفّف من قسوة الواقع وتضفي على السرد بعدًا بلاغيًّا:

"نار الحرب تأكل في الهشيم" (ص 8)، صورة بصرية كثيفة تربط الخراب بمجاز طبيعي متسع.

"كم قطعت السكاكين كبرياءنا إلى أن أصبح بدوره مُلقى إلى جوارنا يحتضر على أرصفة الشوارع"(ص 17)، استعارة تمنح القارئ صورة محسوسة للمعاناة.

التكرار الإيقاعي لمفردات مثل الخوف/الغربة/الطبول يمنح النص إيقاعًا خاصًا، يشبه "قرع الطبول" في وعي القارئ.

 

3- المستوى الأسلوبي

السرد: يعتمد على ضمير الغائب، ما يمنحه طابعًا موضوعيًا، لكنه ينزلق أحيانًا إلى المونولوج الداخلي فيكشف دواخل الشخصيات.

الحوار: يلعب دورًا أساسيًا في إبراز الخلفية الأخلاقية، ويأتي محمّلًا بالجدل بين التضحية والأنانية، بين روح الجماعة والنجاة الفردية.

الإيقاع: متأثر بالتكرار الذي يجعل النص أبطأ في بعض مقاطعه، لكنه يضاعف الأثر النفسي والوجداني.

التقطيع المشهدي: الانتقال بين مشاهد الحرب والدمار والغربة والطفولة المفقودة أقرب إلى تقنية المونتاج السينمائي، مما يضفي على السرد حركية بصرية.

 

الخلاصة الأسلوبية:

آمنة برواضي صاغت روايتها بلغة مشحونة بالعاطفة، ورفدت السرد بتشبيهات واستعارات تضاعف البعد الرمزي. الجمع بين المباشرة في الحوار والانزياح الجمالي في السرد منح النص خصوصيته، بينما التكرار المتعمد صنع إيقاعًا دائريًا يتناغم مع رمزية العنوان (الطبول).

 

·      المستوى البصري

الرواية ثرية بالصور البصرية التي تحوّل السرد إلى مشاهد شبه سينمائية، فتتيح للقارئ أن يرى الأحداث لا أن يقرأها فقط.

1- صور الحرب

مشاهد القصف والدمار رسمتها الكاتبة بلغة بصرية قوية:

"عصام لا يزال غارقًا في بحر الغربة تقذفه أمواجها عاليًا وتتلاعب به بين مدّ وجزر" (ص17).

الصورة هنا ليست وصفية فقط، بل تحيل إلى مشهد متحرك: الغربة بحر متلاطم الأمواج، وعصام فيه غريقًا.

 

2- صورة الأطفال

سالم وهو يبيع المناديل في الشارع:

" ... كلما امتنع صاحب سيارة عن بضاعته تغيّرت ملامح وجهه وبدت منكسرة..."(ص 15–16).

هذه الصورة البصرية تختصر مأساة الطفولة الضائعة، وتجعل القارئ يراها حيّة أمام عينيه.

 

3- صورة الغربة

الغربة رُسمت كـ"بحر تقذفه أمواجها عاليًا....،الغربة اكتسحته واحتلت مساحة من قلبه" (ص 17).

هنا تتحول المعاناة المجردة إلى صورة محسوسة: بحر غاضب يغرِق، واحتلال يكتسح، مشهد يرسخ في المخيلة.

 

4- صورة مامادو النيجيري

وصف لون بشرته وطريقة معاملته البصرية في الشارع يُحيل إلى التمييز العرقي الملموس (ص 11–12).

" غادرتَ بدورك أراضيك عبر الصحارى تبحث عن وطن، عن مأوى، والوطن الذي تمتد جذورك عميقًا في تربته تركته يعرف الخراب بعدما تنكّر لك."

الإيحاء هنا بصري بامتياز: اللون يصبح علامة مرئية للفصل والتمييز.

 

5- صورة الطبول

العنوان نفسه يفتح أفقًا بصريًا: القارئ يتخيّل صفوف الجنود، الطبول تُقرع بقوة، الغبار يتصاعد.

هذا البعد البصري في الرمز يجعل العنوان مشهدًا قائمًا بذاته قبل أن تبدأ القراءة.

 

الخلاصة البصرية

اشتغلت الكاتبة على تحويل النص إلى لوحات بصرية:

الحرب = نار تلتهم.

الطفولة = صورة طفل عند الإشارة.

الغربة =بحر هائج.

العنصرية = لون مرئي للتمييز.

بهذا يصبح المستوى البصري أحد أقوى عناصر الرواية، لأنه يضاعف من إيحاءاتها ويجعل النص أقرب إلى سينما مكتوبة.

 

·      المستوى الديناميكي

1- بناء الشخصيات

اعتمدت الكاتبة على شخصيات متباينة تُجسّد أوجه الحرب والفقر والغربة، لتشكّل لوحة إنسانية متكاملة:

نزار: الشخصية المرجعية/الأخلاقية، ضمير الرواية وصوت الإنذار المبكر. هواجسه هي الطبول التي تُقرع في النص، وتتحقق لاحقًا مع اندلاع الحرب (ص 4–5).

عصام: ابن نزار، يمثل ضياع الهوية في الغربة والحرمان خارج الوطن، امتداد لمعاناة هذا الجيل من الأطفال والشباب السوري من الحرب الأخيرة.

الزوجة( أم عصام): الصوت الواقعي التي تواءمت مع واقع الغربة واحتضنت الحياة بأطفالها.

سالم: شاب مغربي سرقه الفقر من طفولته ودراسته، يعمل بائعًا للمناديل بدل الجلوس على مقاعد المدرسة (ص 15–16). رمز للطفولة المقهورة داخل الوطن.

أم سالم: الأم المتحكّمة والبخيلة التي يدفعها خوفها من المستقبل إلى حرمان أبنائها في الحاضر. شخصية تعكس ذهنية الفقر كقلق وجودي أكثر من كونه عجزًا ماديًا.

مامادو النيجيري: شخصية مهاجر إفريقي ترمز إلى البعد الكوني للتمييز العنصري. وجوده يحوّل الرواية إلى "قصيدة ضد التمييز العرقي" (ص 11–12).

صالح: الوجه الآخر للغربة، مهاجر إلى فرنسا عاد ثريًا إلى المغرب. دوره محوري لأنه يكمل الحبكة بوصفه "الجسر القدري" الذي يربط الغائب (نزار) بالحاضر (ابنه عصام).

 

2- الحدث السردي

البداية: هواجس نزار حول الحرب القادمة، وتوتره الدائم.

التصاعد: اندلاع الحرب فعلًا، قصف ودمار وضياع للأسر (ص 9–11).

التفرّع: تتشعب الأحداث إلى وجوه متعدّدة: الطفولة المفقودة (سالم)، الغربة المذلّة (عصام)، التمييز العرقي (مامادو).

التحوّل: دخول شخصية صالح يغيّر مسار الحكاية، ويربط بين الشخصيات بخيط قدر لا مفرّ منه.

 

3- الحبكة

الحبكة تقوم على تصعيد تدريجي: من هواجس الخوف ← اندلاع الحرب ← معاناة الغربة والفقر ← النهاية القدرية.

بنية دائرية/قدرية: تبدأ بالإنذار (نزار)، وتنتهي بربط الماضي بالحاضر عبر صالح، وكأن كل مصير مكتوب سلفًا.

 

4- التقنيات السردية

-        الاستباق (التنبؤ): نزار ينذر بالحرب قبل وقوعها (ص 4).

-        المونولوج الداخلي: يكشف الصراع النفسي.

-        الحوار الخارجي (ديالوج): يتجلّى بكثرة بين الشخصيات.

-        الوصف التصويري: "نار الحرب تأكل في الهشيم"

-        التقطيع المشهدي/المونتاج: الانتقال السريع بين الحرب والطفولة المفقودة (ص 15–16).

-        التناص الديني: "ارحموا عزيز قوم ذل" (ص 17).

-        الصدفة القدرية: شخصية صالح التي تغلق دائرة الرواية بربط الماضي بالحاضر (ص 19–20).

التكرار العاطفي في الرواية

1- حضور التكرار

الرواية تعيد كثيرًا الصور الوجدانية: الخوف من الحرب، إحساس الغربة، معاناة الأطفال، ألم الفقد… يظهر ذلك عبر تكرار نفس المفردات والرموز (الخوف – الحرب – الغربة – البكاء – الطبول).

 

2- هل التكرار مقصود؟

نعم، يبدو أنه مقصود أسلوبيًا.

الكاتبة استخدمت التكرار كأداة لإبراز حالة الهاجس النفسي المستمر. فالهواجس لا تُفكَّر فيها مرة واحدة ثم تنتهي، بل تتكرر في الذهن كما لو كانت "نقرات الطبول" التي لا تهدأ.

بهذا يصبح التكرار محاكاة للإيقاع النفسي للشخصيات، خاصة نزار، الذي يعيش في دائرة الخوف والتوجّس، وكذلك عصام الذي يقع في بحر الغربة.

 

3- الوظيفة السردية للتكرار

يمنح النص إيقاعًا دائريًا ينسجم مع رمزية الطبول (التكرار = القرع المتواصل).

يعمّق البعد التراجيدي، لأن العاطفة حين تُكرّر تتحوّل إلى نوع من "اللاجدوى" التي تصبغ الرواية كلها.

لكنه في الوقت نفسه يؤدي إلى إبطاء السرد، لأن القارئ يشعر أحيانًا أن الفكرة قيلت من قبل.

 

4- الإيجابيات والسلبيات

الإيجابيات: يضاعف الأثر النفسي والوجداني، ويُشعر القارئ أن النص يعيش "هاجسًا" لا يفارقه.

السلبيات: يبطئ إيقاع السرد، وقد يرهق القارئ الباحث عن حركة أحداث أسرع أو حبكة أكثر شدًّا.

الخلاصة: التكرار العاطفي في الرواية ليس اعتباطيًا، بل مقصود كآلية سردية لمحاكاة الهواجس والقلق الوجودي الذي لا يتوقف. ومع ذلك، يظل التحدّي قائمًا في كيفية الموازنة بين التأثير النفسي والإيقاع السردي. فالرواية نجحت في جعل القارئ يعيش القلق مع الشخصيات، لكنها في المقابل أبطأت من تدفّق الحدث بسبب هذا التكرار الوجداني المكثّف.

 

6- النهاية

النهاية مفتوحة/قدرية، لا تتيح حلًا واضحًا، بل تترك القارئ في مواجهة مصير معلّق. الطبول لا تزال تُقرع، والغربة والفقر والحرب مستمرة. إنها نهاية تراجيدية تعكس عبثية الواقع، لكنها أيضًا دعوة للتأمل في المصير الإنساني المشترك.

النهاية المفتوحة ودلالتها القدرية

تُختتم رواية عندما تقرع الطبول بنهاية مفتوحة، لا تتيح حلاً تقليديًا ولا تُنهي معاناة الشخصيات، بل تتركها معلّقة بين الفقر والغربة والحرب. غياب الخاتمة القطعية يعكس أن المأساة ليست فردية ولا لحظة عابرة، وإنما هي قدر إنساني ممتد.

هذه النهاية تكتسب طابعًا قدريًا، إذ تغلق الرواية على إيقاع يشبه إيقاع الطبول: متكرر، لا يعرف التوقّف. فكما تُقرع الطبول باستمرار، يبقى مصير الشخصيات مفتوحًا على تكرار الألم ذاته. وهنا تتجلّى براعة الكاتبة في جعل النهاية مرآة لواقع القارئ نفسه: واقع غير محسوم، محكوم باللايقين.

 

الخلاصة الديناميكية:

اعتمدت الرواية في مستواها الديناميكي على شخصيات رمزية متكاملة، وحبكة دائرية قدرية، وحوارات كاشفة، وتقنيات متعددة تمزج بين الواقعي والرمزي. بهذا البناء، تحوّل النص إلى مرآة للقلق الإنساني أمام الحرب والفقر، وإلى شهادة أدبية تنبض بإيقاع الطبول التي لا تكف عن القرع.

 

·      المستوى الجمالي الرمزي

اعتمدت آمنة برواضي على شبكة رمزية كثيفة تمنح الرواية عمقها الجمالي، بحيث تتحول الشخصيات والأحداث إلى علامات مفتوحة على معانٍ أبعد من ظاهرها.

1- الطبول

الرمز المركزي للرواية. ترمز إلى الحرب كقدر محتوم، وإلى الخوف المتكرر الذي يلاحق الشخصيات.

جماليتها تكمن في تكرارها الإيقاعي، الذي يحاكي القرع في وعي القارئ.

الطبول كهوس نفسي: لا تُقرأ (الطبول) في هذه الرواية كرمز حربي فقط، بل بوصفها هوسًا نفسيًا متكررًا يطارد الشخصيات. فكما يتردّد القرع بإيقاع دائري لا يتوقف، كذلك تتكرّر الهواجس في ذهن نزار، وتنتقل عدواها إلى بقية الشخصيات. الطبول هنا تمثل القلق الجمعي الذي يسبق الكارثة، وتجعل من الخوف كابوسًا يوميًا لا ينجو منه أحد.هي ليست نذيرًا خارجيًا فحسب، بل صوتًا داخليًا يضرب في الوجدان، ليحوّل الحرب من حدث سياسي إلى تجربة نفسية شاملة.

 

2- الغربة

تحضر كرمز يتجاوز التنقل المكاني إلى اقتلاع الهوية.

وُصفت كـ"بحر أمواجه عالية" (ص 17)، ما يمنحها بعدًا إيحائيًا بصريًا ونفسيًا معًا.

الغربة هنا ليست مكانًا فقط، بل منفى داخلي يعيشه الإنسان حتى في وطنه.

 

3- الطفولة (سالم وعصام)

الطفل سالم رمز للطفولة المقهورة داخل الوطن بسبب الفقر.

عصام رمز للطفولة الضائعة خارج الوطن بسبب الحرب والغربة.

الطفولة في النص ليست شخصيات ثانوية، بل أيقونات لمستقبل مهدّد، جماليتها في اختصار المأساة بصورة إنسانية شفافة.

 

4- أم سالم

ليست مجرد أم بائسة قاسية، بل رمز لـ"الخوف من الغد" الذي يدفع إلى حرمان الحاضر.

إيحائيًا، يمكن قراءتها كرمز للوطن/الأم الذي يكدّس المخاوف ويصادر لحظة العيش.

جماليتها في كونها شخصية مألوفة جدًا للقارئ العربي، مما يجعل رمزيتها متجذرة في الذاكرة الجمعية.

 

5- مامادو النيجيري

حضوره يوسّع شبكة الرموز من المحلي إلى الكوني.

يمثل التمييز العرقي بوصفه جرحًا عالميًا يتجاوز حدود المغرب.

جمال الرمز هنا أنه يفتح الرواية على قضايا إنسانية تتشاركها الشعوب، فيحوّل النص من رواية محلية إلى صرخة كونية ضد العنصرية.

 

6- صالح

رمزه مزدوج: وجه الغربة المشرق (الثروة والعودة) + جسر القدر الذي يربط نزار الغائب بعصام الحاضر.

جماليًا، يمثّل الصدفة القدرية التي تُغلق النص في دائرة رمزية متكاملة.

 

7- رمزية العنوان ودوره في بنية الرواية

العنوان "عندما تقرع الطبول" ليس مجرد مدخل شكلي، بل هو بؤرة رمزية تحتضن المعنى العميق للنص. الطبول في الذاكرة الثقافية مرتبطة بالاحتفالات أو بالاستنفار للحرب. لكن الكاتبة آمنة برواضي تحوّل هذا الرمز إلى إشارة نذير: فالطبول هنا لا تُقرع فرحًا، بل تُقرع إعلانًا عن كارثة قادمة.

على مستوى الحبكة: تبدأ الرواية بهواجس نزار وخوفه من الحرب، ثم تتدرّج الأحداث حتى اندلاعها، وكأن قرع الطبول في العنوان كان مقدمة موسيقية تنذر بالتصعيد. فالعنوان يتطابق مع البنية الدرامية التي تتصاعد تدريجيًا حتى الانفجار.

على مستوى الشخصيات: الطبول ليست صوتًا خارجيًا فقط، بل هي صوت داخلي يسمعه نزار وغيره، يمثّل قلقهم النفسي وهاجسهم الدائم. كلما اقتربت الحرب، بدا كأن الطبول تُقرع في رؤوسهم، إيحاءً بالضغط النفسي.

على المستوى الإيحائي: الطبول رمزٌ للقدر الجمعي الذي لا يمكن الفرار منه؛ فهي تُقرع للجميع دون استثناء، وتدعو الجميع إلى ساحة المصير المشترك، سواء كان هجرة، حربًا، أو موتًا.

على المستوى الجمالي: اختيار صيغة الشرط (عندما) في العنوان يوحي بانتظارٍ مقلق، ويجعل العنوان مفتوحًا على احتمالات كثيرة. إنه فعل لم يحدث بعد (قرع الطبول)، لكنه يُرخي بظلاله على النص من الصفحة الأولى حتى الأخيرة.

إذن، العنوان ليس زينة خارجية، بل هو هيكل دلالي يمسك بخيوط الرواية كلها: من بداياتها كهاجس، مرورًا بتصعيد الأحداث، وصولًا إلى نهايتها المفتوحة على غربة ودمار.

 

الخلاصة الرمزية:

الرواية قامت على رمزية متوازنة:

الطبول = قدر الحرب.

الغربة = فقدان الهوية.

الطفولة = المستقبل المسلوب.

أم سالم = ذهنية الخوف.

مامادو = التمييز الكوني.

صالح = القدر الرابط بين الغياب والحضور.

بهذا، يتجاوز النص واقعيته المباشرة ليصبح لوحة رمزية عن المصير الإنساني، حيث القرع المستمر للطبول يذكّر بأن الحرب ليست حدثًا محليًا بل قدرًا يتكرّر في كل مكان.

 

·      المستوى النفسي

1-    المدخل السلوكي

السلوك في الرواية ليس مجرد فعل خارجي، بل انعكاس مباشر للبنية النفسية:

نزار: يتوقف عن فتح متجره، سلوك بسيط في الظاهر لكنه يكشف شللًا داخليًا سببه الخوف من حرب وشيكة.

أم سالم: تبالغ في الادخار والبخل، وكأنها تسجن الحاضر لتأمين مستقبل لم يأتِ بعد. هذا السلوك يكشف عن خوف مرضي من المجهول.

سالم: وقوفه عند الإشارة لبيع المناديل بدلًا من الدراسة فعل سلوكي يختصر أثر الفقر على الطفولة.

صالح: يعود من فرنسا ثريًا، سلوك يحكمه الحنين، فيكشف أن المشاعر أقوى من المال وحده.

الرواية مثقلة بالأسئلة الوجودية التي تفتح أمام القارئ أفقًا للتفكير:

"وهل من الشجاعة ترك الوطن والفرار من أجل العيش في بلد آخر؟" (ص 5).

"أين هي روح الجماعة التي تربى عليها؟ أين هي التضحية من أجل الآخر؟" (ص 6).

أسئلة ضمنية يثيرها وجود مامادو: هل يكفي أن يختلف لون البشرة أو اللغة ليُدان الإنسان؟

هذه التساؤلات لا تجد أجوبة جاهزة، بل تُترك مفتوحة، فيزيد أثرها النفسي.

 

2- المدخل التقمّصي (Empathy)

الرواية تخلق جسور تعاطف قوية بين القارئ والشخصيات:

القارئ يتقمّص خوف نزار في لحظات هواجسه، كأن الحرب تقرع طبولها داخله.

يتماهى مع سالم الطفل البريء الذي سُلب طفولته، فيشعر بالذنب الجمعي اتجاه الطفولة المقهورة.

يجد في عصام ابن نزار مرآة لآلام الغربة التي قد يختبرها أي إنسان في المنفى.

حتى مامادو يفتح باب التقمّص مع المختلف، إذ يُرغم القارئ على الشعور بوقع العنصرية من الداخل.

 

3- المدخل التوليدي: التناص والتوازي

التناص يضاعف الأثر النفسي لأنه يربط النص بذاكرة القارئ الروحية والثقافية:

التناص الديني: قول نزار أو أحد الشخصيات "ارحموا عزيز قوم ذل" (ص 17)، يستحضر حديثًا نبويًا يحرّك ضمير القارئ ويضاعف وقع المأساة.

التناص الثقافي/العالمي: شخصية مامادو النيجيري تحيل إلى التراث الأدبي والإنساني حول التمييز العنصري (من نيلسون مانديلا إلى الأدب الإفريقي)، فتوسّع إطار التلقّي من المحلي المغربي إلى الفضاء الكوني.

 

الخلاصة النفسية

آمنة برواضي جعلت من روايتها مختبرًا نفسيًا متعدد المداخل:

-        السلوكيات اليومية تكشف عمق الخوف أو البخل أو الحنين.

-        الإيحاءات الرمزية تحوّل الواقع إلى كابوس جماعي.

-        التقمص يفتح النص على مشاركة وجدانية مع القارئ.

-        التناص يربط النص بذاكرة دينية وثقافية أكبر، فيضاعف من عمقه النفسي.

الرواية في مستواها النفسي رسمت لوحة عميقة للإنسان الممزّق بين الخوف والرجاء، بين الفقر والحلم، بين الوطن والغربة. نجحت آمنة برواضي في جعل القارئ يتقمّص الشخصيات، يشاركها تساؤلاتها، ويتأمّل في تناصّاتها، ويرى في سلوكياتها مرآةً لجرح إنساني عام.

بهذا يصبح المستوى النفسي هو القلب النابض للرواية، لأنه يحوّل التجربة الفردية إلى مرآة لمصير إنساني مشترك.

 

·      التجربة الإبداعية للكاتبة في هذه الرواية:

1- المزج بين الواقعي والرمزي

آمنة برواضي تنطلق من وقائع قريبة من الواقع العربي (الحروب، الفقر، الغربة)، لكنها لا تكتفي بالتوثيق، بل تلبس الأحداث لبوس الرموز. فالطبول ليست صوتًا حقيقيًا، بل رمز لنذير الحرب، والغربة ليست مكانًا فحسب بل وحشًا يلتهم الهوية. هذا المزج يرفع النص من مستوى التسجيل الواقعي إلى مستوى الرمز الكوني.

2- البعد الكوني

مع أن الرواية مغربية النشأة في تفاصيلها (سالم الطفل المغربي، أم سالم، صالح العائد من فرنسا)، فإنها تنفتح على معاناة إنسانية كونية من خلال شخصيات مثل مامادو النيجيري. بذلك، تكسر الكاتبة حدود المحلية، وتجعل القارئ يرى في النص مرآة لتجارب إنسانية مشتركة، سواء كان عربيًا أو إفريقيًا أو غيرهما.

3- التعبير الشاعري الوجداني داخل السرد

اللغة السردية في الرواية تتخللها تعابير شاعرية وجدانية تفتح النص على البعد التأملي. عبارات مثل: "نار الحرب تأكل في الهشيم" (ص 8)، أو تصوير الغربة كـ"بحر" (ص 17) تمنح السرد قُدرة على ترميز الألم، وتحوّل القسوة الواقعية إلى جمالية إيحائية. هنا يتقاطع السرد مع الشعر في بناء صور متوهّجة.

4- تقاطع الخاص والعام

الرواية تعكس حياة شخصيات محدودة (أسرة نزار، سالم، صالح، مامادو)، لكنها لا تحصر نفسها في هموم الأفراد فقط، بل تجعل من معاناتهم مرآة لجراح أوسع: الفقر كظاهرة اجتماعية، الحرب كقدر جماعي، الغربة كأزمة إنسانية. هذا التقاطع بين الخاص والعام هو ما يجعل النص ذا طابع ملحمي.

5- التناص الثقافي والديني

إدخال نصوص دينية مثل الحديث النبوي الشريف: "ارحموا عزيز قوم ذل" (ص 17)، يضفي على النص بعدًا أخلاقيًا وروحيًا. كما أن حضور شخصية مامادو يُعدّ تناصًا ضمنيًا مع قضايا التمييز العنصري في الأدب العالمي. بذلك، تستفيد الكاتبة من الذاكرة الروحية والثقافية المشتركة لتعميق الأثر النفسي للنص.

6- الانحياز للإنسانية

رغم سوداوية الأحداث، تبقى الرواية منحازة إلى قيم الرحمة والتضامن. نزار يظلّ صوتًا للضمير، وسالم يظلّ رمزًا للبراءة، وصالح يقدّم درسًا في الحنين إلى الجذور. هكذا تؤكّد الكاتبة أن الإنسانية قادرة على النجاة رغم قسوة الواقع. هذا الانحياز الأخلاقي يعطي النصّ بعدًا يتجاوز التوثيق إلى كونه دعوة لإحياء الضمير.

7- التجريب الفني

تُظهر الرواية ميلًا إلى استخدام تقنيات سردية متنوّعة: الاستباق، الحوار الداخلي، التقطيع المشهدي، الصدفة القدرية. هذا التنوّع يعكس تجربة إبداعية ناضجة، حيث لا تتقيّد الكاتبة بالخط السردي الكلاسيكي، بل تنفتح على التجريب الذي يمنح النص ديناميته الخاصة.

بالنتيجة، آمنة برواضي قدّمت في عندما تقرع الطبول تجربة سردية ناضجة تمزج بين المحلي والكوني، الواقعي والرمزي، السردي والشعري. الرواية ليست مجرد حكاية عن أسرة مغربية في زمن الحرب، بل هي نص إنساني مفتوح على سؤال المصير.

إنها تجربة إبداعية تُثبت قدرة الأدب على تحويل الألم إلى رمز، والمعاناة الفردية إلى مرآة كونية، لتصبح الرواية صرخة إنسانية بلغة الفن.

 

بالختام:

رواية عندما تقرع الطبول لآمنة برواضي عمل سردي واقعي ورمزي، يزاوج بين البعد المحلي والبعد الإنساني الكوني. كشفت عبر شخصياتها عن الحرب والفقر والغربة كأقدار قدرية، واستخدمت لغة منزاحة للجمال والرمز، وتقنيات سردية متنوّعة لتؤكّد أن الطبول لا تزال تُقرع في وعينا الجمعي، وأن المصير الإنساني مشترك في قلقه ومعاناته.

وتأتي هذه الرواية لتثري المشهد السردي العربي المعاصر بقدرتها على تحويل التجربة المحلية المغربية إلى شهادة إنسانية شاملة، تجمع بين صدق التوثيق ورمزية الرمز، لتضع نفسها ضمن النصوص التي تطرح بجرأة أسئلة الهوية والمصير والإنسانية.

#دعبيرخالديحيي                           الاسكندرية – مصر                   

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سرد الاغتراب والبحث عن المعنى قراءة ذرائعية في رواية ( منروفيا ) للكاتب المصري أحمد فريد مرسي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

إشهار كتاب النزعة الصوفية والنزعة التأملية في شعر الأديب السوري منذر يحيى عيسى

أدب الرحلات المعاصرة: سفر في الجغرافيا والذات دراسة ذرائعية مستقطعة على كتاب (نيويورك في عيون زائرة عربية) للكاتبة اللبنانية هناء غمراوي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي