تراتيل الهوى وطقوس العشق قراءة ذرائعية في شعر الوله قصيدة / مازال القلب ينبض/ للشاعر العراقي إياد البلداوي أنموذجًا بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

 



      تنتمي هذه القصيدة إلى فضاء الغزل الروحي، حيث يتماهى العاشق مع المعشوقة حتى يجعل منها طقسًا وجوديًا ودينًا خاصًا. في ثنايا النص تتداخل الصور الحسية بالبُعد الصوفي، لتغدو المحبوبة أيقونة للعطر، والنبض، والتراتيل. يقدّم الشاعر تجربة وجدانية متدفقة، تجعل الحب فعل إيمان، والعاطفة صلاة، والوله نشيدًا سرمديًا. ومن خلال هذا التداخل بين الحسي والروحي، تنفتح القصيدة على فضاء رمزي عميق يستدعي تراث الغزل العربي والصوفي، ويمنح النص بعدًا تناصيًا متألقًا.

تنطلق هذه القراءة من المنهج الذرائعي الذي يدرس النص عبر مستوياته المتعددة: البؤرة الفكرية، الخلفية الأخلاقية، المستوى البصري، الديناميكي، اللغوي–الجمالي، النفسي، والإيحائي العميق، مع استحضار التناص والتجربة الإبداعية. والغاية من ذلك الكشف عن الطاقة الدلالية والجمالية الكامنة في النص، وربطها بخبرة المبدع وسياقه الشعوري.

البؤرة الفكرية

القصيدة تتمحور حول الحب الروحي–الجسدي في آنٍ معًا؛ حيث يعرض الشاعر حالة من الاندماج الكلي مع المحبوبة حتى تتحول إلى ديانة جديدة يؤمن بها ويقيم طقوسها. هنا الحب يتجاوز العاطفة ليغدو عقيدة وجودية.

 

الخلفية الأخلاقية

المحبة تُقدَّم كقيمة عليا، لكنها مشبعة بقدسية وطقسية خاصة. الشاعر يبتعد عن الابتذال ويُدخل العلاقة في حقل من التطهير الروحي، إذ تتحوّل المحبوبة إلى رمز للصفاء والخلود.

 

المستوى البصري

القصيدة غنية بالصور الحسية:

"زفيرك يدغدغ نبضاتي"

"سوار جيدك المرمري"

"رفيف سحب السماء"

هذه الصور ترسم مشاهد متحركة تجمع بين الجسد والطبيعة والسماء في مشهد بصري–روحاني متكامل.

 

المستوى اللغوي والجمالي

اللغة تمزج بين الإيقاع الداخلي (التكرار: "مازال القلب ينبض"، "شهيقك… زفيرك") وبين الصور الشعرية المكثفة. النص يعتمد على جمل قصيرة تخلق إيقاعًا متدفقًا. استخدام ألفاظ مثل العطر، النبض، الترنيمة، التسابيح يمنح النص بعدًا صوفيًا.

 

المستوى الديناميكي

تقنية المناجاة حاضرة بوضوح ("سألتني ذات مرة… كيف تراني؟").

هناك انتقال من الوصف الخارجي إلى الغوص في الداخل (من استنشاق العطر إلى الإيمان بدينها).

الحبكة الشعرية تصاعدية: تبدأ بالنبض والريح وتنتهي بالتصريح باللوعة.

 

المستوى الإيحائي العميق

القصيدة تتحرك في فضاء رمزي–قدسي، حيث يتجلى الحبيب/المحبوبة كأيقونة تتجاوز حدود الجسد لتغدو مطلقًا روحانيًا:

قول الشاعر «هي روحي…» يحمل إيحاء بالتماهي الكلي، وكأن الذات لا تكتمل إلا بالآخر.

الألفاظ ذات الطابع الديني (آمنت بدينك – رتلت تسابيحك – صلاتك) ترمز إلى أن الحب هنا ليس مجرد علاقة بشرية بل طقس عبادي.

التكرار (شهيقك… زفيرك) يكشف عن عمق التعلّق، وكأن المحبوب هو مصدر الحياة/الهواء.

البنية الإيحائية تضع القارئ أمام تجربة عشق صوفي، حيث الجسد طريق إلى الروح، والروح امتداد للألوهة الرمزية.

 

المستوى النفسي

القصيدة تمثل حالة وله صوفي–غرامي، حيث يتماهى العاشق مع المعشوقة. يظهر البعد النفسي في:

التعلق الروحي ("هي روحي…").

الذوبان في الآخر ("آمنت بدينك ورتلت تسابيحك")، ما يكشف عن نفسية منسحقة أمام قوة الحب لكنها أيضًا متعالية به.

التناص

1.    التناص الصوفي:

يتقاطع النص مع تراث ابن الفارض والحلاج في جعل الحبيب/المحبوبة معبودًا رمزيًا؛ مثلما قال ابن الفارض: «زدني بفرط الحب فيك تحيّرا».

أيضًا يذكّر بمقولة رابعة العدوية في محبة الله «أحبك حبّين»، إذ يحضر هنا حب مزدوج: حسي/روحي.

2.    التناص الغزلي العربي:

يتجاوب مع غزل جميل بثينة وكُثيّر عزة من حيث العاطفة المتفانية، لكن مع نقلها إلى مستوى ديني–قدسي.

3.    التناص الموسيقي–الفيروزي:

إشارة الشاعر إلى «لحنها الفيروزي» تستدعي مباشرة الأغنية الفيروزية التي اقترنت بالوجد والحنين والسمو الروحي. هذا يحيل النص إلى ذاكرة وجدانية عربية معاصرة.

 

تكشف هذه المستويات أن القصيدة ليست مجرد غزل، بل نص تناصي ينفتح على فضاء الصوفية العربية، ويستعير من الغناء الطربي بعده العاطفي، ليؤسس رؤية شعرية يتحد فيها الجسد بالروح، والهوى بالدين، والعاشق بالمعشوق.

هي قصيدة إيمانٍ بالعاطفة، وتسبيح بالحب، ومناجاة صوفية حديثة.

 

التجربة الإبداعية

القصيدة تعبّر عن تجربة ذاتية ناضجة، إذ ينقل الشاعر عاطفته عبر تركيب لغوي مشحون بالإيمان العاطفي، مستفيدًا من مفردات دينية وصوفية دون أن يفقد الجانب الجسدي. هذه الازدواجية تمنح النص فرادته.

القصيدة تنتمي إلى الشعر الغنائي الصوفي–الحسي، حيث يتداخل الحب الأرضي مع الحب السماوي. جماليتها قائمة على الصور البصرية والرمزية، وإيقاعها الداخلي يعكس صدق العاطفة. إنها قصيدة تكشف قلبًا عاشقًا يحوّل الحب إلى دين والأنثى إلى معبد.

 

بالختام: تكشف هذه القصيدة عن تجربة شعرية صادقة، تمزج بين حرارة الغزل وشفافية الوله الصوفي، لتجعل من المحبوبة أيقونة مقدّسة، ومن الحب دينًا خاصًا يعتنقه القلب. من خلال الصور البصرية والعطرية والطقوسية، ينجح النص في نقل القارئ إلى فضاء وجداني–روحاني متكامل. كما أنّ التناص مع التراث الصوفي والغنائي المعاصر يثري الدلالة، ويمنح القصيدة بعدًا ثقافيًا متجددًا. وبذلك يمكن القول إن النص يقدّم نموذجًا للشعر الوجداني الحديث الذي يزاوج بين الحسي والرمزي، ويبرهن على أن العاطفة إذا صدقت، تحوّلت إلى إيمانٍ شعري خالد.

مازال القلب ينبض

هكذا أدركت ريحها حين مرت

أتنفس عطرها لو الأجفان أغلقت

تغدو بين شذى الروح

كما النسيم يداعبني

اتنشق دروبها عبر الأثير

سألتني ذات مرة

كيف تراني؟؟؟

أنا لا أراك....

أتلمس خطاك

كلما وطأت سلسبيل روحي

رنين إلهي يطوف بي

يقود كياني ...على رفيف سحب

السماء وهي تمازح دنياك إن بكت

هي روحي...

كلما شابها رونق نرجسي

تغنت بلحنها الفيروزي

سجى الوله على دروب عتيقة

أنشدك ترنيمة قلب صاغ نبضه

سوار جيدك المرمري

لعمري ما غفل قلبي عبقك

ولا نامت أجزائي قبل غفوتك

شهيقك يداعب روحي

زفيرك يدغدغ نبضاتي

وتلتف أناملي

محتضة نهديك

وتخلد النفس مستقرة

مؤمنة بك

وهي ترتل صلاتك

إنني آمنت بدينك

ورتلت تسابيحك التي تلوت

آه من لوعتي فيك

 

               #دعبيرخالديحيي                            الإسكندرية – مصر                    29 سبتمبر 2025

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سرد الاغتراب والبحث عن المعنى قراءة ذرائعية في رواية ( منروفيا ) للكاتب المصري أحمد فريد مرسي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

إشهار كتاب النزعة الصوفية والنزعة التأملية في شعر الأديب السوري منذر يحيى عيسى

أدب الرحلات المعاصرة: سفر في الجغرافيا والذات دراسة ذرائعية مستقطعة على كتاب (نيويورك في عيون زائرة عربية) للكاتبة اللبنانية هناء غمراوي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي