بين الولادة والغياب قراءة ذرائعية في قصيدة / أجنحة الظّلّ/ للشاعرة السورية سناء مرعي بقلم الناقدة الدكتورة عبير خالد يحيي

 



 

      تأتي قصيدة «أجنحة الظل» في سياق الكتابة الوجدانية التي تجمع بين الشفافية اللغوية والعمق الرمزي، لتجعل من الحرف كائنًا حيًّا يتخلّق من رحم الشعور، ويعيش بين الضوء والظلّ في تجربة وجدانية تتجاوز حدود الغياب. تمثّل القصيدة نموذجًا للشعر التأمّلي الذي يوظّف الصورة كأداة معرفية ونفسية، حيث يتجلّى الحبيب بوصفه مركزًا للوجود، والكتابة وسيلة ولادةٍ رمزيةٍ للحضور داخل الغياب.

 

البؤرة الفكرية:

جدلية الحضور والغياب في التجربة الوجدانية، وتجسيد فعل الكتابة بوصفه ولادة روحية تقاوم الفناء.

القصيدة تنبني على فكرة أن الحبّ لا يُمحى بالغياب، بل يتحوّل إلى طاقة ضوءٍ تسكن الكلمات، فيصير الحرف امتدادًا للكائن، والكتابة استمرارًا للحياة رغم الفقد.

كل حرفٍ أكتبه لك

ينسلّ من قلبي كجنينٍ سريّ

يتنفس من صمتنا المهيب

يولد من شوقٍ لا يعرفه سواك

الحرف هنا فعل ولادة، يحمل بعدًا ميتافيزيقيًا يؤكّد أن الإبداع ينبع من رحم الوجدان الموجوع.

 

الخلفية الأخلاقية:

تقوم القصيدة على خلفية إنسانية قائمة على الإخلاص والوفاء للحبّ، واحترام التجربة الوجدانية بوصفها التزامًا روحيًا لا يخضع للزمن أو للمكان. يبرز فيها السمو العاطفي مقابل السقوط المادي، والصدق الشعوري في مواجهة العدم.

كل حرف أكتبه لك

أبجدية لا يعرف سرَّها سوانا

يحرسها قمرٌ يتهجئ اسمي

ويرسم على وجه الصباح ملامحك

تؤكّد الشاعرة هنا قداسة العلاقة واتحادها بالنور والسرّ، في استحضارٍ أخلاقي يوازن بين الصمت والصدق.

 

·      المستوى اللغوي والجمالي:

لغة القصيدة ناعمة الإيقاع، تتّكئ على الاستعارة والرمز أكثر من البيان المباشر. تُستثمر مفردات الطبيعة (الليل، القمر، الصباح، الندى، الضوء، الغياب) لبناء شبكة رمزية تشي بعالم داخلي مشحون بالحنين والصفاء.

تكرار عبارة «كل حرف أكتبه لك» يمنح القصيدة إيقاعًا تكراريًا تأمّليًا يشبه تراتيل الولادة.

استعمال الجمل الفعلية («ينسلّ»، «يتنفس»، «يولد»، «يبحر»، «يهمس») يضفي حركية على النصّ رغم سكون الحزن.

يخطّ اسمك على جدار الليل

تتفتّح فيه أزهارُ صبري

يغزل من نورك سرَّه

اللغة هنا ليست وصفًا هي فعل خلق، تُحوِّل العاطفة إلى مشهد بصري حيّ.

·      المستوى البصري والرمزي

تتحرّك القصيدة ضمن مشهد بصريٍّ متكامل تتقاطع فيه: العتمة والنور، الغياب والحضور، الولادة والانتظار.

وتُبنى الصورة الشعرية على حسّ تشكيليٍّ قريب من لوحةٍ متدرّجة الضوء، حيث يكون القلب رحمًا، والحرف جنينًا، والنور دلالة على الوعي العاطفي.

 

-       رمزية الظلّ

الظلّ في القصيدة ليس نقيض النور، بل مساحة الحماية والاحتضان التي تنمو فيها الكلمة:

يكبر في الظلّ بين أنفاسي

فالظلّ هنا رحمٌ داخليّ يحتضن الولادة، وليس غيابًا مطلقًا.

هو فضاء الذاكرة، والمكان الذي تنضج فيه المشاعر قبل أن تخرج إلى العلن.

إنه الظلّ الإبداعي الذي تتكوّن فيه القصيدة قبل أن ترى النور، أي ما يسمّيه النقد الذرائعي "مرحلة التكوّن الوجداني للمعنى".

 

-       رمزية النور

في المقابل، يرمز النور إلى الانكشاف، والإفصاح، والوعي بالحبّ:

تتفتح فيه أزهارُ صبري

تتناثر كخيوط الضوء في الندى

في كلّ وجود يغزل من نورك سرَّه

هو النور الذي يولد من الألم، ويعبّر عن التحوّل من الانفعال إلى الفعل، أي من الشعور السلبي إلى الإشراق الإبداعي.

النور في القصيدة ليس خارجًا عن الذات، هو ينبع منها، من الحرف الذي يسطع رغم العتمة.

 

-       رمزية الحرف والكتابة

الحرف في النصّ كائن حيّ:

كل حرفٍ أكتبه لك

ينسلّ من قلبي كجنينٍ سريّ

الحرف والكتابة كائن بين الوجودين، بين الداخل والخارج، بين الحياة والموت.

تلك الرمزية تُحيل إلى مفهوم "الكتابة كخلاص" الذي تتبنّاه الذرائعية في المستوى التداولي،  فالنصّ هنا فعل نجاةٍ من الصمت، وممارسةُ ولادةٍ متكرّرة للحياة عبر اللغة.

 

-       رمزية الغياب

أما الغياب فيظهر كعنصر محايد يجمع بين النقيضين:

وفي عمق الغياب

ينبت بين أصابعي ضوء انتظارك

الغياب هنا ليس موتًا وإنمّا تربة الوجود التي تنبت فيها أزهار الصبر.

فمن وجهة النظر الذرائعية، يتحوّل الغياب إلى مولّدٍ للمعنى، أي إلى محفّز للوعي اللغوي والعاطفي معًا.

 

-       التكوين البصري العام للقصيدة

إذا تخيّلنا النصّ كلوحة، لوجدنا ثلاث طبقات بصرية متعاقبة:

الطبقة الأولى :

العنصر البصري: ظلّ القلب

الدلالة الرمزية:  رحم الحرف والجنين الإبداعي

الطبقة الثانية:

العنصر البصري : ضوء القمر والصباح

الدلالة الرمزية:  انبعاث المعنى والحضور الوجداني

الطبقة الثالثة:

العنصر البصري: ضوء الندى والانتظار

الدلالة الرمزية: استمرار الحبّ في الغياب وتجدّد الحياة

الانتقال من الظلّ إلى الضوء يشبه حركة الفرشاة من الرمادي إلى الأبيض في لوحة حزنٍ مضيئة.

هي قصيدة تُرسم كما تُكتب، بلغة الضوء والسكينة.

 

لوحة بصرية ختامية: «ميلاد الحرف من رحم الغياب

في فضاءٍ رماديٍّ رقيق، تتدلّى خيوط ضوءٍ شفيفةٍ من أعلى اللوحة، تسقط على قلبٍ نابضٍ نصفه في العتمة ونصفه في النور. من القلب تنساب حروفٌ بيضاء صغيرة، كلّ حرفٍ له جناح، يحلّق ببطءٍ نحو الأعلى، يمرّ عبر غيمةٍ من صمتٍ ناعم، ثمّ يستقرّ على صفحة سماءٍ بلون الفجر. خلف تلك الحروف، ظلّ امرأةٍ تمسك بريشةٍ من ضوء، تكتب بها على الجدار:

وأنا أحيا في كل ما تركه غيابك.

تتوهّج اللوحة في النهاية، فلا يُرى إلا الحرف الطائر والظلّ الذي صار جناحًا.

هكذا أتخيّل هذه القصيدة فيما لوأتيح لي أن أرسمها لوحة وألوانًا.

 

·      المستوى الديناميكي (البنية الإيقاعية والسردية):

تتحرّك القصيدة من الداخل إلى الخارج؛ من قلبٍ يكتب في الخفاء إلى كيانٍ يواجه الغياب بنور الكلمة.

يُشكّل البناء ثلاث حركات متصاعدة:

1.    حركة الولادة:

ينسلّ من قلبي كجنينٍ سريّ

تمثّل الانبثاق الأول للعاطفة.

2.    حركة التجلّي:

يبحر في عطر حكايانا

ويرسم على وجه الصباح ملامحك

تتحول المشاعر إلى صور كونية.

3.    حركة الصمود:

وأنا أحيا

أحيا في كل ما تركه غيابك

ختام يربط الفناء بالاستمرار، كأنّ الحياة ذاتها تتغذّى من الغياب.

 

·      المستوى النفسي:

القصيدة تُعبّر عن حالة من الحنين المتصالح مع الألم. فالشاعرة لا تنكر الفقد، لكنها تُعيد تشكيله عبر الكتابة.

يتجلّى في النص ما يسميه الذرائعيون بـ«السلوك الرمزي»، حيث يتحوّل الألم إلى إبداع، والغياب إلى طاقة كتابة.

ينبت بين أصابعي ضوء انتظارك

في كل حلمٍ لم يكتمل

هنا يتحوّل الانتظار إلى ضوء، والحلم الناقص إلى فعل إبداعي، ما يشير إلى تحويل الطاقة الانفعالية إلى إنتاجٍ رمزيّ.

 

·      المستوى الإيحائي العميق:

الإيحاء المركزي هو أن الحضور لا يُقاس بالجسد وإنّما بالكتابة.

يتكرّر رمز الظلّ والضوء في ثنائية وجودية:

الظلّ = الغياب / الحزن / البعد

الضوء = الحب / الذاكرة / الكتابة

تتناثر كخيوط الضوء في الندى

يغزل من نورك سرَّه

بهذا المزج بين الظل والنور، يترسخ المعنى الإيحائي بأن الكلمة وحدها قادرة على منح الغياب أجنحة.

 

التجربة الإبداعية:

تظهر نضج التجربة الشعرية في هذه القصيدة من خلال وحدة التكوين وهدوء الانفعال، ووعي الشاعرة بقدرة اللغة على تحويل التجربة الذاتية إلى طقسٍ جماليّ.

تتجلّى فيها سمات الكتابة النسوية المتأمّلة التي تمنح الغياب معنى أموميًّا، حيث يتحول الألم إلى ولادة دائمة، والكلمة إلى كائن ينمو من رحم الحنين.

 

في الختام:

قصيدة «أجنحة الظل» ليست نصًا غزليًا فحسب، هي تأمّل وجودي في معنى البقاء عبر اللغة.

هي تجربة توازن بين الصدق الشعوري والعمق الرمزي، وتُبرِز براعة الشاعرة في جعل الحرف جناحًا للطاقة الروحية التي لا تفنى بالغياب، بل تتجدّد في ظلال الكتابة.

 

النص الشعري:

"أجنحة الظل"

 

كل حرفٍ أكتبه لك

ينسلّ من قلبي كجنينٍ سريّ

يتنفس من صمتنا المهيب

يولد من شوقٍ لا يعرف سواك

ويكبر… يكبر في الظلّ بين أنفاسي

يخطّ اسمك على جدار الليل

يبحر في عطر حكايانا

ويهمس: أنت وحدك من شهد مخاضي.

 

كل حرفٍ أكتبه لك

أبجدية لا يعرف سرَّها سوانا

يحرسها قمرٌ يتهجئ اسمي

ويرسم على وجه الصباح ملامحك

كأنها سرّ لا يُقال

لكن قلبي وحده يعرف شمسك.

 

وفي عمق الغياب

ينبت بين أصابعي ضوء انتظارك

تتفتح فيه أزهارُ صبري

تتناثر كخيوط الضوء في الندى

وتهمس لي: ما زال هنا

في كل نفسٍ لم يُؤخذ بعد

في كل حلمٍ لم يكتمل

في كل وجود يغزل من نورك سره.

 

وأنا أحيا

أحيا في كل ما تركه غيابك.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سرد الاغتراب والبحث عن المعنى قراءة ذرائعية في رواية ( منروفيا ) للكاتب المصري أحمد فريد مرسي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

إشهار كتاب النزعة الصوفية والنزعة التأملية في شعر الأديب السوري منذر يحيى عيسى

أدب الرحلات المعاصرة: سفر في الجغرافيا والذات دراسة ذرائعية مستقطعة على كتاب (نيويورك في عيون زائرة عربية) للكاتبة اللبنانية هناء غمراوي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي