قراءة ذرائعية في شعرية الاغتراب والذاكرة المنفية في قصيدة "مرآة الخراب" للشاعر البحريني عبد الله زهير بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي
حين تنكسر المرايا،
لا تعكس وجوهنا فحسب، بل تُرجع إلينا شظايا العالم بأسره. هكذا تبدو قصيدة
"مرايا الخراب" لعبدالله زهير: مرآة دامية تتشظى فيها الأرض والتاريخ
والذاكرة، وتغدو الصور الشعرية بمثابة شظايا زجاجٍ تجرح القارئ بلمعانها القاسي.
في هذا النص، لا يكتب الشاعر عن الخراب بوصفه حدثًا عابرًا أو ظرفًا تاريخيًا، بل
يطرحه كقدر وجودي يطبع الذات العربية بالاغتراب، ويحيل الحنين إلى وهم متداعٍ.
هي قصيدة تلتقط من موت المدن ودم الأطفال وحيرة
القمر رموزًا تنسج بها خرائط معلّقة، حيث الوطن غائب، والذاكرة منفية، والذات
وحيدة لا تجد سوى اللغة مأوى. ومن هنا تأتي قيمة النص: أنه لا يصف المأساة، بل
يحوّلها إلى خطاب شعري مفتوح على الرمز والتأويل، فيغدو الخراب نصًا قائمًا بذاته،
وجمالية مضادة للحياة، لكنها صادقة في صدًى جرحها الجمعي.
البؤرة الفكرية
تتمحور البؤرة حول ثنائية الخراب/الخصب؛ فالخراب
يحاصر كل شيء، لكنه يتجاور مع إشارات للحياة مثل الدم الذي يغني، والليمون،
والنخل.
هكذا يعرض النص جدلية وجودية: الخراب لا يلغي
الحياة، لكنه يحاصرها في هامش ضيق.
«دم يغني خلسة / ودم يقول: أنا نشيد اللهِ».
الخلفية الأخلاقية
ينحاز النص الشعري للضحايا الصغار، وللمدائن
المحترقة، من دون خطاب مباشر أو وعظي، بل عبر صور دامية تهزّ وجدان القارئ.
«وجوه أطفال تنام على الرصيف / تنام تحت الشمس عارية / وترفعها أكف
الله نحو الصمتِ».
المستوى البصري (التشكيلي)
القصيدة مشبعة بصور بصرية تتوزع على فضاءات
الخراب: آخر الأرض، أولها، وداخلها. الشاعر يبني مشهدًا بصريًا متحركًا، لا يقتصر
على الوصف، بل يخلق لوحات سوريالية متعاقبة.
في أول الأرض:
«في أول الأرض الخراب / خرائب مثل القلاعِ /
وشاح سيدة تنوح» → هنا يجمع بين الكتلة المعمارية (الخرائب/القلاع) والكتلة
الإنسانية (وشاح السيدة)، لتتشكل لوحة تشي بالزمن الأسطوري.
في الداخل:
«في داخل الأرض الخراب/ حجارة في عمق مرآة
الخراب/ وجوه أطفال تنام على الرصيف / تنام تحت الشمس عارية» ← صورة فوتوغرافية
فاجعة، حيث الضوء (الشمس) لا يمنح الدفء بل يزيد من عُري الفقد. ».
في الخارج:
«خريطة مشنوقة» ← صورة تشكيلية بصرية حادة،
تجعل من الخراب لوحة معلّقة بدم النهارات.
البنية البصرية إذن ليست تزيينية، بل أداة
لترسيخ الخراب بوصفه حقيقة مُشاهدة.
هذه الصور البصرية تصنع مشاهد سوريالية، حيث
الخراب يتحول إلى مادة مرئية، يمكن رسمها أو تخيّلها كلوحة تشكيلية.
المستوى الديناميكي:
(الحركة/الإيقاع الداخلي)
النص يتحرك على ثلاثة محاور متصاعدة:
1. آخر الأرض← الخراب
كخاتمة.
2. أول الأرض ← الخراب كتأسيس تاريخي.
3. داخل الأرض ← الخراب كجذر باطني.
بعد هذا التقسيم، ينتقل الشاعر إلى المناجاة «يا هواء الليل
/ سافر بي إلى زمن الخرائب».
لتتحول الحركة من التوصيف الجمعي إلى الرحلة
الفردية، من المشهد
العام إلى مونولوج الذات.
الديناميكية هنا تذكّر ببنية المسرح الشعري، حيث
تتغيّر المشاهد والفضاءات، لكن يظلّ الخراب هو الثيمة المسيطرة.
التكرار «ليس لي وطن
أحن إليه» يمنح النص إيقاعًا دائريًا يعيد القارئ دومًا إلى نقطة الصفر، نقطة
الانكسار. وكأن كل حركة لا تقود إلى خلاص.
المستوى النفسي
النص مشحون بأبعاد نفسية وجودية:
-
التقمص: القارئ
يتماهى مع الذات الشاعرة التي تعلن غربتها الجذرية.
-
التساؤلات:
النص يحمل سؤالاً جوهريًا عن الهوية والوجود:
ماذا يبقى للشاعر حين يُمحى الوطن؟
الانكسار: يظهر في تكرار نفي الحنين، في جملة «لا، ليس لي
وطن أحن إليه»، التي تكررت مرتين لتأكيد الفراغ النفسي.
-
التناص النفسي:
القصيدة تحاور اللاوعي الجمعي العربي بعد
الحروب، وتحمل تناصًا داخليًا مع قصيدة «الأرض الخراب» ل تي إس إليوت، لكنه يُسقط
الخراب العالمي على الجرح العربي، ليصبح الخراب مرآةً داخلية أكثر من كونه مجرد
خراب خارجي.
النص إذن يُنتج حالة من الاغتراب الكلّي: اغتراب
عن الوطن، عن الجسد، عن الزمن، وحتى عن الحنين ذاته.
المستوى اللغوي–الجمالي
المعجم الشعري: يتراوح بين القسوة (دم، موت،
أشلاء، خراب) والخصوبة (ليمون، نخل، قمر، جنية). هذا التضاد الجمالي يخلق توترًا
داخليًا يزيد من أثر النص.
-
التوازي
التركيبي : «لي هناك مدائن… لي نخل… لي وجه… لي حدائق… لي
قمر… لي جنية…» هذا التوازي الجُملي يُنتج إيقاعًا تراكميًا يشبه الترتيل.
-
المفارقات تكثف
الجمال: الدم يغني، الخرائط تُشنق، القمر يغار من ظل. «دم يغني خلسة»
→ الموت يتحول إلى غناء.
-
التكثيف:
الاستعارات مركبة ومقتضبة، لا تُفرط في الشرح، بل تترك فجوة تأويلية للقارئ.
-
الاستعارات
تكثّف المعنى: «فمي هو الليمون أعصره / فيشربه الجنون
المستحيل».
اللغة إذن لغة انزياح ورمز، لا تخبر لكنها توحي،
ولا تسرد بل ترسم.
المستوى الإيحائي الرمزي
النص كثيف الرمزية، وكل عنصر فيه يحيل إلى أكثر
من معنى:
الأرض الخراب: استعارة عن الواقع العربي/الممزق.
النخل: رمز الأصالة والاستمرارية رغم الخراب.
الليمون: رمز المرارة والخصوبة في آن.
الهواء: الحرية والرحيل.
القمر: الغيرة والخصوبة الكونية.
الجنية العربية: استعارة عن الهوية/الذاكرة
الثقافية.
خريطة مشنوقة: دلالة على التاريخ المعلّق
والذاكرة الممزقة.
الرؤية الفكرية
القصيدة تقدم رؤية سوداوية للوطن والذاكرة: لا
مكان، لا زمن، لا حنين. الخراب هو الحاضر والمستقبل. لكن النص أيضًا يعلن موقفًا
وجوديًا صريحًا: الاغتراب هو الوطن البديل.
بعض الملاحظات النقدية
النص قوي في تكثيفه الرمزي، لكنه يصل أحيانًا
إلى حافة الإبهام.
التكرار منح القصيدة تماسكا، لكنه جعلها تدور في
دائرة الخراب بلا انفراج.
هيمنة المأساة طغت على كل ومضة أمل، مما يعكس
انسجام النص مع رؤيته الفكرية.
القيمة الجمالية
جماليات النص تتجلّى في:
-
الصور الكثيفة
المركبة.
-
التوازي
التركيبي.
-
المفارقة
الرمزية (دم يغني/أشلاء فأشلاء).
-
تحويل الخراب
إلى استعارة كونية مفتوحة على تأويلات متعددة.
-
التجربة الشعرية
الشاعر عبدالله زهير في هذا النص يعبّر عن تجربة
شعرية تنتمي إلى شعر الاغتراب والخراب. يستثمر اللغة الرمزية والصور السريالية
ليصنع شهادة شعرية على عصره، حيث الذات الفردية تصبح انعكاسًا لخراب الأمة.
الخاتمة
هكذا تنتهي
"مرايا الخراب" على وقع سؤال لا جواب له، حيث يذوب الوطن في المنفى،
ويغدو الخراب قدرًا وجوديًا لا مفرّ منه. لكنها، على الرغم من سوادها، تمنح القارئ
لحظة يقظة قاسية: أن يواجه صور الخراب كما هي، بلا تجميل ولا تزويق، وأن يدرك أن
الشعر ليس ملاذًا للهروب، بل مرآة تنعكس عليها الحقيقة في أبشع صورها.
لقد استطاع الشاعر عبدالله زهير أن يحوّل
المأساة إلى نصّ يتخطّى حدود التوثيق، ليصبح شهادة شعرية خالدة، تحاور وعينا
الجمعي، وتترك فينا أثر السؤال والجرح معًا.
#دعبيرخالديحيي الاسكندرية –
مصر 22 سبتمبر 2025
نص - عبدالله زهير
مرايا الخراب
في آخر الأرض
الخرابِ
دم يغني خلسة
ودم يقول: أنا
نشيد اللهِ
لا لغة تشابه
أعيني
وفمي هو الليمون
أعصره
فيشربه الجنون
المستحيل.
في أول الأرض
الخراب
خرائب مثل
القلاعِ
وشاح سيدة تنوح
تسيجت شكلا
خرافيا
يسافر صوب تاريخ
تمزق
وانحنت ظلا
طويلا لا يزول
في داخل الأرض
الخرابِ
حجارة في عمق
مرآة الخرابِ
وجوه أطفال تنام
على الرصيف
تنام تحت الشمس
عارية
وترفعها أكف
الله نحو الصمتِ
أشلاء فأشلاء
فيعرى من خطاه
الموت
ثم تبتديء
الفصول
شفتي المشققة
النوازع تجتني
وجع المساء كمثل
قمح
أو كأن الظل في
هذا المساء
خريطة مشنوقة
وكأن أعينه تشقق
ما تخبئه النهارات الفجيعة
يا هواء الليل
سافر بي إلى زمن
الخرائب
لي هناك مدائن
مدهوكة بالموتِ
فاغزلها بضوء
الحبر
لي نخل
فمشط سعفه بيديك
لي وجه على عمق
الفجائعِ
لي هناك حدائق
لإلهي المنفي
لي قمر يغار علي
من ظلي
ولي جنية عربية/
تغفو على صدري
فسافر
يا هواء الليل!
سافر بي ولا
تسأل لماذا.
إنني نهر
اغترابات/
طفولات تهاجر/
ليس لي وطن أحن
إليه
أشتاق تربته
الرهيفة
ليس لي جسد لكي
يغتال في طيش
وليس هناك من
زمن
سوى تلك
الأناشيد البعيدةِ
في صدى
المتعتقين
وفي خطى الآتين
كالضوء الهذائي المدى
لا، ليس لي وطن
أحن إليه
أنا ليس لي وطن
أحن إليه..../
تعليقات
إرسال تعليق