"العامية المكتوبة: موقعها بين السرد الشعبي والأدب الفني" مساءلة ذرائعية بقلم الناقدة د. عبير خالد يحيي
لم تعد مسألة اللغة في الأدب مجرد خيار تقني أو جمالي، بل غدت علامة
فارقة في تحديد هوية النص ومجاله التداولي. وإذا كانت الفصحى قد شكّلت عبر التاريخ
وعاءً جامعًا للأدب العربي، فإن العامية المكتوبة تطرح إشكالية مزدوجة: هل تظلّ
حبيسة فضاء الحكاية الشعبية والشفاهية، أم يمكن أن تتحوّل إلى وعاء أدبي قادر على
إنتاج صور جمالية ورموز عميقة؟
فبين السرد العفوي الذي يقتصر على الحبكة والحوارات المباشرة، وبين
الاشتغال الفني الذي يحوّل العامية إلى نصوص مشبعة بالصور والإيقاعات والدلالات،
يتحدّد موقع "العامية" في خارطة الأدب. من هنا، يصبح لزامًا علينا أن
نقرأ هذا الجدل من زاوية ذرائعية، نحلّل البؤرة الفكرية، والخلفية الأخلاقية،
والمستويات الجمالية والديناميكية والنفسية، لنرى كيف يمكن للعامية أن تنتقل من
حكاية محلية تُروى على لسان الجدّات، إلى أدب مكتوب يحقّق وظيفة جمالية ويملك
أثرًا يتجاوز حدود التداول اليومي.
ومن هنا تبرز أهمية المنهج الذرائعي في هذا السياق؛ فهو لا يكتفي بمساءلة
النص من حيث لغته أو بنيته، بل يفتح مجهره على مستويات متشابكة: من الفكرة إلى
الجماليات، ومن البنية إلى الأثر النفسي والاجتماعي. وبهذا يمكنه أن يكشف لنا
المسافة الفاصلة، وأحيانًا الجسر الممكن، بين العامية المحكية كذاكرة جمعية
والكتابة الأدبية كفعل جمالي واعٍ.
·
الأدب واللغة: هل يشترط الفصحى؟
الأدب لا يُعرّف حصريًا بالفصحى، بل جوهره في الوظيفة الجمالية والقدرة
على تحويل اللغة (مهما كانت) إلى خطاب فنيّ مؤثر.
الفصحى تمنح الكاتب إمكانات واسعة للتعبير البلاغي والاستعاري، وتضمن له
خلود النص وتداوله عبر الأقطار.
لكن العامية أيضًا، حين تُستثمر فنّيًا، يمكن أن تكون أدبًا. مثال: قصائد
بيرم التونسي أو أحمد فؤاد نجم أو زجليات الرحابنة؛ كلها أعمال شعبية، لكنها
تجاوزت حدود "الكلام العادي" لتصبح نصوصًا أدبية بامتياز.
·
الفرق بين الحكاية الشعبية والسرد الأدبي:
حكايات الجدات الشفاهية (أو السرد الشعبي) هي أصل كثير من الآداب في
العالم، لكنها غالبًا تقوم على:
الحبكة المباشرة،
اللغة اليومية البسيطة،
غياب الاشتغال الفني المتعمد على اللغة.
أما الأدب المكتوب بالعامية، إذا أراد أن يكون أدبًا، فلا يكفي أن يكتفي
بالسرد العفوي. يحتاج إلى:
بناء صور،
تكثيف دلالي،
إيقاع داخلي،
وظيفة رمزية أو فكرية.
هنا يصبح النص العامي مختلفًا عن الحكاية الشفاهية العفوية.
·
موقع العامية في الأدب
في الشعر: ازدهر "الزجل" و"الموال" و"الأغنية
الشعرية" بالعامية، وحُسبت ضمن الأدب.
في القصة والرواية: يمكن إدخال العامية في الحوارات لإضفاء واقعية، لكن
السرد عادة يبقى بالفصحى كي يحقق البعد الجمالي والانتشار.
بعض التجارب كتبت نصوصًا كاملة بالعامية، لكن مكانتها بقيت محل جدل: هل
هي أدب محلي (محصور بجمهور محدد) أم أدب عالمي قابل للترجمة؟
الكتابة بالعامية يمكن أن تكون أدبًا إذا خرجت من حدود الكلام اليومي
لتصبح إبداعًا جماليًا.لكنها حين تقتصر على سرد حبكة وحوارات بلا بلاغة أو رمزية،
فهي أقرب للحكاية الشعبية أو للتوثيق الاجتماعي منها إلى الأدب الفني. والقيمة
الأدبية ليست في اللهجة بحد ذاتها، بل في كيفيّة توظيفها فنّيًا.
أمثلة نصية قصيرة تُظهر الفرق بين عامية الحكاية الشعبية وعامية النص
الأدبي، بحيث نرى الفاصل عمليًا:
أعطي مثالين متقابلين:
1.
العامية كـ حكاية شعبية شفاهية
"كان
يا ما كان، في بنت صغيرة ساكنة بحارة قديمة. كل يوم بتروح عالفرن تجيب خبز، وبتلعب
مع الجيران. بس يوم من الأيام، ضيعت الطريق، وصارت تبكي، لحتى لقِيها واحد طيب
ورجعها لأهلها."
هنا نلاحظ: لغة يومية جدًا، سرد مباشر بلا صور أو استعارات، الهدف توصيل
الحدث فقط. هذا سرد حكاية وليس أدبًا فنّيًا.
2.
العامية كـ نص أدبي:
"شو
بِتعرف إنت عن الحارة؟
الحيطان إلها دمع،
والدرج بيمشي متل عجوز بيكحّ دم.
الولاد بيضحكوا، بس ضحكتن متل شقفة بلّور مكسور…
والخبز، ريحتو بتسابق الخطاوي، كأنو هويّة الفقير."
هنا العامية تحوّلت إلى أداة فنية:
استعارة ("الحيطان إلها دمع").
إيقاع داخلي ("الدرج بيمشي متل عجوز بيكحّ دم").
تكثيف رمزي (الخبز = الهوية).
هذا نص مكتوب باللهجة، لكنه أدب لأنه يشتغل على الصور والرمزية والوظيفة
الجمالية.
إذن:
الأولى = "حكاية".
الثانية = "أدب بالعامية".
أوسّع أكثر وأقارن أيضًا مع نص ثالث بالفصحى
ليظهر الفارق بين مستويات التعبير (حكاية عامية ↔ أدب عامي ↔ أدب فصيح):
لنضع المقارنة في ثلاث مستويات، بنفس الفكرة لكن بثلاث صيغ:
1.
الحكاية العامية (شفاهية)
"كان
في بنت صغيرة من الحارة، راحت تجيب خبز، وضاعت. صارت تبكي، لحتى مرّق رجل طيب
رجعها عالبيت."
سمات: سرد مباشر، بسيط، بلا صور أو رموز. أقرب
للحكاية الشعبية أو التوثيق الاجتماعي.
2. النص الأدبي بالعامية
"الحارة
متل أمّ غايبة،
بتلفّ الولاد بشوارعها،
وتخبّيهم بضلّ الحيطان.
البنت الصغيرة… ركضت ورا ريحة الخبز،
ولما ضاعت، بكا الدرج متل عجوز ناسي طريقو."
سمات:
لغة عامية لكن فيها أدبية .
صور واستعارات (الحارة = أم، الدرج = عجوز).
إيقاع داخلي يجعل النص يحمل قيمة جمالية.
3.
النص الأدبي بالفصحى
"في
الحيّ العتيق، كانت الطفلة تركض خلف رائحة الخبز،
كأنّ العطر خيطٌ يشدّها من قلبها.
وحين ضاعت في دروب الأزقة،
بكى الدرج مثل شيخٍ أثقلته الذاكرة،
وانحنت الجدران عليها كأمهاتٍ يفتقدن أولادهن."
سمات:
فصحى مشبعة بالصور والرموز.
كثافة جمالية أوسع انتشارًا وقابلية للترجمة.
يحافظ على البعد الأدبي العابر للمحلية.
نتائج المقارنة:
العامية الشفاهية = مجرد حكاية (مباشرة).
العامية الأدبية = نص فنّي محلي الطابع، لكن جمالي.
الفصحى الأدبية = نص فنّي عالمي، يتجاوز الحدود.
نطبّق المنهج الذرائعي سريعًا على المستويات الثلاثة (الحكاية العامية –
النص الأدبي بالعامية – النص الأدبي بالفصحى) لنعرف أيها يُحسب أدبًا:
أولًا: الحكاية العامية (الشفاهية)
"كان
في بنت صغيرة من الحارة، راحت تجيب خبز، وضاعت. صارت تبكي، لحتى مرّق رجل طيب
رجعها عالبيت."
البؤرة الفكرية: إيصال حدث واقعي بسيط (ضياع وعودة).
الخلفية الأخلاقية: الخير ينتصر (الرجل الطيب يعيدها).
المستوى الجمالي: ضعيف جدًا؛ اللغة مباشرة بلا صور.
المستوى الديناميكي: سرد خطيّ، بلا حبكة متشعّبة أو توتر.
المستوى النفسي: لا يظهر سوى الخوف الطبيعي للطفلة.
الحكم الذرائعي: ليس أدبًا، بل سرد شعبي أو وثيقة اجتماعية.
ثانيًا: النص الأدبي بالعامية
"الحارة
متل أمّ غايبة، بتلفّ الولاد بشوارعها، وتخبّيهم بضلّ الحيطان. البنت الصغيرة…
ركضت ورا ريحة الخبز، ولما ضاعت، بكا الدرج متل عجوز ناسي طريقو."
البؤرة الفكرية: استدعاء رمزي لمعنى الضياع/الحماية.
الخلفية الأخلاقية: الحارة كأم، الخبز كهوية، الضياع كجرح جمعي.
المستوى الجمالي: استعارات وصور (الدرج = عجوز)، إيقاع داخلي.
المستوى الديناميكي: تحوّل المكان إلى شخصية حيّة (الدرج يبكي).
المستوى النفسي: استبطان شعور الطفلة بالضياع عبر تشخيص الجمادات.
الحكم الذرائعي: هذا أدب محلي بالعامية، لأن النص يحقق شرط "الوظيفة
الجمالية".
ثالثًا: النص الأدبي بالفصحى
"في
الحيّ العتيق، كانت الطفلة تركض خلف رائحة الخبز، كأنّ العطر خيطٌ يشدّها من
قلبها. وحين ضاعت في دروب الأزقة، بكى الدرج مثل شيخٍ أثقلته الذاكرة، وانحنت
الجدران عليها كأمهاتٍ يفتقدن أولادهن."
البؤرة الفكرية: الحنين والضياع الجمعي في المكان.
الخلفية الأخلاقية: رمزية الأمومة والخبز كهوية جمعية.
المستوى الجمالي: بلاغة، صور كثيفة، لغة قابلة للترجمة والتداول.
المستوى الديناميكي: حبكة قصيرة لكنها محمّلة بالتوتر الرمزي.
المستوى النفسي: إسقاط نفسي/جمعي على المكان (الحي، الدرج، الجدران).
الحكم الذرائعي: أدب فصيح، يُحسب ضمن الأدب العالمي لقدرته على تجاوز
المحلية.
الخلاصة الذرائعية:
الحكاية العامية = نص شفاهي توثيقي، لا يُعد أدبًا.
النص العامي الأدبي = أدب محلي مشبع بالجمالية، صالح للتأثير داخل بيئته.
النص الفصيح الأدبي = أدب ذو أفق عالمي، يتجاوز حدود الجغرافيا واللهجة.
خاتمة:
يتضح من خلال القراءة الذرائعية أنّ العامية المكتوبة ليست في ذاتها
عائقًا أمام الأدبية، بل إن موقعها يتحدّد بقدرتها على تجاوز حدود الكلام العفوي
إلى فضاء الجمالية والرمزية. فإذا بقيت حبيسة الحكاية الشعبية الشفاهية، ظلّت
مجرّد وثيقة اجتماعية أو تراثية، أما حين تنفتح على الاستعارة، والإيقاع، والتكثيف
الدلالي، فإنها تكتسب شرعية الأدب وتصبح جزءًا من خارطة الإبداع.
إنها أشبه بصوت الجدّات الذي يدفئ السهرات، فإذا مرّ عبر قلم الكاتب صار
نصًا أدبيًا يملك القدرة على الخلود. وبين الفصحى التي تمنح النص أفقه العالمي
وخلوده، والعامية التي تضفي عليه حرارة المحلّي وصدق الشفاهية، يتحدد موقع الأدب
بوظيفته الجمالية والمعرفية لا بمجرد لغته.
لقد بيّن التحليل أنّ النصوص بالعامية يمكن أن ترتقي إلى الأدبية حين
تتوفر فيها البؤرة الفكرية الواضحة، والخلفية الأخلاقية الموحية، والمستويات
الجمالية والديناميكية والنفسية التي تميّز النص الأدبي عن غيره. وفي المقابل،
تظلّ الفصحى أوسع أفقًا من حيث التداول والانتشار، لما تمنحه من إمكانات بلاغية
وترجمية تضمن للنص خلوده وعبوره للثقافات.
وعليه، فإن النظر إلى العامية المكتوبة ينبغي أن يكون بمنظور ذرائعي
يتجاوز أحكام القيمة المسبقة، ويقيّم النصوص في ضوء وظيفتها الأدبية، لا في ضوء
لهجتها. فالأدب في النهاية ليس مرهونًا بشكل اللغة وحده، بل بقدرتها على إنتاج أثر
جمالي ومعرفي يتجاوز حدود اللحظة والمحلية إلى فضاء الإنسانية الأرحب.
#دعبيرخالديحيي الإسكندرية – مصر 28 سبتمبر 2025
تعليقات
إرسال تعليق