الأنوثة والهوية في /المرأة التي أسكنها/: قراءة ذرائعية في نصوص المجموعة النثرية للشاعرة السورية فيروز مخّول بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

 

 


      «المرأة التي أسكنها» للشاعرة فيروز مخول مجموعة من النصًّوص الشعرية النثرية تُجسّد تجربة أنثوية عميقة تتخطّى البوح الذاتي إلى تأمّل الوجود بكل تجلياته.

يتميّز العمل ببنيةٍ شعريةٍ أنثوية عميقة، تعبّر عن الوعي الجسدي، والاغتراب الوجداني، والحنين للوطن، عبر لغةٍ تجمع بين النثر الشعري والمشهد التصويري.

من خلال اللغة، تبني الشاعرة وطنها البديل، وتحاور ذاكرتها ومصيرها في آن، لتجعل من القصيدة فعل وعيٍ وتحرّرٍ من النمطية الذكورية والاجتماعية.

اعتمدت هذه الدراسة المنهج الذرائعي العربي كما نظّر له الأستاذ عبد الرزاق عودة الغالبي وطوّرته الباحثة د. عبير خالد يحيي تطبيقًا ومفهومًا.

وقد وُظِّف المنهج هنا بوصفه أداةً تكشف مستويات النصّ: الفكري، الأخلاقي، اللغوي، النفسي، الديناميكي، الإيحائي والبصري، بما يبرز التكامل بين الجمال والمعنى، بين الانفعال والفكر.

 

البنية البصرية العامة للكتاب:

الكتاب يتكوّن من نحو ثمانين نصًّا شعريًّا نثريًّا، تتوزّع بين:

-        نصوص الحب والأنوثة مثل: المرأة التي أسكنها، عاشقة الياسمين، ملهمة العشق، حمَاقات أنثى، قبلة الحياة...

-        نصوص الوطن والمنفى مثل: أريد وطنًا، مشهد وداع، العبور المستحيل، بنت البلاد، في مسالك الصباح، انتظار، بلا عنوان...

-        نصوص الغياب والحرب والموت مثل: غرفة محترقة، ذاك المقهى، لا زلت بخير يا أبي، هل ستنتهي الحرب؟، في حضرة الغياب، رأيت...

الأسلوب يمزج بين الحلم والتوثيق الوجداني، وتغلب عليه النبرة الوجودية التي تسائل الذات والوطن والحبّ.

 

تم اختيار سبع قصائد من الديوان لتمثّل التحوّل الأنثوي المتدرّج من الذات إلى الإنسان، ومن الوجع إلى الوعي. وهي:

1-   المرأة التي أسكنها

تمثّل البؤرة الفكرية للكتاب.

محور الهوية الأنثوية وتماهي الذات بالكتابة.

تُظهر التحوّل من التبعية إلى التمكين عبر اللغة.

 مناسبة للدراسة في المستوى النفسي والديناميكي واللغوي.

2-   حمَاقات أنثى

نصّ حواري داخلي بين الأنوثة والعشق، فيه تصادم بين الخضوع والتمرّد.

لغة عالية الرمزية والوجدانية.

 مناسبة للمستوى الإيحائي والبصري.

3-   عاشقة الياسمين

تتجلّى فيها صورة الأنثى/الوطن، حيث تمتزج العاطفة بالذاكرة الجمعية.

 مناسبة للمستوى الأخلاقي والنفسي.

4-   أريد وطنًا

من أكثر النصوص التزامًا بالقضية والوجدان الجمعي.

تجمع بين الخطاب الشعري والسياسي بلغة رمزية.

 مناسبة للمستوى الفكري والأخلاقي.

5-   العُبور المستحيل

تصوير وجودي لمعاناة اللجوء والهوية.

يُبرز الصراع بين الذات الممزقة والانتماء المفقود.

مناسبة للمستوى النفسي والديناميكي.

6-   بلا عنوان

نصّ فلسفي/ميتافيزيقي يتعامل مع الغياب كحالة وجود.

 مناسب للمستوى الإيحائي العميق.

7-   مشهد وداع

نصّ حزين ذو طاقة تصويرية عالية، يعبّر عن الفقد والطفولة والذاكرة.

 مناسب للمستوى النفسي والبصري.

 

 

 

 

 

 

 

أولًا: المرأة التي أسكنها – ندرس فيها المستوى اللغوي والنفسي والديناميكي

تمثّل هذه القصيدة بؤرة العمل، والعنوان الذي منح الكتاب هويته الأنثوية. تتحدّث الشاعرة من الداخل، عن المرأة الكامنة فيها، تلك التي تُطلّ من أعماقها لتعيد تعريف ذاتها من خلال الكتابة والحبّ، وتعلن عن تحرّرها من النمطية. النصّ يقدّم ميثاقًا بين الذات واللغة بوصفها وطنًا بديلًا وجسدًا آخر.

·      المستوى اللغوي:

لغة النصّ مشحونة بالعاطفة، ذات بنية تصويرية تعتمد على التشبيه المرمّز والعبارة المقطّرة.

يتجلّى في اللغة تلاحم الحسي بالرمزي:

«يا رجلًا !...

كلّما اختبأتُ من رائحتك

يفضحني  عطرُك ... »

فتتحوّل الكتابة إلى طقس ولادةٍ جديدة.

« وحينما أكتبُ عنك يتحوّل الحبر إلى سماء»

الصورة اللغوية هنا تتحوّل من الحسي إلى الرمزي: العطر ↔ الحبر ↔ السماء = توحيد بين الحضور الجسدي والكتابي.

كما تستخدم الشاعرة بنية الأفعال المتتابعة بضمير المتكلم (أكتب – أنثر– أستجدي – أرتقي – أتشرد...) مما يمنح النصّ إيقاعًا ديناميكيًا متحركًا، يؤكد حضور الذات الفاعلة لا المفعول بها.

 

·      المستوى النفسي:

تعيش الشاعرة انقسامًا بين الأنوثة والذات الكاتبة، بين الخضوع والتمرد:

«...أتشرّد داخلك

أرمي للبحر أشرعتي

أتحوّل موجة تعانق المدّ والجزر

لا أشبه كلّ النساء

فالمرأة التي تسكنني

حورية

تقيم في أعالي البحار»

فالنصّ يعكس رحلة وعي أنثوي من الاضطراب إلى التماسك، ومن "الأسيرة في هواك" إلى "المرأة التي تسكنني" أي التملك الكامل للذات.

يتحول "الحبّ" هنا من قيدٍ إلى أداة تحرّر عبر الإدراك.

 

·      المستوى الديناميكي:

نلمس حركة تصاعدية في الخطاب من الحنين إلى التمرّد، ومن الانفعال إلى الفعل:

1. البداية: «أستجدي عناقكَ/ أن تكتسح مسامات وجعي» – حالة انكسار.

2. الوسط: «يتوارى الحزن مثل غابة سوداء/ أتشرّد داخلك » – ذروة التحوّل النفسي.

3. النهاية: «المرأة التي تسكنني... تقيم في أعالي البحار» – لحظة التتويج والتحرر.

التحوّل الديناميكي هنا هو انتقال من الانحباس الأرضي إلى الانفتاح الكوني، حيث البحر فضاء الأنوثة الحرة.

 

قصيدة "المرأة التي أسكنها" تمثل ميثاق الهوية الأنثوية الحرة في نص فيروز مخول. لغتها تتماهى مع حالتها النفسية، تتحرك بإيقاع داخلي يعبّر عن رغبة في الولادة من جديد. الجمال هنا في التوازن بين الحسي والروحي، بين النص والذات.

 

 

ثانيًا: حمَاقات أنثى المستوى الإيحائي والبصري

 

في هذه القصيدة، تفتح الشاعرة نافذة على الداخل الأنثوي المتمرّد، حيث تمتزج العاطفة بالعقل، والشغف بالوعي، لتكشف عن "أنثى الشاعرة" التي لا تكتب فقط بل تُعيد تشكيل وجودها بالقصيدة.

النص ليس مجرد اعتراف عاطفي، بل لوحةٌ داخلية من الألوان المتضاربة بين الحبّ والخذلان، وبين الوله والمعرفة.

العنوان ذاته إعلان عن براءة الوعي الأنثوي ودهشة الحبّ الأولى.

«يوم كان العشق يتجلّى في روح ناداها الشوق»

 

·      المستوى الإيحائي:

يحمل العنوان ذاته إيحاءً مزدوجًا:

«حمَاقاتُ أنثى» لا يُقصد به الجهل أو الضعف، بل البراءة الأولى للوجدان، أو ما يسميه يونغ “الأنيمَا” – الطاقة العاطفية البدئية في النفس.

فالشاعرة تعترف بحمقاتها، لكنها تفعل ذلك من موقع القوّة، لتعيد تعريف العشق كمنطقة وعي لا تُقاس بالعقل:

«لا تُبالِ بحمَاقاتي سيّدي

يومَ كانَ العشقُ يتجلّى في روحٍ زارَها الشوقُ

فرسمتْ وجهَك لوحةً

ألوانُها لهفُ الفؤادِ»

نلاحظ هنا تحوّل المعنى من اللوحة إلى الكينونة: فالرجل لا يُرى في الخارج بل يُرسَم داخلها، فيتحوّل إلى أثر فنيّ — رمزٍ للحضور والغياب معًا.

الإيحاء يفتح بابًا لفهم "الحماقات" كأفعال حياة، والبصر يُعيدنا إلى لوحةٍ تشكيلية متحرّكة بين الضوء والظل، بين المصباح والفراشة، بين الاحتراق والتوهّج.

« يوم زرعتُ حقولي عشقًا وسؤالًا

لتنبت وردًا ... وشوكَا

فكنتً مصباحًا تحرقه الفراشات

وفراشةً تثقلُها ألوانُها»

الإيحاءات هنا تتكاثر عبر الحقول الدلالية التالية:

اللون: "ألوانها لهف الفؤاد"، "الغيم"، "العصف"، "النهر"، "السواقي" — وهي رموز للحياة والفيض العاطفي.

الطبيعة: البحر/النبع/الفراشة/المصباح — تتحول إلى استعارات للحبّ الذي يحرق وينير.

الفعل الأنثوي: "ضفرت"، "زرعت"، "امتلأت"، "نبتت" — كلها أفعال ولادة، تشير إلى الخصوبة الإبداعية لا الجسدية فقط.

الإيحاء العام إذًا هو أن الحبّ ليس فعل انقياد، بل تجربة خلقٍ فنيّ، والحمقات ما هي إلا دهشة الخلق الأنثوي الأولى.

 

·      المستوى البصري:

القصيدة لوحة تشكيلية حقيقية، تنبض بالحركة واللون.

الشاعرة تمارس ما يمكن تسميته بـ "الرسم بالكلمات":

«فرسَمتْ وجهَك لوحَةً

ألوانُها لهفُ الفؤادِ»

«فكنتَ البحرَ الذي يبتلعُ النهرَ

والنبعَ الذي يغازلُ السواقي»

توزيع المشهد هنا بصريّ تمامًا: البحر ↔ النهر ↔ النبع ↔ السواقي = حركة أفقية ورأسية في آن، تشبه المنظور التشكيلي.

ثمّ يظهر المشهد الآخر في نهاية النصّ:

«فكنتَ مصباحًا تحرقه الفراشات

وفراشةً تثقلها ألوانُها»

تتجلّى المفارقة البصرية في انقلاب الأدوار بين الضوء والظلّ: الرجل/المصباح يحترق، والمرأة/الفراشة تتهالك بألوانها.

مشهد يختصر دورة العشق بين الخلق والفناء، بين الفنان ولوحته.

 

قصيدة «حمَاقات أنثى» ترسم خريطة وجدانية للأنثى المبدعة التي تتصالح مع أخطائها، وتحوّلها إلى جمال.

الإيحاءات العاطفية والبصرية تمتزج لتخلق نصًا يفيض بالحياة رغم الخيبة، فيتحوّل الوجع إلى فنّ.

إنها حمَاقات المعرفة الأولى... حين تكتشف الأنثى أن قلبها هو ريشة الله في اللوحة.

 

 

 

 

 

 

 

 

ثالثًا: عاشقة الياسمين المستوى الأخلاقي والنفسي

قصيدة «عاشقةُ الياسمين» تمثل ذروة الرؤية الإنسانية والوطنية عند فيروز مخول، حيث تتوحد الأنوثة بالعطر وبالذاكرة السورية والفلسطينية.

 

·      المستوى الأخلاقي:

يتأسّس هذا النص على قيم الحبّ والحقّ والنقاء مقابل الخراب والخذلان.

تبدأ الشاعرة بتأمّل رمزيّ في الجمال الذي يتعرّض للانتهاك:

«دعني أخبركَ عن سوسنٍ احتضر

عن ليلةٍ لم تنم فيها عين القدر

عن طفلةٍ غادرتْها البراءةُ

في غفوةِ ضميرِ البشرِ»

نجد هنا الموقف الأخلاقي الصريح من انهيار الضمير الإنساني، حيث يُقتل النقاء في زمن ملوّث.

الشاعرة لا تكتفي بالاحتجاج، بل تجعل الشعر نفسه موقفًا أخلاقيًا من الفقد، وسبيلاً لإحياء ما مات في الناس.

القصيدة تمجّد الصدق الداخلي والرحمة كقيم موازية للجمال، وتدين الزيف الاجتماعي والسياسي.

كما تتجلى القيمة الأخلاقية الكبرى في قدرة الأنثى على الغفران والبوح دون انكسار:

«دعني أبوح بما أحب... ولا أحب

فكما سقوط الأمطار في المرافئ

دمعي في القلب انهمر»

الدمع هنا ليس ضعفًا بل تطهيرًا، والبوح هو شكل من المقاومة الأخلاقية ضد الخرس الروحي.

«دعني أخبرك بما يقال.... ولا يقال

فالصدر ضاق بسرّه

والصمتُ صار محالا»

·      المستوى النفسي:

تمثّل القصيدة صراعًا بين الحنين والخذلان، وبين الحبّ كقيمة أخلاقية والموت كقدر إنساني.

تتحرك الشاعرة في فضاء نفسي متوتر بين الرغبة والذنب، بين العشق والخذلان.

إنها عاشقة الياسمين، أي عاشقة النقاء المستحيل، تعاني من انقسام بين ما تحبّ وما يؤلمها:

«حتى دنا طيف وجهكَ من بعيدٍ أسطورةً بحريةً

طريقًا معبّدةً وشجر»

هذا المقطع يقدّم صورة الحلم الذي لا يُنال — وجه الحبيب/الوطن/الذات، الذي يظهر كأسطورة بحرية لا تُمسّ.

إنها لا تنادي رجلًا فقط، بل تنادي صوت الحياة نفسها كي يعود من الغياب.

النصّ يُظهر التحوّل من حالة الإنهاك إلى الاعتراف الواعي بالوجع:

البداية: موت الطفلة/براءة الوجدان.

الوسط: الوعي بالألم بوصفه قدرًا.

النهاية: انفجار البوح كخلاص.

هكذا تتحوّل المعاناة إلى طقس تطهيري، والنصّ إلى علاج نفسي بالكتابة، تفريغ الشحنات العاطفية المؤلمة  غضب، حزن، صدمة... بطريقة آمنة من خلال :البكاء، الفن، الكتابة ، الحديث...  (Catharsis).

 

·      البنية الرمزية:

الياسمين = النقاء، دمشق، الأنوثة، الذاكرة.

السوسن المحتضر = براءة الطفولة / الوطن الجريح.

الطفلة التي غادرتها البراءة = الذات الشاعرة بعد الحرب.

الصمت / المطر / البحر = رموز للتحوّل والتطهير والانبعاث.

كل رمز في النصّ يخدم رؤية واحدة: أن الشقاء لا يقتل الجمال، بل يكشف أصالته.

 

قصيدة «عاشقةُ الياسمين» من أنضج نصوص الديوان من حيث القيمة الأخلاقية والعمق النفسي.

تقدّم نموذج المرأة الشاعرة التي تواجه القبح بالعطر، والموت بالياسمين، وتحوّل الحبّ إلى موقف أخلاقي من العالم.

هي أنشودة الروح حين تُصرّ على أن تبقى طاهرةً في زمنٍ ملوّث، وتقول بلسان فيروز مخول:

«فالصدر ضاق بسرّهِ

والصمتُ صارَ محالًا.»

 

 

 

 

 

 

 

 

رابعًا: أريد وطنًا المستوى الفكري والأخلاقي

تمثّل هذه القصيدة الذروة الفكرية في مجموعة «المرأة التي أسكنها»، إذ تنتقل الشاعرة من فضاء الذات والعاطفة إلى فضاء الإنسان والوطن.

يصبح الوطن هنا فكرة وجودية، وليس مجرّد مكان، ورغبة في العدالة والانتماء، بعد أن يتحوّل الواقع إلى غربةٍ كبرى.

من خلال البنية الشعرية المكثّفة، تكتب فيروز مخول نصًّا يوازن بين الحنين والاحتجاج، بين الرغبة في الحياة والتشبّث بالأمل.

 

·      المستوى الفكري:

ينبني النص على رؤية فكرية إنسانية عميقة، تعيد تعريف مفهوم الوطن باعتباره حقًّا أخلاقيًّا وكيانًا روحيًّا.

«أبدأ الآنَ

غريبةً نائيةً... أتعلّمُ كيفَ أتشتّتُ

بعيداً عن الأماني القديمة»

الافتتاحية الفكرية تقوم على الوعي بالغربة، كمرحلة وعي، لا كعقوبة "أتعلّم التشتّت" = وعي بالاغتراب، أي تحويل الفقد إلى معرفة.

ثمّ تتصاعد الرؤية في مقطع آخر:

«أريدُ وطنًا

أوسعَ كثيرًا من مثلثِ الموتِ

وطنًا يفتحُ ذراعيه

للعائدين من الجِراح»

الفكرة المركزية هنا هي رفض الأوطان الضيّقة التي تُختصر في السلطة والموت، والدعوة إلى وطن أخلاقي شامل يتسع للجرحى والمنفيين والمقهورين.

يتجلّى الفكر الذرائعي في النص في قدرته على تحويل الانفعال إلى خطاب معرفي نقدي، حيث تطرح الشاعرة أسئلة وجودية حول جدوى الوطن إذا فقدَ معناه الإنساني.

وهي تعيد إنتاج المفهوم السياسي في قالب شعري أخلاقي:

«عُدْ مثلما كنتَ

 يا وطنَ التينِ والزيتونِ دوحةً للياسمينِ

 والزيزفونِ»

هذا النداء يعيد الوطن إلى رموزه الطبيعية الأولى: التين، الزيتون، الياسمين، كقواعد فكرية للسلام والخصب، في مقابل رموز الحرب (الموت، الظلام، المهاجرين).

 

·      المستوى الأخلاقي:

القيمة الأخلاقية الكبرى في النصّ تتمثّل في إصرار الذات على الأمل رغم الخيبة.

تقول الشاعرة:

«كفانا نصطدمُ في كل يومٍ بزوابعِ الدُّخانِ

بظلماتٍ تمنعُ العابرينَ إلى شروقِ الغد»

النداء الأخلاقي هنا لا يُوجَّه إلى سلطة، بل إلى الوعي الجمعي؛ إذ تنتقد "الاصطدام اليومي" كعادةٍ اجتماعية في الهروب من الفجر.

القيم التي يدافع عنها النصّ هي:

السلام والرحمة بدل العنف.

« ما لأطفالنا ؟ ممنوعين من الأحلام

لا يرسمون بالطباشير سوى أشكالٍ

بملامح الفاجعة وألوان الذبول»

الانتماء الواعي بدل الانتماء القسري.

« أودّ أن أغفوَ كأصحاب الكهف

عسى أن يهبط الفرح المفقود

من جديد... »

الحرية بوصفها مسؤولية لا فوضى.

وهذا يتجلى في الصيغة الوجدانية:

«أريد وطنًا... ينطق قبل الشعر باسم الألم المطرز بجثامين الشهداء»

الكتابة هنا لا تتغنّى بالبطولة، بل تؤنسن الألم وتحوّله إلى دليل حياة.

 

·      البنية الرمزية والفكرية:

الوطن = الرحم/الأم/الملاذ/الحلم المفقود.

مثلث الموت = الحرب / اللجوء / القهر السياسي.

العائدون من الجراح = جيل ما بعد الحرب.

التين والزيتون = رموز الطهر والخصوبة والانتماء الفلسطيني السوري.

هذه الرموز تعمل كجهاز معرفي داخل النصّ، وتمنحه بعدًا فكريًا يتجاوز الانفعال.

قصيدة «أريد وطنًا» تجمع بين الفكر النقيّ والوجدان العميق، وتقدّم نموذجًا للشعر الملتزم الذي لا يكتفي بالشكوى، بل وأيضًا يطرح بدائل أخلاقية.

هي ليست مرثية للوطن، وإنما إعلان ولادة جديدة له في وجدان الشاعرة — وطنٌ تكتبه أنثى، وتعيد له وجهه الإنساني.

خامسًا: العبور المستحيل المستوى النفسي والديناميكي

في «العُبور المستحيل»، تكتب فيروز مخول مرثيةً للمنفى والهوية الممزقة.

 نصّ وجوديّ عميق يصوّر الاغتراب في زمن اللجوء:

«احذر دموعك... أن تسرق منك جواز السفر»

تتجسد هنا مأساة المنفيّ الذي يخاف من نفسه، وتتحول الصرخة إلى وعي.

النصّ مزيج من تأملٍ ذاتيّ وصرخةٍ جماعية؛ فهو يعبّر عن معاناة اللاجئ، عن الإنسان الذي يُختزل في أوراقه، ويعيش بين حدود العالم وحدود نفسه.

تتّكئ القصيدة على الإيقاع الداخلي للجملة النثرية المتوتّرة، وتعتمد على المفارقة كطاقة شعرية: عبورٌ لا يُعبر، وحياةٌ معلّقة بين الممرات.

«ستبتلع الأرض ما يشبهك

فاحذر أن تكون ما يشبهك»

«وأنت ترمي بعُمر ليس بعُمرك»...

 

·      المستوى النفسي:

تُصوّر الشاعرة ذاتها بوصفها كائنًا مهدّدًا في كيانه الوجودي، تحيا حالة اغتراب داخلي مزدوج — عن المكان وعن الذات.

«وأنتَ تعبرُ خلفَ حدودِكَ

تَأكّدْ أنَّ المسافةَ ستخنقُكَ»

الجملة الأولى تضع القارئ مباشرة في مواجهة القلق الوجودي. "الحدود" ليست فقط سياسية بل نفسية: حدود الجسد، الذاكرة، والهوية.

ويبلغ هذا الاضطراب ذروته في مقطع آخر:

«احذرْ دموعَكَ

أن تسرقُ منكَ جوازَ السفرِ»

الدمع — وهو التعبير الطبيعي عن الألم — يصبح خطرًا، إذ يمكن أن "يسرق" وثيقة الهوية.

هذه الصورة تجسّد الخلل في التوازن النفسي: الانفعال الطبيعي مهدَّد بالعقاب، والإنسان يُرغَم على كبت ذاته كي يبقى موجودًا.

تسير القصيدة من الوعي بالخطر إلى وعيٍ أشدّ مرارة: أن الهروب نفسه مستحيل.

« لربّما أصبحتَ كقطعةِ ورقٍ

أو أشياءَ تُشبهُ اللاشيءَ...»

يظهر هنا تلاشي الأنا (Ego Dissolution) — إحدى أبرز مظاهر الاضطراب النفسي الناتج عن القهر والاقتلاع. هي محاولة لالتقاط الذات وهي تتآكل تحت ضغط الغياب، دون أن تفقد لغتها.

 

·      المستوى الديناميكي:

ديناميكيًا، ينتقل النصّ من الحركة إلى الصمت، ومن المقاومة إلى التسليم، دون أن يفقد نوره الداخلي.

إذ تعتمد القصيدة على انتقال متصاعد من الملاحظة إلى الانفجار الوجداني، ثم إلى الاستسلام الفلسفي.

1. البداية – التحذير والوعي بالخطر:

«وأنت تعبر خلف حدودك...»

حركة مادية تدل على قرار العبور، لكنها منذ البدء موسومة بالاستحالة.

2. الوسط – ذروة الانفعال:

«اصرُخْ

 سيقعُ وجهُكَ إن لم تصرُخْ / فاصرُخ»

هنا يتحوّل الكبت إلى فعل صرخة، لكنها صرخة وعي لا خلاص، إذ لا تنقذ، بل تكشف هشاشة الوجود.

3. النهاية – الانطفاء / التسليم:

«وحين َ تمضي...

تَرسمُ دمَك الكحليَّ

في آخر عبثٍ لكَ مع الأرضِ»

الحركة الأخيرة تتحول إلى رسم بالدم، أي عودة الجسد إلى التعبير حين تفشل اللغة.

الديناميكية هنا هبوطٌ مأساوي من الإرادة إلى الفناء، لكنها تبقى ضمن إيقاعٍ واعٍ؛ فالشاعرة تُبقي الأمل في "العابرين" الذين رغم استحالتهم، يواصلون المحاولة.

 

·      الرموز النفسية:

العبور: رمز البحث عن الذات / الولادة الثانية.

الحدود: رمز القيد الداخلي والخارجي (السياسي والنفسي).

جواز السفر: رمز الاعتراف بالوجود.

الدمع والدمّ: رمز التناوب بين البكاء والكفاح، بين الانكسار والمقاومة.

الأرض: الأم/الذاكرة، لكنها في النصّ متعبة، مريضة، غير حاضنة.

 

«العُبور المستحيل» نصّ يتجاوز الواقعة السياسية ليقدّم تشريحًا نفسيًا للمنفى.

التحوّل الديناميكي في النصّ — من الوعي إلى الصرخة إلى السكون — يكشف عن عمق التجربة الشعورية، حيث يصبح المستحيل أفقًا وجوديًا لا بدّ من عبوره رمزيًا.

فيروز مخول هنا تُعبّر عن جيلٍ عربيٍّ مهجّر، يكتب ذاته في الغياب ويُعرّف الوطن بأنه "عبور لا ينتهي".

 

سادسًا: بلا عنوان المستوى الإيحائي العميق

قصيدة «بلا عنوان» تُجسّد جوهر الوعي الوجودي في شعر فيروز مخول، فهي تتناول فكرة اللايقين والضياع، والبحث عن معنى في عالمٍ غابت فيه العلامات.

يصبح غياب العنوان نفسه موقفًا وجوديًا، فالنصّ يرفض التسميات المسبقة كما يرفض الانتماء القسري، ليُعلن أن الإنسان هو المعنى الوحيد الممكن في عالمٍ مبهم.

اللاعنوان هو الفلسفة: الإنسان بلا هوية محدّدة، يسعى للمعنى وسط العدم.

«وأنتَ يا حبيبي

غريب الصنع ... مبهم

روحٌ تتألّم

 لأنها عرفت الله محبة وجهك»

يتحوّل الحبّ إلى معرفة روحية، والضياع إلى طريقٍ نحو النور.

الرموز (الرصاصة، الطريق، الغريب، الوجه) تصوغ رؤية عرفانية للوجود في بنيةٍ مفتوحة على التأويل.

 

·      البنية الإيحائية العامة:

منذ العنوان، تضعنا الشاعرة في حقل دلالي مفتوح:

«بلا عنوان» = بلا انتماء، بلا يقين، بلا هوية محدّدة.

وفي مستهل النص تقول:

«رصاصةٌ بلهاءُ قَدَرٌ ضريرٌ

وأنا أمشي... لا دربَ لدربي

لا سقفَ يفرش ظلَّه كابوسَ الحنين»

الإيحاء هنا يتضاعف في كل كلمة:

الرصاصة البلهاء = العنف الأعمى الذي لا يملك وعيًا.

القدر الضرير = مصير بلا بصيرة.

كابوس الحنين = الماضي الذي أصبح عبئًا مؤلمًا.

ليست مشاهد خارجية، بل تمثيلات رمزية للفراغ الداخلي، حيث يسير الإنسان بلا عنوان نحو المجهول.

 

·      الإيحاءات النفسية والفلسفية:

النصّ يحيل على حالة قلقٍ وجوديٍّ عميقة:

«لا عينَ ترمقني... بحقدٍ أو حنان

لا كفَّ توقظني... تلقي التحية

لا ثغرَ يبتسمُ من الصميم لي»

هذه التكرارات الثلاثة («لا... لا... لا») ترسّخ الإحساس بالانفصال عن الآخر، وتؤكّد أن الذات الشاعرة تقف في مواجهة الفراغ الإنساني الشامل.

ومع ذلك، يظهر خيط نور دقيق في النهاية:

«وأنتَ يا حبيبي

غريبُ الصنع... مبهم

روحٌ تتألّمُ لأنّها عرفتْ اللهَ محبةَ وجهكَ...»

هذا المقطع هو نقطة التحوّل الإيحائي:

فمع أن النصّ بلا عنوان، إلّا أنّه يجد خلاصه في الحبّ كجوهرٍ روحيٍّ للوجود.

معرفة الله هنا ليست لاهوتية، بل عرفانية (gnosticism)، حيث تتجلّى الألوهية في وجه المحبوب، أي في المحبة الخالصة.

·      الرموز الإيحائية:

-        الرمز: الرصاصة

الإيحاء: العدم – قسوة القدر     

البعد الفلسفي: الموت بوصفه قَدَرًا بلا معنى

 

-        الرمز : الحنين

الإيحاء:   فقد الطفولة والبراءة

البعد الفلسفي: الرغبة في العودة إلى الأصل

 

-        الرمز: الطريق

          الإيحاء:  رحلة الوعي والضياع

البعد الفلسفي: السعي الأبدي للمعرفة

 

-        الرمز: الغريب  

الإيحاء: الذات الإنسانية المنفية                                     

البعد الفلسفي: الإنسان الباحث عن الله

 

-        الرمز: الوجه

الإيحاء: الحقيقة الإلهية في الإنسان      

البعد الفلسفي: وحدة الوجود / التوحيد بالمحبة                                                              

تعمل هذه الرموز معًا لتوليد فضاء تأملي إيحائي، حيث كل صورة تحمل ضدّها: الضوء والظل، الله والإنسان، الغياب والحضور.

 

·      التحليل الإيحائي البنائي:

يُبنى النصّ على ثلاث طبقات إيحائية متداخلة:

1. الطبقة الواقعية: السرد الشعري لمسيرة إنسان يسير في المنفى، غريبًا ووحيدًا.

2. الطبقة النفسية: الانفصال عن الآخرين، الإحساس بعدم الجدوى، الاغتراب العاطفي.

3. الطبقة الروحية: البحث عن الله/المحبوب كجوهر يبرّر الألم ويعيد للوجود معناه.

بهذا المعنى، تتحوّل «بلا عنوان» من نصّ عن الضياع إلى تجربة كشفٍ صوفيٍّ؛ فالمعاناة تصبح وسيلة للوصول إلى الوعي الأعلى.

 

«بلا عنوان» نصّ إشاريّ مفتوح، يعبّر عن المأزق الوجودي للإنسان المعاصر في وجه العدم.

إيحاؤه العميق يتجلّى في قدرته على تحويل الألم إلى معرفة، والضياع إلى سؤال فلسفيّ.

القصيدة بلا عنوان لأنها تقول ما لا يُقال، وتدع القارئ يكتب عنوانه الخاص على جدارها.

هي صدى لقول الشاعرة:

«روحٌ تتألّمُ لأنّها عرفت اللهَ محبّةَ وجهك.»

 

 

 

 

 

 

 

 

سابعًا: مشهد وداع المستوى النفسي والبصري

قصيدة «مشهد وداع» من أكثر نصوص الديوان شجنًا وعمقًا، تلتقط لحظة الفقد الكبرى بعيون أنثى تودّع طفولتها وأمها ووطنها في آن واحد.

المشهد هنا ليس حدثًا عابرًا، بل تجربة وعي مؤلمة: الوداع بوصفه حالة وجودية دائمة.

تتحول الصور إلى كائنات حيّة – البيت، الغيمة، الوردة، الغدير – كلها تشهد على غياب الحياة، فيتشكّل من ذلك منظر بصري نفسي يعكس انهيار الداخل.

لوحة سينمائية للفقد، تنقل المشهد البصري إلى عمق الذات:

«الوسادة سرقت ثياب العيد من تحت رأسي، وأذان الصبح يفتقد صوت أبي»

الطفلة الغارقة في البحر رمزٌ للأمل المفقود.

«والبحر يوشوش الأصداف عن طفلة غرقت

لتنقذ قاربها الورقي"

النصّ يصوّر الصدمة بالصمت لا بالبكاء ، فيتحوّل الحنين إلى مقاومةٍ داخلية ضد النسيان.

 

·      المستوى النفسي:

تواجه الشاعرة الصدمة والفقد عبر لغة هادئة متماسكة، لكنها مشحونة بالأسى الداخلي.

«أين أعودُ؟

الشكُّ ينهشُ اتّزانَ ما بقي لي من أمنيات»

هذا السؤال هو جوهر التجربة النفسية: ضياع الانتماء.

لم يعد هناك بيت أو وطن يمكن العودة إليه، لأن الداخل نفسه صار منفى.

يتجلّى هنا مفهوم "اللاعودة" النفسي الذي يصفه علم النفس الوجودي (Existential Psychology) بأنه إدراك الفرد لانقطاع الجذور بينه وبين ماضيه الآمن.

وفي مقطع سابق:

«ناداني صوتُ طفولتي: عودي

فكيف... والشمسُ لا تجرؤ أن ترسمَ ظلّي؟»

الطفولة تنادي، لكن الذات الراهنة لا تستجيب —هي مصالحة مع الفقد، ومعرفة أن الزمن لا يعود.

هي حالة نضجٍ عبر الألم: إدراك أن ما انتهى لا يُستعاد، وأن الذاكرة، لا الواقع، هي الوطن الوحيد الممكن.

كما أنّ الصور المتكررة (الأم، الأب، الطفلة، الغيمة، الظل) تمثّل رموز الأمان المفقود، في حين أن اللغة الهادئة تُخفي اضطرابًا داخليًا شديدًا — وهذا التباين هو جوهر التوازن النفسي في النص.

 

·      المستوى البصري:

النصّ قائم على تكوينات مشهدية دقيقة، تكاد تكون لوحات تصويرية متتالية، نقرأها كما لو كانت مشهدًا سينمائيًا للحزن.

«مسحتُ بصمتي عن أحلامكم وغادرت

آنَ للخريفِ أن يلمّ الشتاتَ ويبعثرَ الأماني»

تُفتتح القصيدة بحركة بصرية مزدوجة: المسح (المحو) ثم الخريف (التعرية). الصورة هنا تجسّد انطفاء لبصري للحياة.

ثم يتوالى المشهد:

«والبحرُ يوشوشُ الأصدافَ عن طفلةٍ غرقتْ لتُنقذَ قاربَها الورقي»

صورة من أكثر مقاطع الديوان جمالًا وبكاءً في آن.

الطفلة الغارقة التي تحاول إنقاذ قاربها الورقي هي صورة الوطن والمبدعة معًا — رمز التضحية الطفولية من أجل الأمل. الإيحاء البصري يتكثّف في مفارقة: الغرق/الإنقاذ، الماء/الورق، الطفلة/القارب، وهي كلها رموز تنتمي إلى قاموس فيروز مخول العاطفي.

وتتابع:

«الوسادة سرقت ثياب العيد من تحت رأسي

وأذان الصبح يفتقد صوت أبي»

مشهدان متقابلان في الإضاءة: الوسادة (ليل الحنين)، وأذان الصبح (فقد الأب/المرجعية).

القصيدة تُبنى على تناوب الضوء والظل، حيث يصبح الفجر مظلمًا والليل كاشفًا، في مفارقة بصرية-نفسية تمثّل جوهر الأسى.

 

·      البنية الرمزية:

 

-        الرمز:  الطفلة/ الذات الأولى،                                                                            

دلالته النفسية:البراءة المفقودة

دلالته البصرية: ظلّ خافت في ذاكرة الضوء

 

 

-        الرمز: الأم / الأب

دلالته النفسية: الأمان والحنان والمرجعية

دلالته البصرية: صور باهتة في خلفية المشهد

 

-        الرمز: الوسادة  الحلم                   

دلالته النفسية: / الفقد / الصمت                            

           دلالته البصرية: مساحة بيضاء خالية – فراغ بصري

-        الرمز: القارب الورقي

دلالته النفسية: الحلم الطفولي الهش

دلالته البصرية: لون أبيض وسط الماء الغامق

 

-        الرمز: الخريف

دلالته النفسية: مرحلة التحول والانطفاء                                  

          دلالته البصرية: لوحة من ألوان داكنة وذهبية

                                              

·      التحليل الفني:

القصيدة تنتمي إلى ما يُعرف بـ الشعر المشهدي، حيث يُبنى النص على تقنية اللقطة السينمائية، ويتوالى سرد الصور كما في فيلم صامت.

المشهد الأخير – «من دموع» – هو اللقطة الختامية التي تجمّد الصورة وتتركها مفتوحة على الاحتمال.

هذا التكوين البصري يخدم الغرض النفسي تمامًا: تجميد اللحظة الحزينة حتى لا تموت.

«هذي صرّتي سأحشوها

بما تبقى معي من ذكريات ولهفة وأوجاع

وبما توجب عليكم في مشهد الوداع ..

من دموع. »

 

«مشهد وداع» نصّ شعري يتجاوز الرثاء الشخصي إلى تجربة جمالية في تصوير الفقد.

توظّف فيروز مخول الحواس الخمس لتصنع مشهدًا يختصر الوطن والطفولة والأم في لقطة واحدة.

القصيدة تُعبّر عن الحنين بوصفه شكلًا من المقاومة، وعن الوداع بوصفه بقاءً في الذاكرة.

تغلق النصّ على صمت بصري يساوي الحياة نفسها —ذلك الصمت الذي يقول كلّ شيء حين تعجز اللغة عن الكلام.

 

التجربة الإبداعية:

      تجربة الشاعرة فيروز مخول في ديوانها «المرأة التي أسكنها» تجربة أنثوية ناضجة تتجاوز حدود البوح الشخصي إلى فضاء الفكر والوعي الجمالي.

الشاعرة ليست صوتًا وجدانيًا فحسب، بل كاتبة تمتلك مشروعًا لغويًا وفكريًا متكاملًا، يعتمد على التحوّل الدلالي للنصّ من التجربة الذاتية إلى التجربة الإنسانية العامة.

يتّضح من مجمل نصوصها أنها تنتمي إلى جيل ما بعد الحرب والاغتراب، أي الجيل الذي حمل ذاكرة الدمار والمنفى وحوّلها إلى طاقة رمزية خلاقة.

فهي تكتب من رحم الألم، لا لتوثّق المأساة، بل لتعيد بناء العالم من جديد عبر القصيدة.

تشتغل لغويًا على الجملة الشعرية القصيرة ذات الإيقاع الداخلي المتموّج، الذي يشبه نبض القلب أكثر من موسيقى الوزن، مما يمنح نصوصها حركة داخلية تتنفس من الوجدان.

أما على المستوى الفكري، فإن تجربة فيروز مخول تعبّر عن أنوثة واعية بذاتها وبخطابها، إذ لا تسجن المرأة في حدود الجسد، بل تمنحها بعدًا رمزيًا كونيًا يتقاطع مع قيم الحرية والكرامة والمعرفة.

تتأسّس هذه التجربة على التوتر الخلّاق بين الانكسار والتجلّي، وبين الانفعال الوجداني والتحليل العقلي، في توازنٍ يشكّل جوهر الذرائعية الشعرية ذاتها.

لقد استطاعت الشاعرة، من خلال هذا الديوان، أن تحقّق تصالحًا نادرًا بين الجمال والأخلاق، بين الذات الفردية والهمّ الجمعي، وأن تكتب أنوثتها بلغةٍ لا تستعير صوت الرجل، بل تخلق صوتها الخاص الذي يُصغي إلى ذاته ولا يخشاها.

وهذا ما يجعل من «المرأة التي أسكنها» عملًا فنيًا ناضجًا يرسّخ حضور الشاعرة في المشهد الأدبي العربي، ضمن تيار الشعر النسوي المعاصر الذي يسعى إلى تحرير القصيدة من السطحية إلى الوعي، ومن الانفعال إلى الرؤية. ولذلك، تُعدّ فيروز مخول من الأصوات الشعرية النسوية التي تزاوج بين البوح الصادق والرؤية التأملية. توازن في كتابتها بين الشعر والتشكيل، بين الحلم والحقيقة، ما يجعلها من أبرز الأصوات التي تُعيد للأنوثة حضورها الفكري والأخلاقي في الشعر العربي المعاصر.

هي شاعرة تتكلّم من جرحها، لكنها تجعل منه نافذةً على الجمال والكرامة والحرية.

في الختام:

     بعد دراسة النصوص المختارة وفق مستوياتها الذرائعية، يمكن القول إن ديوان «المرأة التي أسكنها» يقدّم مشروعًا شعريًا نثريًا متكاملًا يجمع بين التشكيل الجمالي والرؤية الأخلاقية الوجودية.

فقد نجحت فيروز مخول في أن تحوّل القصيدة إلى وثيقة إنسانية للأنوثة المعاصرة، إذ تتحدّث المرأة هنا لا عن الحبّ وحده، بل عن الحرية، عن الوطن، عن الاغتراب، وعن المقاومة بلغةٍ تتجاوز الأنوثة الجسدية إلى أنوثة الفكر والروح.

تكشف القراءة الذرائعية عن وحدة عضوية بين المستويات اللغوية والنفسية والأخلاقية؛ فكل قصيدة تبدأ من الذات وتنتهي إلى الإنسان، وكل وجع يتحوّل إلى فعل جماليٍّ واعٍ.

تظهر الشاعرة بوصفها المرأة الكاتبة التي تصوغ ميثاقًا جديدًا بين اللغة والهوية، بين الصوت الأنثوي والذاكرة الجمعية، بين التمرّد والحنين.

إن «المرأة التي أسكنها» ليست أنثى واحدة، بل أطياف نساءٍ كثيرات: عاشقة، أمّ، مهاجرة، شاعرة، ووطنٌ من الكلمات.

وبذلك يحقّق النصّ ذرائعيًا أسمى أهدافه: إنتاج الجمال بوصفه فعلًا أخلاقيًا، وتحويل الوجع الإنساني إلى معرفة وحكمة.

هي كتابة تُعلن أن الشعر ليس هروبًا من الواقع، بل شكلٌ سامٍ من فهمه.

 

                    #دعبيرخالديحيي                       الاسكندرية – مصر                    16 أكتوبر 2025

 

 

 

 

 

المراجع

 

1.    الغالبي، عبد الرزاق عودة، ويحيى، عبير خالد. (2017). الذرائعية في التطبيق (آلية نقدية عربية). القاهرة: دار شعلة الإبداع.

2.    الغالبي، عبد الرزاق عودة، ويحيى، عبير خالد. (2019). الذرائعية وسيادة الأجناس الأدبية. طنطا: دار النابغة للنشر والتوزيع.

3.    الغالبي، عبد الرزاق عودة، ويحيى، عبير خالد. (2019). الذرائعية بين المفهوم الفلسفي واللغوي. طنطا: دار النابغة للنشر والتوزيع.

4.    يحيى، عبير خالد. (2020). قصيدة النثر العربية المعاصرة بمنظور ذرائعي. القاهرة: دار الحكمة للنشر والتوزيع.

5.    يحيى، عبير خالد. (2022). الأدب النسوي العربي المعاصر بمنظور ذرائعي. القاهرة: دار المفكر العربي.

6.    بارت، رولان. (2014). لذة النص. ترجمة:د. منذر عيّاشي . دار  نينوى للدراسات والنشر والتوزيع.

7.    كريستيفا، جوليا. (1992). ثورة اللغة الشعرية. ترجمة: فريد الزاهي. الدار البيضاء: أفريقيا الشرق.

8.    عبد العزيز، رجاء. (2017). الكتابة النسوية في الشعر العربي المعاصر. القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة.

9.    مخول، فيروز. (2025). المرأة التي أسكنها. القاهرة: المصرية المغربية للنشر والتوزيع.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سرد الاغتراب والبحث عن المعنى قراءة ذرائعية في رواية ( منروفيا ) للكاتب المصري أحمد فريد مرسي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

إشهار كتاب النزعة الصوفية والنزعة التأملية في شعر الأديب السوري منذر يحيى عيسى

أدب الرحلات المعاصرة: سفر في الجغرافيا والذات دراسة ذرائعية مستقطعة على كتاب (نيويورك في عيون زائرة عربية) للكاتبة اللبنانية هناء غمراوي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي