الرئيس السوري أحمد الشرع في موسكو: تناقض الحضور بين الشرعية والمخلوع بقلم د. عبير خالد يحيي
تأتي زيارة الرئيس
السوري أحمد الشرع إلى موسكو في لحظة سياسية دقيقة، تحمل في طياتها مفارقات
تاريخية وأخلاقية معقدة. فالعاصمة الروسية التي احتضنت بشار الأسد طوال سنوات حكمه
ثم بعد سقوطه، تستقبل اليوم رئيسًا جديدًا جاء على أنقاض نظامه، ليطالبها بتسليم
من كان بالأمس حليفها الأوثق.
إنها لحظة مشحونة بالرموز: بين دولةٍ تسعى إلى
إعادة رسم علاقاتها الخارجية على أسس جديدة، وقوةٍ عظمى لا تزال ترى في الأسد
الورقة التي لم تُستنفد بعد. وتكمن المفارقة الأكبر في تواجد الرئيس الشرع والأسد
المخلوع في المكان ذاته، لكن على طرفي المعادلة: أحدهما يفاوض، والآخر يختبئ تحت
مظلة الحماية الروسية.
· موسكو — ذاكرة التحالف ومختبر التناقض
منذ بداية الثورة
السورية، شكّلت موسكو الحاضنة السياسية والعسكرية لنظام الأسد. دعمت الجيش السوري
بالسلاح والمستشارين، وثبّتت وجودها العسكري في قاعدتي حميميم وطرطوس، رافعة شعار "محاربة
الإرهاب" لتبرير دعمها للنظام.
اليوم، ومع تغيّر موازين القوى، تستقبل موسكو
أحمد الشرع، الرئيس الذي يمثّل مرحلة ما بعد الأسد، في زيارة يُفترض أن تفتح صفحة
جديدة من العلاقات السورية–الروسية، لكنها في جوهرها اختبار لصدق النوايا الروسية.
كيف يمكن لعاصمةٍ كانت مقبرةً للثورات أن تتحوّل
فجأة إلى رافعةٍ للشرعية الجديدة؟ وكيف يُمكن أن تلتقي في أروقة الكرملين ذاكرة
القصف على المدن السورية مع طموحات الإعمار وإعادة الإعمار الأخلاقي للدولة؟
· التناقض الأكبر — الشرع يطالب بتسليم الأسد
أعلن الرئيس أحمد الشرع أنه، خلال زيارته،
سيطلب من القيادة الروسية تسليم بشار الأسد لمحاكمته في دمشق على جرائم الحرب التي
ارتكبها بحق الشعب السوري. خطوةٌ جريئة، لكنها محفوفة بالتناقضات، إذ إن الأسد
نفسه يعيش في موسكو تحت ما سُمّي “اللجوء الإنساني” بعد فراره من دمشق.
يطرح هذا المشهد تساؤلات حارقة:
هل يمكن لرئيسٍ أن يطلب من مضيفيه تسليم لاجئٍ
سياسي كان حليفهم بالأمس؟ هذا سيحدث، وهو طلب مُعلن عنه سابقًا.
ولكن، هل تستطيع روسيا أن تفرّط في ورقة الأسد
التي منحتها نفوذًا استثنائيًا في الشرق الأوسط؟
الجواب الواقعي، كما يبدو، أن روسيا لن تسلّمه
بسهولة، فهي تدرك أن الأسد لا يزال رمزًا لوجودها الاستراتيجي في سوريا، وأن
التخلي عنه يعني اعترافًا ضمنيًا بهزيمة مشروعها القديم.
· موسكو كمرآة للشرعية المزدوجة
زيارة الشرع لموسكو ليست مجرد حدث دبلوماسي، بالحقيقة
هي امتحانٌ رمزي للشرعية ذاتها.
الشرع يمثل "شرعية الثورة والانبعاث"،
بينما الأسد المخلوع يجسّد "شرعية القوة الماضية الزائلة".
وجودهما في المكان نفسه يجعل من موسكو مسرحًا
مفتوحًا لتجسيد صراع الزمنين:
الزمن الجديد الذي يحاول إعادة بناء الدولة
السورية على أسس العدالة والمواطنة،
والزمن القديم الذي ما زال يحتمي خلف الشعارات
الفارغة والذكريات الأمنية.
في قاعات الكرملين، تتقاطع نظرات الحاضر
والماضي، وكأنّ موسكو نفسها عاجزة عن الحسم بين من صنع نفوذها ومن يريد إعادة
صياغة العلاقة معها على أساس الندّية.
· روسيا بين براجماتية المصالح وعبء الحلفاء
من وجهة نظر الكرملين، ليست المسألة أخلاقية، بل
مصلحية بحتة.
فروسيا التي دعمت بشار الأسد لعقدين كاملين لا
تريد أن تُظهر نفسها كقوة تتخلّى عن حلفائها بسهولة، لكنها في الوقت ذاته تدرك أن
المستقبل السوري لا يمكن أن يُبنى فوق رماد الشرعية القديمة.
لذلك، تتعامل موسكو مع زيارة الشرع باعتبارها "فرصة
لإعادة التموضع"، تحاول من خلالها الحفاظ على قواعدها العسكرية ومصالحها
الاقتصادية، دون خسارة الوجه الجديد لسوريا.
أما من الناحية الإنسانية، فاستمرار وجود الأسد
في موسكو يشكل عبئًا سياسيًا، يذكّر العالم بدور روسيا في حماية نظامٍ دموي. ولهذا
السبب تحاول موسكو أن تُبقي الأسد في الظل، بلا ظهور علني، وكأنها تقول: "هو
بيننا، لكنه لم يعد منّا."
· الزيارة كاختبار لسيادة القرار السوري
زيارة الشرع ليست فقط رحلة دبلوماسية، بل مقياس
لقدرة سوريا الجديدة على اتخاذ قراراتها باستقلالية.
فهل يستطيع الشرع أن يفرض رؤيته في إعادة توزيع
النفوذ داخل بلاده؟
هل يملك الشجاعة للقول إن القواعد الروسية يجب
أن تخضع للاتفاقات الجديدة، لا لسياسات الماضي؟
إنه اختبارٌ للسيادة قبل أن يكون اختبارًا
للعلاقات الدولية، اختبارٌ بين إرادة التحرّر من نفوذ الحلفاء وبين واقعية الحاجة
إليهم في مرحلة الإعمار والانتقال السياسي. وهذا ما نعوّل عليه كشعب سوريا
المتحرّر من ثلاثة أنظمة قمعية منذ وقت قصير.
· في البعد الرمزي – حين يجتمع النقيضان
أن يجتمع الشرع والأسد في المدينة نفسها، ولو
دون لقاء مباشر، فذلك يكشف عن مأزق الذاكرة السورية.
القاتل والناجي، المخلوع والمنتخب، كلاهما في
المكان ذاته الذي كان بالأمس مركز القرار في حربٍ أحرقت البلاد.
هي مفارقةٌ تشبه المرايا المتقابلة: كلٌّ يرى في
الآخر ما كانه، وما لن يستطيع أن يعود إليه.
ولعلّ موسكو في هذا السياق ليست سوى "مساحة
عازلة" بين زمنين، أو محطةً مؤقّتة
قبل أن يُكتب التاريخ من جديد.
في الختام: بين أحمد الشرع الذي يسعى إلى بناء
سوريا الجديدة، وبشار الأسد الذي يحتمي بظلال موسكو، تتجلّى قصة كاملة عن الصراع
بين المستقبل والماضي.
قد تنجح روسيا في تأجيل الحسم، لكنها لن تستطيع
إخفاء التناقض الذي أصبح رمزًا لمرحلة ما بعد الحرب.
إنّ وجود الأسد والشرع في المكان نفسه ليس
مصادفة سياسية، بل مشهد درامي يعكس التحوّل العميق في الوعي السوري:
أن الشرعية لا تُورّث، وأن الطغيان مهما احتمى
بالقوى الكبرى، يظل غريبًا عن أرضه، فيما يكتب الشعب فصلاً جديدًا في تاريخه من
قلب المدن التي قاومت ودفعت الثمن.
تعليقات
إرسال تعليق