قراءة نقدية في النص المونودرامي الشعري (النملة التي مشت على الضوء) للدكتورة عبير خالد يحيي بقلم الناقد نضال الخليل



هذا النقد يحاول الإصغاء إلى نملةٍ تكتب مصير الإنسان على ضوء شاشة نصٌ يفتّش عن رائحة العالم في عصرٍ بلا حواس وعن معنى المسرح حين يصبح الضوء هو التراب
هنا لا نقرأ المسرحية فحسب بل نقرأ ما تكشفه من هشاشة في علاقتنا بالواقع وبأنفسنا
 
النقد
مسرح المرايا والإشعاعات الباردة
في هذه المونودراما تُطرح النملة على الخشبة ليس بوصفها كائنًا صغيرًا أو رمزًا مباشرًا للضعف لكن بوصفها حاملًا لبصيرة مخلخلة كأنها قادمة من صدعٍ سريّ في جدار الحداثة لتفتش عن الطبيعة الضائعة داخل الغرفة الرقمية التي حوّلت المعنى إلى إشعار والنبض إلى ضوء
النص يستدعي شكلًا مسرحيًا مبتكرًا يُشبه المختبر الفلسفي البصري حيث يتحوّل الهاتف المحمول إلى فضاء وجودي يتنفّس ويضيء ويختنق وتتسلّق النملة شاشته كما تتسلق النفسُ جدران الأسئلة المرهقة المسرح هنا لا يكتفي بالكشف بل يفضح:  
-        الإنسان لم يعد وحده على الخشبة إنما هو وشبحه الإلكتروني وأصداء صورته التي تكبر بينما ينكمش داخله
في افتتاحية العرض تُمنح “النملة” صوتًا قبل أن تُمنح مكانًا وهذا خيار ذكي لأن الصوت يسبق الجسد في عالم الشاشات والهمس يصبح لغةً مرئية حين تقول:
-        «لم أكن أبحث عن السكر… كنت أهرب من ثِقل الأرض»
 فإننا لا نسمع هروبًا بل انقلابًا: صعود من الأرض الثقيلة إلى فضاءٍ بلا ثقل لكنه بلا رائحة، بلا طين هذه المفارقة التي يؤسس لها النص تلاحقنا حتى النهاية
المشهد الثاني يتناول عمقًا آخر: وجوه بلا أجساد، صور تتكاثر وتبتسم بلا حرارة “رأيت وجوهًا كثيرة لوجه واحد” تقول النملة جملة تختصر مأزق الإنسان اليوم:
-         فقدان التفرد مقابل توسع “الأنا الرقمية”
 المسرحية لا تقترح إجابة لكنها تشكّل مرايا مشروخة تجعلنا نرى هشاشتنا بوضوح
في المشهد الثالث يتخذ النص منحىً أكثر حدة اللغة نفسها تُصبح جسدًا باردًا تُلمس ولا تُحسّ
المفردات تلمع كحبّات سكر لكن بلا طاقة سؤال النص هنا لا يتوجه للنملة بل إلينا:
-        هل يكفي أن نكتب “أشتاق” كي نشعر بالشوق؟
-        أم أننا تحولنا إلى كائنات تمارس العاطفة كنص؟
لحظة “النجمة الزرقاء” في المشهد الرابع هي ذروة شعرية وفكرية معًا ومضة إشعار تُغري بالدفء ثم تعود إلى برودتها
 هنا تتحدى المسرحية العاطفة المعاصرة:
-         ما الذي يجعل الحب ممكنًا في فضاء لا يُشبه سوى انعكاسه؟
المشهد الخامس يجعلنا نغوص في ذروة المفارقة: البشر أنفسهم صاروا نملًا لكن نملًا بلا أرض يحفر شبكات بدل الأنفاق ويخزن صورًا بدل الحبوب
إنها استعارة قاسية تعلن بوضوح أن التقنية لم تعد أداة بل بيئة وأن المستعمرة الجديدة تُبنى من اللاجغرافيا لكنها تُمارس استعبادًا أكثر رقة وأشد عمقًا
أما العودة في المشهد السادس فهي خروج من السجن الضوئي نحو "الرائحة الأولى" لكن العودة مكسورة النملة لا تحتفل بل تواجه منطقًا فجًّا: “ما لا يُشمّ هو غير موجود” إنها نهاية تُدرك فشل اللغة الحديثة في احتضان الذاكرة وفشل المسافة الرقمية في منح الدفء
هذه المونودراما ليست مجرد نص إنها مشروع نقدي يمارس المسرح بوصفه فعل مقاومة فكرية يتحدى المساحات الميّتة التي نعيش فيها وينحاز إلى المسرح بوصفه آخر أرض يمكن أن نلمس فيها المعنى قبل أن يُغلق الضوء
وهنا يثبت المسرح أهميته كما أراد له أن يكون: ليس مرآة للواقع لكنه مطرقة تكسر شفافيته وتعلّمنا من خلال ذبذبة نملة أن نعيد اكتشاف الرائحة في عالم بلا أنف
 
نضال الخليل
 
 
 
المسرحية
النملة التي مشت على الضوء
/مونودراما شعرية فلسفية/
فصل واحد
تأليف:  د .عبير خالد يحيي
الشخصيات
النملة: الصوت الوحيد على الخشبة، تمثل وعيًا وجوديًا صغيرًا يخترق العالم الرقمي.
الفضاء:
ليس مكانًا بل كيانٌ متحوّل من الضوء، الشاشة، الذبذبة.
(يمكن استخدام مؤثرات بصرية وصوتية لخلق الإحساس بأن الهاتف المحمول“يتنفس أو “يستجيب“.)
الزمن:
زمن غير محدد — بين لحظة سقوط النملة داخل الهاتف ولحظة عودتها إلى العالم الحقيقي.
(الزمن المسرحي يتقاطع مع زمن الشحن والبطارية والإشعاع، كأنه دوران بين الحلم واليقظة الرقمية.)
المشهد الأول: الإضاءة الأولى:
ظلام كامل. يُسمع طنين كهربائي خافت يزداد تدريجيًا حتى يصبح نغمة.
ثم تظهر بقعة ضوء بيضاء صغيرة في وسط المسرح — هي مدخل الهاتف المحمول.
يتحول الطنين إلى نبض إلكتروني يشبه دقات القلب.
(صوت النملة يظهر من العتمة، خافتًا، كأنها تهمس داخل جهاز)
النملة:
“لم أكن أبحث عن السكر…
كنت أهرب من ثِقل الأرض،
من أحذيةٍ تجرّ الغبارَ معها كما تجرّ المعنى.
سقطتُ في صدعٍ صغير…
ظننته صدعًا، فإذا هو بابُ ضوءٍ بلا رائحة.
(تتسع دائرة الضوء قليلًا. تظهر النملة كظلّ صغير يتحرّك داخلها.)
العالم هنا… لامع،
لكن لا طعم له.
أرضٌ بلا رطوبة،
سماءٌ بلا طنين ذبابٍ أو رائحة مطر.“
المشهد الثاني: وجوه الزجاج
(تظهر على الجدار الخلفي صور بشرية شفافة تتحرك بلا صوت، كأنها بقايا وجوه رقمية.)
النملة:
“رأيتُ وجوهًا كثيرةً لوجهٍ واحد،
تبتسم، تلوّح، تُكرّر نفسها.
قلت: كم نسخةً يحتاج البشر
ليصدقوا أنهم موجودون؟
تتكلم الشفاهُ…
لكن الصوت يأتي من مكانٍ آخر.
هل يسكنون في صورهم؟
أم صورهم هي التي تسكنهم؟“
(تتوقف، تُصغي، ثم تهمس)
“كلّ شيءٍ يتحرك هنا… إلّا الهواء.“
المشهد الثالث: اللغة الباردة
(تضيء الأرضية بأحرف مضيئة – مفاتيح هاتف ضخمة. تمشي النملة فوقها.)
النملة:
“مشيتُ على الحروف،
كانت الكلماتُ تلمع كحبّات سكرٍ رقمية.
قرأتُ: أشتاق.
لكن لم أشمّ شيئًا من الشوق.
ربما لأن الشوق هنا يُكتب…
ولا يُحَسّ؟.
وجدتُ غابةً من الصور
فاكهةٌ تبتسم،
أطفالٌ يضحكون دون أن يلمسوا التراب.
مددتُ قرنيَّ نحو تفاحةٍ حمراء…
فاخترقني الضوء.“
(صمت. ترفع رأسها نحو السماء الزجاجية.)
“كيف تُثمرُ شجرةٌ بلا جذور؟
وكيف يضحك البشرُ بلا حرارة؟“
المشهد الرابع: النجمة الزرقاء
(وميض أزرق حاد، يقطع السكون. موسيقى إلكترونية قصيرة.)
النملة (بدهشة):
“ضغطتُ زرًّا صغيرًا…
فاشتعلت نجمةٌ زرقاء.
أحسستُ بدفءٍ لحظة،
ثم انطفأت.
أهذا هو الحبّ هنا؟
أن تلمس سرابًا وتسمّيه قربًا؟
أن تبتسم للغائب،
وتنسى من يجلس بجانبك؟“
(تخفض صوتها – شبه بكاء داخلي)
“أوه… كم هو وحيدٌ هذا الضوء.“
المشهد الخامس: حراسة الباب
(إضاءة باهتة تميل إلى البنفسجي، تومض كنبض بطارية توشك على النفاد.)
النملة:
“في الليل جلستُ على زرّ الإغلاق،
أحرسُ بابًا لا يُفتح ولا يُغلق.
رأيتُ الوجوهَ تنام في الشاشات،
تتنفس الضوء… وتختنق به.
قلتُ لنفسي:
ربما صاروا همُ النملَ الجديد،
يحفرون أنفاقهم في الأسلاك،
ويحملون فتات الصور بدل الحبوب،
ويبنون مستعمراتٍ بلا ملكة…
اسمها: الشبكة.“
المشهد السادس: العودة
(يتحوّل الضوء إلى لون ترابي دافئ، وصوت المطر يهمس من بعيد)
النملة:
“خرجتُ من الهاتف،
عدتُ إلى التراب،
إلى الرائحة الأولى،
إلى العرق والغبار والمطر.
أخبرتُ إخوتي بما رأيت،
فلم يصدقني أحد.
قالوا:
ما لا يُشمّ هو غير موجود.”
(تتقدم إلى حافة المسرح، تنظر نحو الجمهور مباشرة)
“لكني أعرف…
أن فوق التراب عالمًا
يمشي على الضوء،
ويختفي حين تفتح عينيك.“
(تبتسم ابتسامة خافتة. تُطفأ الأضواء فجأة مع صوت “نقرة إغلاق هاتف”)
النهاية
إضاءة ختامية:
نقطة ضوء بيضاء تبقى على الأرضكأثر نملة.
صوت خافت يقول:
“العالم الحقيقي لا يترك إشعارات.”
 
 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سرد الاغتراب والبحث عن المعنى قراءة ذرائعية في رواية ( منروفيا ) للكاتب المصري أحمد فريد مرسي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

إشهار كتاب النزعة الصوفية والنزعة التأملية في شعر الأديب السوري منذر يحيى عيسى

أدب الرحلات المعاصرة: سفر في الجغرافيا والذات دراسة ذرائعية مستقطعة على كتاب (نيويورك في عيون زائرة عربية) للكاتبة اللبنانية هناء غمراوي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي