جماليات النص المفتوح : قراءة ذرائعية في رمزية الطبيعة وهشاشة الوجود في مجموعة / على رؤوس الأصابع/ للكاتبة السورية هانية خانكان بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي
يمثّل كتاب /على رؤوس
الأصابع/ للكاتبة هانية خانكان تجربة جمالية معاصرة تنتمي إلى جنس النص المفتوح،
وهو جنس بيني يزاوج بين السرد الشعوري وقصيدة النثر والقصة القصيرة والقصة الومضة.
النصوص هنا تقوم على الكثافة والاختزال
والرمزية، مع حضور واضح للذات الأنثوية في مواجهة الغياب والزمن والمنفى. إنّها
نصوص تؤسس لرؤية وجودية قلقة، تضع القارئ في قلب التجربة، وتدعوه للتفاعل مع شذرات
شعرية–سردية تنبني على الصور والرموز أكثر من الحبكة التقليدية.
البؤرة الفكرية: تتمحور حول
الهشاشة الوجودية والبحث عن معنى وسط الغياب والمنفى:
"بضع وريقات كانت... لكنها عقارب ساعته، ومؤقّت رحيله" (ص.
11) ترمز لانهيار الزمن أمام لحظة الفقد.
"الوقت خريف... مقبل على شتاء سيجتاح الخيام المبعثرة كأوراق
الخريف تحتضن في العراء لاجئين سوريين، .... سوريون منفيون" (ص. 88) تكثيف
لفكرة الزمن كقوة ساحقة.
الخلفية الأخلاقية: النصوص تستند
إلى خلفية أخلاقية إنسانية واضحة:
قيمة التسامح: "لمن ظلم
سماح، لمن ظلمَ سماح، للهجر سماح،...تنهمر من عيني دمعةُ سماح" (ص. 59).
نقد القسوة والبرود العاطفي:
"ستتفتّح رغم صقيع قلبه وجمود عاطفته" (ص. 22).
استعادة الذاكرة والحنين للوطن: "في الوقت
الذي تلتهم فيه الحرب المجنونة كل شيء حتى الذاكرة، أشأنني كُّ فقدت شيئًا من
ذاكرتي مذ خرجت من وطني...." (ص. 50).
عنوان المجموعة
العنوان "على رؤوس الأصابع" يشي
مباشرة بالهشاشة والتوازن الدقيق. فهو يحيل إلى الحركة الخفيفة التي تتطلب يقظة
وانتباهًا مستمرين، وكأنه يشير إلى أن الحياة بأكملها في النصوص تُعاش على حافة
الانكسار أو الانسحاب.
العنوان يتناص مع الطبيعة في صورته الجسدية:
الجسد هنا يشبه الشجرة أو الزهرة التي تخاف أن تطأ الأرض كاملة، فتظل معلّقة بين
الثبات والفراغ.
كما يحمل دلالة الحذر من الواقع الصلب،
والالتجاء إلى فضاء رمزي هشّ، شبيه بالهواء أو الماء أو الغيمة.
النص الذي يحمل العنوان (ص. 25–26)
النص يقول:
"كراقصاتِ الباليه كنتُ دائمًا أتقدّمُ على رؤوسِ أصابعي،
وأعيش الأشياء كلها على رؤوس الأصابع... أستقبل الفرح على رؤوس أصابعي فلا أعيشهُ
كاملًا..."
دلالاته:
الطبيعة هنا تحضر في صورة الأرض التي تُخشى
ملامستها، مقابل الهواء الذي يُعاش فيه على حذر.
النص يوحي بأن الذات الساردة تعيش بعلاقة متوترة
مع المكان: الأرض صلبة، بينما الأصابع وسيلة للتخفيف من وطأة الثقل.
في المستوى الرمزي، الأصابع أشجار صغيرة، والجسد
جذع يتوازن عليها، ما يربط النص بصورة الطبيعة الداخلية (الجسد) بالطبيعة الخارجية
(الأرض/الفضاء).
العنوان "على رؤوس الأصابع" يتماهى مع
ثيمة الطبيعة عبر صورة التوازن الهشّ، حيث تُعاش الحياة بين الأرض/الصلابة
والهواء/الهشاشة.
النص الذي يحمل العنوان يختصر البؤرة الفكرية
للمجموعة: الذات تعيش بحذر شديد، كزهرة أو غيمة، على حافة السقوط. المجموعة كلها
تعتمد على استدعاء عناصر الطبيعة (الفصول، البحر، الغيم، الزهور) باعتبارها مرايا
للذات الإنسانية، ومجالاً لتصعيد رمزية الغياب والمنفى والبحث عن معنى.
مستويات الدراسة
الذرائعية :
1-
المستوى البصري:
البنية البصرية مشبعة بالمشاهد التصويرية:
"ورقة سقطت في يدها؛ أطبقت عليها بسرعة" (ص. 11) –
صورة فوتوغرافية للفقد.
"كرجلٍ أربعينيّ، يدخل تشرينُ حياة السنة" (ص. 61) –
تشخيص بصري للشهر.
"ذلك الشيخ المسنّ ذو الوقار والبياض..يحرّك عصاه الكريستالية
المكسوّة بالجليد" (ص. 64) – مشهد تشكيلي يختزل الشتاء في هيئة عجوز.
"والورق الأصفر المبعثر على أرصفة الطرقات، ينعكس لونه الباهتُ
على قرص الشمس" (ص. 88) – لوحة لونية ترسم الزمن كخريف.
تظهر الطبيعة هنا كلوحات تشكيلية صغيرة، تختصر
حالات نفسية عميقة.
المستوى الديناميكي:
النصوص توظف تقنيات سردية متعددة:
-
المشهد الومضي:
"أنا مقيّد..." (ص. 27) – نص قصير يختزل شعور العجز.
-
المونولوج
الداخلي: "أبحث عني بين سطورِكِ" (ص. 83) – خطاب الذات لنفسها عبر
وسيط النص.
-
الحوار
المقتضب:
"- أما زالت تأتي إلى
هنا؟
– كلا يا سيدي،
غادرت منذ مدة طويلة
-متى ذلك؟
-بعد رحيلك
بزمن طويل أيضَا.
- إلى أين؟
- إلى ناحية
مجهولة.
- وألوانها؟
وكل تلك الفوضى الفريبة التي كانت تحيط بها نفسها بها؟
- أخذتها معها
يا سيدي. " (ص. 39) – مقطع حواري مكثف.
-
التشخيص: "البحر
ينطق بلغة خاصة بساكنيه" (ص. 43) – الطبيعة تتحول إلى كائن ناطق.
تقوم
الديناميكية على التكثيف والاختزال، بحيث تترك النصوص فراغًا واسعًا لتأويل
القارئ.
المستوى اللغوي والجمالي
-
اللغة تتأسس
على الاستعارة الكثيفة: "العمر حرامي" (ص. 63)، "أرض
لا إشراقة لحياديتها اللونية" (ص. 53).
-
بنية التكرار: "أنا
مقيّد... أنا مقيّد" (ص. 27) تضخيم للإيقاع النفسي.
-
الإيقاع
الداخلي قائم على التوازي: "أحبكِ ولكن... لستُ أحبكِ" (ص.
28).
-
الصور الحسية
حاضرة بقوة: "خبّأتُ شعري من المطر" (ص. 57).
اللغة تمزج بين
الجملة الشعرية واللوحة السردية المقتضبة.
المستوى الرمزي–الطبيعي
يُشكّل حضور الطبيعة في مجموعة على رؤوس الأصابع
لهانية خانكان الركيزة الأهم في بنيتها الرمزية، إذ تتحوّل عناصر الطبيعة إلى
مرايا للذات ومجازات للوجود الإنساني المأزوم. فالنصوص لا تتعامل مع الطبيعة
بوصفها محيطًا خارجياً محايداً، بل باعتبارها لغة بديلة للبوح ومجالاً لإسقاط
الانفعالات الداخلية.
1. الفصول والزمن
الخريف: رمز الفقد والانطفاء، كما في:
"الوقت خريف" (ص. 88)، حيث يُختزل الزمن في حالة انكسار متكرّرة.
الشتاء: يمثل الوحدة والذاكرة الباردة
("ديسمبر وأنا"، ص. 62 – "صحائف الشتاء"، ص. 56–57).
الربيع: لا يأتي إلا كأمل مؤجل ("أزهاره
هو وحده"، ص. 23).
هنا يصبح الزمن نفسه شخصية رمزية تتقاطع مع حالات الذات: الفقد/الخريف، الوحدة/الشتاء، الأمل/الربيع.
2. الأشجار والزهور
"زهرة الظل" (ص. 33) تعيش بأنصاف الأشياء، لترمز إلى
وجود منقوص.
"له وحده تتفتّح الأزهار" (ص. 21–23) تؤكد أن العطاء
مشروط بمن يستحقه، في انعكاس رمزي للحب والعاطفة.
"الياسمينة الدمشقية" (ص. 82) تمثّل دمشق بوصفها
رمزاً للجذر والذاكرة.
الأزهار هنا استعارة للمرأة والوطن والوفاء، لكنها مهددة دوماً بالذبول أو الانكسار.
3. الماء والبحر والمطر
"البحر ينطق بلغة خاصة بساكنيه" (ص. 43) يحيل إلى
الأسرار الجمعية والذاكرة.
"خبأت شعري من المطر" (ص. 57) يجعل المطر رمزاً للحزن
والحميمية في آن.
"المحارة واللؤلؤة" (ص. 42) تكثيف للحقيقة المكنونة التي
تُسلب.
الماء والبحر والمطر رموز للتطهير
والفقد والذاكرة الجمعية التي تعجز عن الاحتفاظ بكل أسرارها.
4. الغيم والسماء
"لستِ غيمة" (ص. 46) تجعل الغيمة رمزاً للعاطفة العابرة
والزوال.
"غيمة أرضية" (ص. 47) مفارقة تجمع بين الهشاشة والارتباط
بالأرض.
"غيمة أم قمر؟" (ص. 58) تعكس جدلية العابر/الثابت،
المؤقت/الدائم.
الغيم والسماء يرمزان إلى الهشاشة والتحوّل والزوال، مقابل القمر بوصفه رمز الديمومة والخلود.
5. الأصابع والرقصة
"على رؤوس الأصابع" (ص. 25–26) عنوان المجموعة ونصها
المركزي، حيث يتحول الجسد إلى استعارة للتوازن الهشّ.
"الرقصة المتردّدة" (ص. 54–55) تعكس قرارات غير مكتملة،
وخطوات تعود إلى الوراء.
هنا يصبح الجسد امتداداً للطبيعة: الأصابع أشجار صغيرة، والرقصة أشبه بارتجاف غصن في
مهبّ الريح.
خلاصة المستوى الرمزي–الطبيعي
الخريف = الفقد (ص. 88).
الشتاء = الوحدة/الذاكرة الباردة (ص. 62).
الربيع = الأمل المؤجل (ص. 23).
-
الأزهار:
زهرة الظل = وجود ناقص (ص. 33).
الياسمينة الدمشقية = الهوية والذاكرة (ص. 82)
-
الماء/البحر/المطر:
البحر = أسرار وذاكرة (ص. 43).
المطر = الحزن/الحميمية (ص. 57).
اللؤلؤة = الحقيقة المسلوبة (ص. 42).
-
الغيم/السماء:
الغيمة = الهشاشة والعابر (ص. 46–47).
القمر = الثبات/الخلود (ص. 58).
-
الأصابع/الرقصة:
رؤوس الأصابع = الحذر والتوازن الهشّ (ص.
25–26).
الرقصة المترددة = التردّد والانكسار (ص.
54–55).
بهذا يتحول النص إلى طبيعة رمزية، حيث كل عنصر
طبيعي يعكس شظية من الوجود الإنساني: الذات الأنثوية الهشّة، الذاكرة المنفية،
العاطفة المهددة بالزوال، والبحث الدائم عن توازن مستحيل.
المستوى النفسي
قلق المنفى: "مذُ
خرجتُ من وطني وحدثَ أن وقفتُ عاجزة أمام لوحة كنت أرغبُ بتفريغ ذاكرتي عليها"
(ص. 50).
التناقض الشعوري: "أحبكِ أم
أكرهكِ" (ص. 75).
التناقض السلوكي:" أمدحك
أم أذمُّكِ، أرضى عنكِ أم أغضبُ منكِ" ( ص. 75)
مدخل التقمص: القارئ يعيش التجربة كما في نص"بين
حقيقة وسراب أبحثُ عنّي" (ص. 83).
مدخل التساؤلات: النصوص مفتوحة على أسئلة
وجودية: "شجاعة أنتِ أم جبانة؟" (ص. 77).
مدخل التناص:
-
مع الأساطير كما
في نص فينوس (ص. 41). " تقفُ فينوس بلا حراك، ... تفكر... ماذا
لو أن الحياة احتضنتْها ومنحتْها ذراعَين"
-
والحكايات العالمية كما في نص حذاء سندريلا (ص.
52)." لعل الوطن يتواطأ معي فيتحوّل لأمير يبحث عني ليَستردّني
ويُلبسُني فردة حذائي..."
-
التناص مع
أحلام مستغانمي: ويظهر ذلك من خلال:
1. ثيمة الغياب والفقد
عند خانكان:
"بضع وريقات كانت... لكنها عقارب ساعته، ومؤقّت رحيله"
(ص. 11) – الغياب هنا مؤطر كزمن يتساقط.
عند مستغانمي (في ذاكرة الجسد): تصوغ الغياب عبر
استعارات الزمن والجسد: "غيابك علّمني كيف ينام الجسد نصفه بجانبك
والنصف الآخر في العدم."
كلاهما يربط الغياب بالزمن كخسارة مستمرة، لكن خانكان تختزلها في
صورة بصرية (الورقة/العقارب)، بينما مستغانمي تلبسها لغة الجسد.
2. المرأة/الزهرة كرمز هشّ
عند خانكان:
"ستتفتّح رغم صقيع قلبه وجمود عاطفته" (ص. 22) –
المرأة زهرة تصارع البرود.
عند مستغانمي: الزهرة رمز يتكرر في فوضى الحواس:
"أخاف أن أذبل كما تذبل الزهور إذا طال انتظارها للمطر."
التناص يظهر في الرمز المشترك: الزهرة = المرأة = الهشاشة/المقاومة، مع اختلاف التوظيف (خانكان
تضعها في مواجهة الرجل، مستغانمي تضعها في مواجهة الزمن).
3. الماء/المطر/البحر
عند خانكان:
"البحر ينطق بلغة خاصة بساكنيه" (ص. 43)، و "خبّأتُ شعري من
المطر" (ص. 57).
عند مستغانمي: "أخاف
البحر لأنّه يذكرني بغيابك، وأخاف غيابك لأنّه يشبه البحر." (ذاكرة
الجسد).
كلاهما يحوّل البحر والمطر إلى استعارات كبرى للذاكرة والفقد، لكن خانكان تمنحه بعدًا تشخيصيًا (البحر ككائن حي)، بينما مستغانمي تجعل منه مرآة للغياب العاطفي.
4. الحب/التناقض الشعوري
عند خانكان:
"أحبّك أم أكرهك" (ص. 75).
عند مستغانمي: "أحبك إلى
حدّ الجنون وأكرهك إلى حدّ الرغبة في قتلك." (ذاكرة الجسد).
كلا النصّين ينحت البارادوكس العاطفي (الحب/الكراهية) كحقيقة إنسانية، مع فروق في الأسلوب: خانكان بالاختزال الشذري، مستغانمي بالتصعيد الانفعالي.
5. الذاكرة/الكتابة كإنقاذ
عند خانكان:
"أشكّ أنني فقدت شيئًا من ذاكرتي مذ خرجت من وطني" (ص.
50).
"أبحث عني بين سطورك" (ص. 83).
عند مستغانمي: "نكتب لنستعيد ما سُرق منا،
لنستعيد الذاكرة قبل أن تُمحى تمامًا."
التناص جلي في اعتبار الكتابة وسيلة لمقاومة النسيان
والغياب، لكن خانكان تربطه بالمنفى، فيما مستغانمي تربطه بالحب/الوطن.
إذن، التناص بين خانكان ومستغانمي ليس تناصًا
نصيًا مباشرًا، بل تناص موضوعاتي ورمزي.
المشتركات: الغياب، الزهرة، المطر/البحر،
الحب–الكراهية، الذاكرة.
الاختلافات:
-
مستغانمي تميل إلى
السرد الروائي الطويل والانفعال العاطفي.
-
خانكان تكتب
نصوصًا مفتوحة قصيرة، تعتمد على الصورة المكثّفة والومضة الشعرية.
وبذلك يمكن القول إن خانكان تُحاور مستغانمي على
مستوى الرمز والموضوع، لكنها تبتكر أسلوبًا خاصًا يقوم على الاختزال الشذري واللغة
البصرية، في حين أن مستغانمي تشيّد نصّها على الفيض العاطفي والذاكرة السردية
الممتدة.
النصوص تكشف هشاشة الداخل النفسي الذي يتأرجح
بين الحب والخوف، الأمل واليأس.
التجربة الإبداعية
-
تقوم على
الكتابة على التخوم بين السردي والشعري.
-
تُبرز الذاتية
الأنثوية من خلال استعادة الأم والذاكرة والوطن والحب كعناصر حميمية (ص. 5–6، 59).
-
تعتمد على
البنية الشذرية والومضات: النصوص كقصاصات متجاورة مفتوحة للتأويل.
-
التجريب
الجمالي: استخدام عناصر الطبيعة كأدوات رمزية لإعادة صياغة المعنى.
-
تتميّزأيضًا بـ
تجريب واعٍ يتقصّد كسر حدود الأجناس الأدبية التقليدية.
بالختام:
تقدّم مجموعة على رؤوس الأصابع تجربة أدبية
معاصرة تُبرز قوة النص المفتوح كجنس بيني قادر على احتضان القلق الإنساني.
تشكّل الطبيعة فيها بنية رمزية أساسية، تجعل من
الخريف رمزًا للفقد، ومن الغيمة استعارة للهشاشة، ومن البحر مرآة للذاكرة.
القراءة الذرائعية تكشف أن البؤرة الفكرية
للنصوص هي المعنى المهدّد بالغياب، وأن خانكان تبتكر لغتها الخاصة عبر التكثيف
الشذري والرمزية الطبيعية، لتضع بصمتها في سياق الأدب النسوي–الوجودي العربي
المعاصر.
#دعبيرخالديحيي الإسكندرية – مصر 7 أكتوبر 2025
تعليقات
إرسال تعليق