دراسة ذرائعية في النصوص المفتوحة والخواطر السردية الوجدانية والمقالات الشهادية عند الإعلامية السورية رشا النقري في كتابَها / البكاء دفعة واحدة / بقلم الناقدة السورية الدكتورة عبير خالد يحيي

  


 


      ينتمي كتاب /البكاء دفعة واحدة/ للكاتبة السورية رشا النقري إلى أدب النص المفتوح، حيث تتجاور داخله الأشكال الأدبية: الخاطرة السردية، المقالة الوجدانية، النصوص التأملية، والخواطر ذات الطابع الشعوري المباشر.

النص المفتوح يتميز بمرونته وتحرره من قيود القوالب التقليدية (قصة قصيرة، قصيدة نثر، مقالة نقدية)، فهو مساحة تعبيرية تستوعب الانفعال المباشر والتأمل الوجودي والتوثيق اليومي في نصوص غير مقيدة.

هذا الاختيار الفني يتلاءم مع المرحلة التي يوثّقها الكتاب: زمن الحرب والكورونا، حيث يصعب على الأجناس الأدبية الصارمة (القصة/الرواية/الشعر) أن تُمسك بتفاصيله كلها. فكان النص المفتوح الأنسب لالتقاط هذه اللحظة، لأنه يسمح بالبوح والمرونة والتداخل بين الذاتي والجماعي.

 

·       البؤرة الفكرية:

تقوم على التأمل في الحياة تحت ضغط الحرب والوباء، وكيف يمكن للإنسان أن يوازن بين الرغبة في الحياة ووطأة الموت. النصوص تتخذ شكلًا وجدانيًا ـ توثيقيًا، تسجل تفاصيل صغيرة (الكهرباء، الانتظار، العيد، البرد) لكنها تُحيل إلى قضايا كبرى (الموت، الفقد، الأمل).

نص "الحرب والكورونا" (صـ9) يضع البؤرة منذ البداية: الإنسان بين كارثتين.

 

نص "السادس من أيار شمعة ألم في كل بيت سوري" (صـ32) يوسع البؤرة لتشمل الحزن الجمعي.

 

·      الخلفية الأخلاقية:

النصوص تحمل خلفية أخلاقية واضحة تقوم على:

الوفاء للشهداء والمخطوفين (الإهداء صـ7).

الدعوة إلى الصبر والأمل (صـ43 "من نفسك يخلق الأمل").

نقد اللامبالاة أو العجز (صـ38 "صمت المجهول").

استدعاء المسؤولية الفردية والاجتماعية ("2021قابله بالعمل قبل التمني" صـ84).

 

·      المستوى البصري

النصوص تُصاغ بلغة مشهدية أحيانًا، تقربها من السرد القصصي:

"عزاء بملابس وردية" (صـ51): مفارقة بصرية صارخة بين طقس الموت ولون الحياة.

" ... ذهبت لتعزية أحدهم .. رفض قلبي ارتداء الأسود، فاخترت ملابس ملونة وردية.."

 

"التقيت نفسي" (صـ58): مشهد داخلي يعكس انقسام الذات.

" يدرس الإنسان ينجح... لكن في مفترق حياة يلتقي بنفسه بعد عدة علاقات مع اختلاف طبيعتها"

 

" وحيدًاإلى المقبرة" (صـ104): صورة بصرية للفقد القاسي في عزلة.

" الرحيل كان حزينًا صامتًا مخيفًا حدّ الصدمة ....  كانت الرواية تقول إن الميت يسمع، رحل وحيدًا كما جاء إلى الحياة..."

"قالب حلوى" (صـ68): مشهد يومي بسيط لكنه يعكس غياب الفرح.

" ضغوط اقتصادية وخوف لا يترك المكان من فايروس كورونا الذي يهدد حياتنا .. ةالخبر الحزين أصبح متوقعًا.."

 

·      المستوى اللغوي والجمالي

لغة الكتاب تمزج بين السرد والوجدانيات:

سردية مباشرة كما في النصوص الأقرب إلى المقالة (مثل "الصحفي متصل مع العالم منفصل عن ذاته" صـ39).

نبرة شعرية وجدانية كما في "أهداني الله وجه أمي" (صـ94).

مفارقات أسلوبية مثل "وقت للسهر لا للسفر" (صـ69).

صور مكثفة: "أحاسيس مجردة" (صـ97) و"حوار الغيم" (صـ100).

 

·      المستوى الديناميكي (التقنيات السردية)

تعدد الأشكال: النصوص لا تنتمي لقالب واحد، بل نجد المقالة، الخاطرة، النص الشعوري، وحتى المقال القصير.

غياب الحبكة التقليدية: النصوص تعتمد التداعي الحرّ لا البناء السردي المحكم.

الحوار الداخلي: كما في "نفسي الحالمة" (صـ101).

الإيقاع بالتكرار: "عاد الشتاء" (صـ55) و"انتظار" (صـ30).

 

·      المستوى النفسي

التقمص: القارئ يتوحد مع تجربة الألم ("شمعة ألم" صـ32).

التساؤل: "شيء أشبه بالكذب" (صـ74) يفتح باب الشك والقلق الوجودي.

التناص: مع الموروث الشعبي ("حكايا الجدات" صـ46) والديني ("قرار الله" صـ79).

التداعي: بعض النصوص تنبني على تداعيات وجدانية مباشرة، كأنها اعتراف مكتوب دفعة واحدة.

 

·      المستوى الرمزي والإيحائي

الكهرباء رمز للأمل المؤجل (صـ64).

الوردية في العزاء رمز للحياة وسط الموت (صـ51).

البحر رمز للحرية ("قريبًا من البحر" صـ105).

الغيم رمز للتنقل والرجاء ("حوار الغيم" صـ100).

 

·      المستوى الحجاجي

نجد أن النصوص تلجأ إلى استراتيجيات متنوّعة للإقناع:

-        الحجاج بالمثال المعيشي:

النصوص تستحضر تفاصيل الحياة اليومية لتبرهن أن الوجع ليس فكرة مجردة، بل واقع يعيشه الناس في بيوتهم. ففي نص "نصف ساعة وتأتي الكهرباء" (صـ64) تقدّم الكاتبة مثالًا بسيطًا لكنه بالغ الحجاجية: انتظار الكهرباء نصف ساعة يتحول إلى رمز لصبر طويل على انقطاع أوسع وأشدّ في مجالات الحياة. المثال اليومي هنا يقنع القارئ بأن الصبر ليس خيارًا بل قدرًا.

-        الحجاج بالمفارقة:

 نص "عزاء بملابس وردية" (صـ51) ينهض على مفارقة بصرية/معنوية، إذ يجتمع العزاء بالفرح الرمزي. المفارقة ليست زينة بل حجة تقول: حتى في الموت يمكن أن نحيا باللون، وحتى في الحزن يمكن أن نتمسّك بجذر للحياة. إنها حجة وجدانية، تحاول إقناع القارئ بضرورة التمسك بالجانب المشرق مهما كان السياق قاتمًا.

-        الحجاج بالذاكرة الجمعية:

 في نص "السادس من أيار شمعة ألم في كل بيت سوري" (صـ32) يُوظّف خطاب الذاكرة بوصفه برهانًا لا يمكن نقضه. إذ لا بيت يخلو من شهيد أو جريح أو دمعة، وهذه الحقيقة الجمعية تحاجج القارئ بإجباره على الاعتراف أن الألم هنا ليس فرديًا، بل قضية وطن كامل. هذا النوع من الحجاج ينتمي إلى ما يسميه الذرائعيون "الإجماع الجمعي"، حيث يتحول النص إلى شهادة مقنعة لأنها تنطق بلسان الجميع.

-        الحجاج بالتناص الديني والاجتماعي:

 في نصوص مثل "قرار الله" (صـ79) و"حكايا الجدات" (صـ46)، تعتمد الكاتبة على رصيد معرفي وثقافي مشترك مع القارئ. الإحالة إلى الله أو إلى الجدات ليست مجرد إشارة، بل هي استراتيجية حجاجية، حيث تجعل النص يقف على أرضية قيمية راسخة، يصعب رفضها أو إنكارها. القارئ يجد نفسه مقتنعًا لأنه يُستدعى إلى مساحة قيمية مألوفة.

-        الحجاج بالخطاب التحفيزي:

نصوص مثل "من نفسك يخلق الأمل" (صـ43) و"قابله بالعمل قبل التمني" (صـ84) لا تكتفي بسرد حالة، بل تخاطب القارئ مباشرة بضمير المخاطب، لتدفعه إلى التغيير. هذا النوع من الحجاج عملي، يعتمد على "أمر-جواب": إذا فعلتَ ستنجو، وإذا تمنيتَ فقط ستظل في مكانك. إنه خطاب إرشادي إقناعي، يستعمل الأسلوب التحفيزي بديلًا عن الأسلوب المباشر في الوعظ.

إذن فالحجاج في البكاء دفعة واحدة ليس تنظيرًا خارجيًا، بل هو حجاج وجداني/تجريبي. النصوص تحاول أن تقنع القارئ بأهمية الصبر، الأمل، الوفاء، والانتماء، عبر صور الحياة اليومية والفقد والجراح الجمعية. وبهذا يتحول النص من مجرد تعبير ذاتي إلى خطاب عام يشارك القارئ في إنتاج المعنى والقناعة.

الحجاج هنا وجداني، لا عقلاني بحت، يعتمد على تجربة الألم والحنين لإقناع القارئ.

 

·      التجربة الإبداعية

رشا النقري تخوض في هذا الكتاب تجربة تقوم على:

1. النص المفتوح: التحرر من قوالب السرد والشعر.

2. التوثيق الأدبي: تسجيل زمن الحرب والكورونا بنصوص وجدانية.

3. البعد الأنثوي: الحضور الطاغي للأمومة (صـ94).

4. المزج بين المقالة والوجدان: مثل نص "الصحفي متصل مع العالم منفصل عن ذاته" (صـ39).

 

·      الخاتمة

يُمثل كتاب البكاء دفعة واحدة تجربة في الأدب المفتوح، حيث النصوص أقرب إلى الخواطر السردية والمقالات الوجدانية التي تحتفي بالبوح والتأمل. قوته تكمن في قدرته على جمع الذاتي والجماعي، وتسجيل اليومي العابر كجزء من مصير إنساني أشمل.

رشا النقري في هذه التجربة تثبت أن النص المفتوح قادر على أن يكون وثيقة وجدانية ـ تاريخية، تجمع بين حرارة اللحظة وعمق الرمز.

 وهو عمل يضعها في دائرة الأصوات الأنثوية السورية التي استطاعت أن تحوّل الألم والانتظار إلى كتابة تُبقي الذاكرة حية.


                                          #دعبيرخالديحيي                           الإسكندرية - مصر                   2 أكتوبر 2025

 


 

 

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سرد الاغتراب والبحث عن المعنى قراءة ذرائعية في رواية ( منروفيا ) للكاتب المصري أحمد فريد مرسي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

إشهار كتاب النزعة الصوفية والنزعة التأملية في شعر الأديب السوري منذر يحيى عيسى

أدب الرحلات المعاصرة: سفر في الجغرافيا والذات دراسة ذرائعية مستقطعة على كتاب (نيويورك في عيون زائرة عربية) للكاتبة اللبنانية هناء غمراوي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي