صندوق الذاكرة الشعبية: قراءة ذرائعية في مجموعة /صندوق أرابيسك/ للقاصة المصرية نرمين دميس بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي
يأتي الأدب القصصي القصير
بوصفه مرآة دقيقة لتفاصيل الحياة اليومية، حيث يلتقط من شتات المشهد الاجتماعي
لحظات عابرة، فيعيد صياغتها في بنية جمالية تحمل أبعادًا فكرية وأخلاقية عميقة.
ومن بين التجارب السردية التي تستحق الوقوف عندها، تبرز مجموعة "صندوق أرابيسك"
للقاصة نرمين دميس، بما تحمله من ملامح واقعية رمزية تُعيد تشكيل الذاكرة الشعبية
عبر قصص قصيرة متجاورة، لكنها موحّدة بروحها وموضوعاتها.
تحاول الكاتبة من خلال هذه المجموعة أن تجعل من المشهد البسيط ــ طبق فول
على مائدة رمضانية، أو زفاف شعبي، أو صندوق ذكريات قديم، أو سجين بين تماثيل الشمع
ــ مجازًا إنسانيًا يعبّر عن الهشاشة الوجودية، وعن الفقر والتهميش والقهر
الاجتماعي، وعن الأمل المعلَّق في تفاصيل صغيرة قادرة على منح معنى للحياة.
إن القراءة الذرائعية لهذه النصوص لا تقتصر على تتبع مكوناتها الفنية
والجمالية، بل تتجاوزها إلى الكشف عن البؤرة الفكرية التي تجمعها، وعن مستوياتها
البصرية واللغوية والديناميكية والنفسية والتداولية، بما يجعلها نصوصًا مفتوحة على
الواقع من جهة، وعلى الرمز الدال من جهة أخرى.
·
البؤرة الفكرية والخلفية الأخلاقية
البؤرة العامة للمجموعة تتمحور حول ذاكرة المجتمع وحكاياته اليومية
البسيطة التي تختزن في طياتها معاناة إنسانية عميقة. من حفيدات سندريلا، إلى طبق
الفول، إلى رسائل البحر، إلى السجين… تتكرر فكرة أن الإنسان محاصرٌ بين الفقر
والقهر الاجتماعي وانكسارات الحلم، ومع ذلك لا يتوقف عن البحث عن فسحة جمال أو
عزاء رمزي.
الخلفية الأخلاقية للنصوص تقوم على التوثيق الوجداني للتجربة الشعبية،
حيث تُستدعى الطقوس الاجتماعية (الأعراس، الأعياد، الإفطار الرمضاني) للكشف عن
هشاشة البنية الاجتماعية وغياب العدالة، مع التمسك بإنسانية الفرد والأمل الممكن.
·
المستوى البصري
القصص
مشبعة بالصور البصرية:
حفيدات
سندريلا: المسرح، الثياب اللامعة، الزغاريد، مقعد آخر الصف.
طبق
فول: المائدة الرمضانية الزاخرة، والطبق الوحيد الذي يظل في الهامش.
رسائل
البحر: الأمواج، طيور النورس، الكتابة على الرمل.
السجين:
تماثيل الشمع والظلمة التي تحاصر البطل.
تُوظَّف
الصورة البصرية لخلق تناقض بين الحلم والواقع؛ حيث يلمع الحلم، بينما يظل الواقع
خانقًا أو داكنًا.
·
المستوى اللغوي
لغة
المجموعة متأرجحة بين اللغة الحياتية المباشرة (الممزوجة أحيانًا بالعامية
المصرية) وبين اللغة الشاعرية الغنية بالاستعارات والصور.
الحوار
الواقعي يضفي صدقًا اجتماعيًا.
الجمل
المجازية تمنح النصوص بعدًا رمزيًا وتأمليًا.
إذن،
اللغة تتحرك بين اليومي/الشعبي وبين الشاعري/الرمزي، ما يعكس ازدواجية النصوص
نفسها.
·
المستوى الديناميكي
الحركة
السردية غالبًا دائرية أو مفتوحة:
تبدأ
من مشهد عادي (شراء تذكرة – إعداد طعام – زيارة متحف).
تتصاعد
نحو لحظة رمزية أو صدمة شعورية.
تنتهي
غالبًا بخيبة أو انطفاء، لكن مع أثر وجداني يبقى حيًا في القارئ.
·
المستوى النفسي
الإحباط
والخذلان (الأب الهارب من أسئلة أولاده).
الحنين
(صندوق الذكريات).
القهر
الاجتماعي (العروس الغائبة، سندريلا المفقودة).
القلق
الوجودي (السجين المحاصر في جسده).
كلها
تكشف هشاشة النفس البشرية أمام صدمات الواقع، لكنها أيضًا تقاوم بالذاكرة والرمز.
·
المستوى التداولي (التواصلي/الحجاجي)
النصوص
تلامس القارئ عبر المشترك الجمعي: الأعراس، البحر، رمضان، الأعياد.
تحمل
وظيفة احتجاجية ضد الفقر والتهميش وضياع العدالة.
وفي
الوقت نفسه، تبني تواصلًا وجدانيًا عبر استدعاء صور الطفولة والذاكرة.
·
التجربة الإبداعية
نرمين
دميس تمارس في هذه المجموعة سردًا واقعيًا رمزيًا يجمع بين روح الحكاية الشعبية
وتقنيات القصة الحديثة.
لا
تركّز على حبكات معقدة وإنما على مشاهد سردية قصيرة مكثفة.
تنحاز
للمرأة في نصوصها لتكون بؤرة الألم والانتظار، لكنها أيضًا رمز للأمل والمقاومة.
التجربة
تستند إلى الذاكرة الشعبية كخزان للرموز، فتجعل من التفاصيل اليومية معادلًا
رمزيًا للمعاناة والأمل معًا.
ختامًا
تكشف مجموعة "صندوق أرابيسك" عن قدرة السرد القصير على التقاط
تفاصيل الحياة البسيطة وتحويلها إلى شهادات إنسانية محمّلة بالرمز والدلالة. فالكاتبة
نرمين دميس نجحت في أن تجعل من الحكاية الشعبية اليومية مرآةً لقلق الإنسان وحنينه
وأحلامه المؤجلة. ومن خلال المنهج الذرائعي، بدا جليًّا أن النصوص تقوم على
فسيفساء سردية، يتقاطع فيها البصري باللغوي، والنفسي بالتداولي، لتؤكد أن الأدب
ليس مجرد سرد للحوادث، بل هو فعل مقاومة للزمن والنسيان.
#دعبيرخالديحيي
الاسكندرية – مصر
26 اغسطس 2025
تعليقات
إرسال تعليق