من فطام الذكورة إلى غسل الخوف: قراءة ذرائعية في سرد الطفولة والذنب بقصة / سيد الغسال / للقاص المغربي محمد الطايع بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

 

 

     تأتي قصة "سيد الغسال" ضمن نمط سردي يستعيد ذاكرة الطفولة بوصفها المخزون الأول للانكسارات، والمرآة التي تنعكس فيها كل أشكال الفزع البشري، لكنّها في الوقت ذاته مساحة لتهذيب الوعي وممارسة فعل الاعتراف. فبين انفعال الطفولة وغريزة الدفاع عن الذات، وبين بيئة اجتماعية تُفرض فيها معايير صارمة للرجولة والصلابة العاطفية، تنمو شخصية السارد محمّلةً بإرث من الخوف المقنّع، والذنب غير المسموح بمواجهته.

تتحرك القصة في مسلك سردي يتقاطع فيه الواقعي بالغرائبي، بين المطر الطوفاني الذي ينزل بوصفه تطهيرًا كونيًا، والضريح الذي يتحوّل إلى محراب للرعب والألم، والمرأة الشبح التي تتجسّد رمزًا لطفولة متروكة على حافة الخوف. هذا المزج بين المخيال الشعبي والاختبار النفسي يجعل من النص مادة غنية لقراءة ذرائعية متعدّدة المستويات، تستكشف البنى السردية والرمزية والدلالية، في ضوء منظومة الذرائعية التي تُعنى بدراسة الجمالي عبر الأبعاد النفسية والاجتماعية والفكرية والأخلاقية.

تهدف هذه الدراسة إلى تحليل  بنية القصة عبر المستويات الذرائعية، بدءًا من البؤرة الفكرية، مرورًا بالعتبات النصية، والمستويات البصرية واللغوية والديناميكية والنفسية، وصولًا إلى الكشف عن رحلة الوعي من الذكورة الموروثة إلى الذكورية المفكّكة، وعن كيفية استثمار الكاتب لطاقة الخوف بوصفها طقسًا تطهيريًا، وأداة لخلق سرد اعترافي يراوغ الموت، ويستعيد الحياة بمعناها الأكثر توهجًا وإنسانية.

 

·      البؤرة الفكرية :  تفكيك "الرجولة" كهوية مُنتَجة بالخوف

القصة تُفكك بعمق فكرة "الرجولة" باعتبارها هوية تُلقّن للطفل بالعقاب والوصم.

الأب يعتبر الخوف عارًا:

"يشبه النساء"

وهذه الجملة هي النواة الفكرية التي تدور حولها القصة كلّها.

تقدّم القصة إذًا أطروحتها الفكرية بوضوح:

-        الخوف ليس نقيض الرجولة

-        الرجولة ليست صلابة جسدية بل هشاشة إنسانية

-        الطفل يتعلم القسوة كدفاع عصابي ضد الإهانة

-        الحياة ستكسر هذا الوهم عندما يرى أقوى الرجال يبكون

-        البؤرة الفكرية هنا تعالج سوسيولوجيا الجسد العربي، حيث يُربّى الذكر على الخشونة بوصفها شرطًا للقبول.

لكن السرد يفكك هذه الصورة، ويعيد تشكيل masculinity ( الذكورة – الرجولة ) بصيغة جديدة:

الإنسانية هي القوة، والخوف جزء من الفطرة.

 

·      الخلفية الأخلاقية:  العدالة الذرائعية ومبدأ التطهير (Catharsis)

الخلفية الأخلاقية في القصة ليست مباشرة ولا خطابية، بل تمر عبر:

-        الندم

-        مواجهة الذات

-        الاعتراف

-        تطهير الذنب عبر الحكي

وحين يرى السارد المرأة في الضريح، يعود إليه شبح ذنب الطفولة:

"فكرت فلم أجد غير فزعي من أن يكون السبب تعرضها للعض من قبل حبيب لعين مثلي."

هذا المزج بين الخوف والندم يُحوّل القصة إلى محكمة نفسية، السارد فيها هو المتهم وهو القاضي.

الخلفية الأخلاقية تؤكد أنّ:

1. الطفل ليس شريرًا، بل ضحية منظومة عنف تربوي.

2. الغفران يبدأ من الاعتراف بالخطأ.

3. الذنب لا يسقط بالتقادم، بل بالحكي.

4. العنف ضد الأنثى جرح لا يُشفى إلا بالمعرفة والمراجعة.

 

·      العنوان : عتبة التوتر الرمزي والتهيؤ المكثّف

"سيد الغسال" عنوان يقوم على الاختزال الرمزي المكثّف.

كلمتا سيد و الغسال تفتحان فضاءً مزدوجًا:

سيد: سلطة، قدسية، رهبة.

الغسّال: الشخص الذي يلامس الجسد في لحظة الوداع الأخيرة، بين الدنيا والبرزخ.

الوظيفة الإيحائية للعنوان أنّه يقدّم "الغسال" من مقام مهنة إلى مقام كائن حدّي، يتحرّك في منطقة رمادية بين الحياة والموت، بين الطقسيّ والغرائبيّ.

هذا العنوان يجذب القارئ نحو سرد يشتغل على العتبات الهامشية: القبور، الخوف، الندم، الطفولة، الذنب، والفزع البدائي.

 

·      المقدمة: بنية الاعتراف – السرد بوصفه فعل توبة

الجملة الأولى:

"حين كانت لدي أسنان، غرزت أسناني في ذراع أختي..."

تفتتح النص بصيغة اعترافية.

السارد يقدّم نفسه خاطئًا صغيرًا مرعوبًا من ذاته، فيدخل القارئ مباشرة في عقدة القصة:

الذنب – الهرب – الاختبار – الانكشاف – العودة.

الطفل الذي يهرب من البيت يهرب من أثر فعل مؤلم، وكأن القصة كلها محاولة لاستعادة تلك اللحظة للتكفير عنها.

الافتتاح الاعترافي يجعل القصة أقرب إلى سرد علاجي (Therapeutic Narrative) يشتغل على استرجاع trauma ( صدمة أو رضّة نفسية)  طفولية.

 

·      المستوى البصري – سينمائية الرعب الطفولي

النص مبني بصياغة مشهدية عالية. المستوى البصري يتجلّى في:

1. وصف المقبرة والمطر:

صور سينمائية مكثّفة: رعد – برق - ظلام مفاجئ - مطر طوفاني شبيه بمطر نوح

هذه الخلفية البصرية تجعل من المطر عنصر تطهيري – مرعب في آن واحد.

2. الضريح:

قبة فقدت لونها - جدران جيرية متآكلة - ضيق المكان

المشهد يُذكّر بمدرسة الرعب العربي الشعبي (السعالي – المقابر – الأرواح).

المستوى البصري لا يكتفي بإظهار المكان، بل يكثّف شعور الطفل بأنه محاصر في قبر حيّ.

3. المرأة الشبح:

من أجمل عناصر السرد: شعر يخفي نصف الوجه - عروق بارزة – ندوب -غرغرة تشبه قطة تختنق

إنها أيقونة الرعب الشعبي، لكنها أيضًا مرآة الخوف الداخلي للطفل.

 

·      المستوى اللغوي – لغة تُشبه الهمس والاعتراف والرواية في آن

 

اللغة مزيج بين:

سرد ذاتي introspective + لغة رعب + لغة وجدانية حنونة + استعارات حسية + تعابير شعبية (في أمسيات الحضرة – الأسياد – الماكِرة – حفرت أسناني…)

هذا المزج يمنح النص هوية لغوية خاصة:

1. الجمل الطويلة المتدفقة: تُحاكي لهاث الطفل وهروبه.

2. الجمل القصيرة المفاجئة : تخلق صدمة:

"كنت خوافًا كبيرًا."

"لم تتعطف السماء."

3. مشهدية الإيحاءات:

المرأة الشيطانية تشبه ضميرًا يؤنّب الطفل أكثر من كونها كائنًا خارقًا.

 

·      سابعًا: المستوى الديناميكي : حركة السرد من الداخل إلى الخارج

البنية الديناميكية تتطور عبر أربع حركات واضحة:

1. فعل الذنب: عضّ الأخت – بداية التوتر.

2. الهروب: حركة جسدية تُخفي حركة نفسية.

3. الاختبار:الضريح – المرأة – المطر.

4. الخلاص والعودة

الأم تُنقذ الابن.

العودة هنا ليست جسدية فقط بل عودة إلى الوعي وإلى الأصل الأخلاقي.

الحركة الديناميكية تشكل قوسًا دراميًا ناضجًا يذكّر ببنية الرحلة الأحادية، ولكن بترميز رعب طفولي.

 

·      المستوى النفسي : دراسة الخوف الطفولي والجرح الأبوي

المستوى النفسي هو الأعمق في النص:

1. الخوف البدائي (Archaic Fear)

الطفل يخاف:

الظلام – الموت – العقاب – الأشباح -غضب الأب - فقدان الأم

الخوف هنا ليس حدثًا عابرًا، وإنماتشكيل نفسي الهوية.

2. عقدة الذنب (Guilt Complex)

النص كله قائم على:

الندم – الاسترجاع – محاكمة الذات.

3. صورة الأب كمنتِج للعنف الرمزي

"أنت تشبه النساء"

جملة واحدة أسّست:

-        كراهية الذات

-        كراهية الأخت

-        محاكاة الرجولة المسمومة

-        الهرب الدائم من الضعف

هذه الجملة هي الجرح النفسي الأكبر في القصة.

 

4. الأم – المنقذ الأنثوي

بينما الأب رمز العنف، الأم هي:

الحنان – الأمان - الصوت الذي يطرد الشيطان

 

"الملاك الحارس" الذي يمنع المرأة من الاقتراب

صوت الأم يكسر الرعب كما يكسر اللعنات.

 

·      المستوى الإيحائي – الرموز والدلالات العميقة

القصة مشبعة بالرموز:

1. المطر

رمز: التطهير- عقاب السماء - غسل الذنوب- طقس عبور

2. القبر / الضريح

رمز: الخوف - مواجهة النفس - الرغبة في الاحتماء بالموت

3. المرأة الشبح

رمز مركّب: ذنب الطفولة -الضمير - صورة الأنثى المكسورة - الأخت التي عضّها - المرأة العربية المضطهدة - الخوف من الأنثى ومن الذكورة الزائفة

4. صوت الأم

رمز: الخلاص - نور القلب – الحقيقة - طرد الوهم

5. الأفاعي الساقطة

إشارة إلى: طرد الشر - انكسار السحر - لحظة الانتقال من الرعب إلى النجاة

·      التجربة الإبداعية – السارد بين التذكّر وإعادة بناء الذاكرة

الكاتب هنا يعيد بناء طفولة منهارة:

-        ذاكرة تُروى بصوت رجل يتأمل طفله الداخلي

-        استدعاء trauma قديمة

-        تحويل الخوف إلى مادة سردية

-        إعادة كتابة تجربة الهرب داخل بنية رمزية

-        تحويل رجل الغسال إلى أسطورة طفولية

تجربة الكتابة هنا تعمل كـ معالجة نفسية ذاتية: الكاتب يعيد ترتيب ذاكرة الطفولة ليصالح ذاته الصغيرة.

 

·      الخاتمة – خلاصة ذرائعية

قصة "سيد الغسال" نص استثنائي في بنيته وأسلوبه، لأنها تجمع بين:

سرد واقعي (عائلة – خوف – أم – أب) +رمزية ميثولوجية (الضريح – الغسال – المطر الطوفاني) + رعب شعبي (المرأة الشبح – الأفاعي – ظلال الموتى) + تحليل نفسي عميق (عقدة الذنب – الرجولة القاسية – الخوف البدائي) + لحظة خلاص إنساني (الأم تنقذ الطفل).

ويظهر بوضوح أنّ القصة ليست عن "الغسال" بقدر ما هي عن غسل القلب من أوهام الذكورة، وغسل الطفولة من رعبها القديم.

هي قصة عن تحوّل الوعي، وعن مواجهة الطفل مع أول "موت" رمزي في حياته.

قصة تُعيد تشكيل الذاكرة في قالب فني مشحون بالدلالات.

 

#دعبيرخالديحيي                         مرسين – تركيا                          18 /11/ 2025                

 

النص القصصي:

"سيد الغسال"

حين كانت لدي أسنان، غرزت أسناني في ذراع أختي، عندما كنا أنا وأختي نعيش في منزل واحد. والآن.. إذا قدر الله والتقينا مرة أخرى، سوف أقبلها بقوة، وأخبرها كم أحبها. أما في ذلك الوقت البعيد جدا، فقد كنت أكرهها، هي أيضا كانت تكرهني، ولذلك خطر لها أن تخيفني، لأني في ذلك الوقت، كنت خوافا كبيرا. الماكرة قامت بقلب جفنيها فبدت لي أشيه بجنية وهي تقترب مني متبسمة. ثم سرعان ما أطلقت صرخة عالية مستنجدة بأمي، وقد حفرت أسناني آثارها على لحم ذراعها.

خوفا من العقاب، خرجت من البيت هاربا. مع أن أمي لم تعاقبني ولا مرة، مهما فعلت. في الغالب تكتفي بتوبيخي، لكنني لم أكن أتحمل عتابها، غضبها أشبه بالطرد من الجنة، لكنها سوف تخبر أبي، عقاب أبي قاس جدا، بعد الضرب العنيف، لا بد أن يتهمني بأني جبان كبير، وأني أشبه النساء. وذاك أن الرجال لا يخافون. كلماته تؤلمني أكثر من الضرب، لأن أسوأ حالة مسخ تخيلتها يوما، هي أن أتحول إلى امرأة، لذلك حاولت طوال سنوات، أن أكون فظا غليظ القلب، تلك كانت فكرتي عن الرجولة. ثم عرضني ربي لأصعب الإمتحانات، فشاهدت رجالا أشداء يبكون مثل النساء، ورجالا أقوياء ينهارون من شدة الخوف.

حافي القدمين غاردت البيت، يلاحقني صوت أختي، تتمنى لي الموت، عاجزة عن اللحاق بي. حين أتذكر بكاءها العاجز، أتمنى لو أمكنني الرجوع إليها، لكي أصالحها، ثم أكون مهرجها الكبير وحاميها القوي، وأجعلها تنسى ما شعرت به ساعتها من ألم.

وسط المقابر القريبة من بيتنا، توغلت مثل مجرم هارب من عدالة ظالمة، ومع أني لم أكن ألبس سوى فانيلا قطنية خفيفة، لم تتلطف بي سماء ربي. فسرعان ما أمرها فأظلمت عصرا، ودوى في عرض الأجواء العليا رعد رهيب، ثم انشقت فصبت على الأرض مطرا شبيها بمطر النبي نوح. هناك نفذت حيلتي، فلم أجد مكانا أحتمي فيه من البرد والمطر غير ضريح صغير يتوسط المقبرة، كان يقال له ضريح "سيد الغسال".

قبل عصور مات هذا الذي اشتهر بتغسيل الموتى، وحده اسمه كان يخيفني، ومع ذلك اضطررت للجوء إلى مسكنه أو مأوى روحه، فلو أن الضريح بني لموارة جثمانه، لكان القبر كافيا. فكم تخيلته يطوف حول الموتى، ببياض لحومهم العارية المائلة للزرقة، كما لو أنه الجاني عليهم، مما أوحى لي أن الاغتسال في حال استلقاء يؤدي للموت، بيد أن تلك الرؤى، لم تولدها سوى شطحات مخيلتي الصغيرة. مهمة غسل الموتى لا شك نبيلة، ولذلك توكل لمن توفرت فيهم شروط الأمانة وتقوى الله، لكن، من يضمن لي أن سيد الغسال، ليس ساحرا؟

ثم دخلت الضريح الصغير المخيف، وكانت تعلوه قبة صغيرة فقدت لونها الأصلي، وغدت أشبه بقعر إناء صدئ مقلوب نحو الأعلى. وصيده لا يتعدى مترين، تحت سقفه لم أتكهن الكثير، أو أتمكن من الفصل بين ما أراه وما أتوهمه، خاصة عندما انتبهت، فشاهدت شبح امرأة تقف قبالتي، خصلات شعرها الأسود تخفي نصف وجهها، فلم أفهم كيف ظهرت، ولماذا لم أبصرها، أو انتبه لوجودها إن كانت قد سبقتني للداخل.

عروق ساعديها بارزة مليئة بالندوب، وهي تستند بظهرها إلى الجدار الجيري المتآكل، تتمايل عليه كأنها تعاني حكة في الظهر، بعد إنصات شوش عليه صوت المطر الهادر وهو يجلد الأرض بسياط الماء حينا وحينا يغرز في لحمها نباله. تناهت لسمعي غرغرة حلقها الشبيهة بغرغرة قطة تختنق. فتملكني الرعب وقد وسوست لي نفسي الأمارة بالهلع، أنها ليست آدمية.

قبل أن أقدم على الهرب، سألتني بصوت محبوح شبيه بصوت احتكاك منشار في صدر قطعة خشب شديدة الصلابة:

من أنت أيها الصبي اللعين؟

عاجزا عن الكلام، تسمرت في مكاني، وقد شلت نظراتها الشيطانية أطرافي، وأصابت لساني بالخرس، وكاد أن يغشى علي، أو أتبول في سروالي، ولن يلحظ سيد الغسال ذلك، لأن  الماء غمر ثيابي قبل الهروب إلى مقامه، وغسل المطر أدراني، ولعله كفر ذنوبي أيضا، وأعفاني من طقس تغسيل الموتى. إذا اشتم سيد الغسال رائحة البول في ثيابي، سوف يرش جسدي بالعطر، قبل أن يحفر لي قبرا صغيرا على مقاسي قريبا من مقامه.

ثم بدا لي أن المرأة تأكدت أنني فريسة سهلة، فتحركت من مكانها نحوي، تزامنا مع ما خيل لي أنه صوت أمي تناديني:

محمدي، يا محمدي.

مثل صدى حلم قريب يأتيني صوتها، فأود لو أنني أفيق منه كما في مرات عديدة سابقة، لتستقبل صحوي بابتسامتها الحبيبة، لكنني مستيقظ فعلا، والمرأة الغامضة تزمجر مثل حيوان جريح عالق بين عالم الموتى والأحياء. كأنها نمرة تجاذب شباك صياد، تتعثر في دنوها مني، بشكل جعلني متأكدا أن صوت أمي هو ما يربك تقدمها، كأن كلمات والدتي رصاصات تصيبها في الصدر والساقين، فيما لو كانت شيطانية، أو أنها هالكة هربت من عالم  الموتى، عبر خلة لا بد أنها تكمن ها هنا في زاوية من زوايا هذا الضريح. ولعل الفتحة سوف تتسع أكثر، فيخرج منها سيد الغسال مثل ملاك الجحيم، ثم يعيد المرأة الآبقة إلى برزخ الهلاك بقوة. لو حدث هذا، سوف يأخذني أنا أيضا، لا يمكن لشخص رهيب مثله أن يأتمن طفلا على واحدة من أسراره.

تدنو المرأة وتبتعد، تتراجع نحو الخلف، كلما لامس صوت أمي سمعها، ثم تقبل حين يحاصر اليأس فؤاد أمي، فأحسبها تنقل بصرها صامتة تبحث عني بين القبور والأضرحة الأخرى. تجتاز المرأة فاصل الردهة بيننا، فتترنح تحت وقع نداءات أمي:

محمدي، لا تخف يا ولدي، لا تبتعد عني أرجوك.

بمكر وخبث شديدين، تبسمت الشيطانة، ثم أطلقت صرخة شبيهة جدا بصراخ نسوة حينا، حين يبلغهن خبر موت حبيب غائب، أو يتعرضن للضرب من طرف الأزواج، أو يُعلن الأسياد حضورهم بداخهلن في أمسيات الحضرة. بعضهن هربن من سطوة العنف والقهر إلى بلدان بعيدة، بعضهن اخترن التعري عمدا بين يدي سيد الغسال، يتوسلن قطعة ثوب بيضاء معطرة تجيز لهن العبور إلى صحبة الحوريات. بينما علقت المهزوزات منهن، تحت سكينة القباب، هائمات في ملكوت الحزن والتأمل، حيث لا عفو ولا مواساة إلا من الله.

عويل المرأة المخيف، أقرب لبكاء مغلوب على أمره، يبث المطر والمقابر شكواه، الشكوى اتخذت شكلا مفزعا، وقد طفقت المجنونة تعض ذراعها بقسوة، ثم تباعد بين فكيها وتصرخ تأكيدا على ما تشعر به من وجع. لِمَ تؤذي نفسها؟ فكرت فلم أجد غير فزعي من أن يكون السبب تعرضها للعض من قبل حبيب لعين مثلي. هناك شرعت في البكاء، وأنا أتذكر ذراع أختي. بكائي زاد المرأة هياجا، فانهالت على وجهها الشاحب بالصفع، هناك دخلت علينا أمي، جذبتني بقوة نحو الخارج وهي تصيح، باسم الله الرحمن الرحيم. على الطريق ونحن نركض أنا ووالدتي، تساقطت أمامنا أفاع شبه ميتة، لكننا واصلنا الركض، وصراخ المرأة يختلط بعويل الريح وهطول المطر الرهيب.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سرد الاغتراب والبحث عن المعنى قراءة ذرائعية في رواية ( منروفيا ) للكاتب المصري أحمد فريد مرسي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

إشهار كتاب النزعة الصوفية والنزعة التأملية في شعر الأديب السوري منذر يحيى عيسى

أدب الرحلات المعاصرة: سفر في الجغرافيا والذات دراسة ذرائعية مستقطعة على كتاب (نيويورك في عيون زائرة عربية) للكاتبة اللبنانية هناء غمراوي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي