البحر كمعادل موضوعي للحرية: قراءة ذرائعية في قصيدة بحرٌ للحرية للشاعر البحريني كريم رضي توبلي دراسة في الشعر المقاوم والوعي الإنساني المعاصر بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي
بالإمكان اعتبار قصيدة "بحرٌ
للحرية" نموذجًا متفرّدًا للشعر العربي المقاوم في زمنٍ يتكاثر فيه الصمت
وتتراجع فيه القيم الجماعية أمام منطق المصلحة والخضوع. هي قصيدة تؤسس لفعل شعري
جديد يتجاوز التنديد السياسي إلى بناء أسطورة إنسانية للبطولة والفداء، من خلال
توظيف البحر كرمزٍ كونيٍّ للتحرّر والانعتاق.
ينطلق النص من حادثة واقعية تمثلّت في رحلة
مجموعة من البحرينيين لكسر حصار غزة حاملين المساعدات الإنسانية، فاعتقلهم الكيان
الصهيوني، لتتحوّل الحادثة في وجدان الشاعر إلى ملحمة شعرية إنسانية تكرّس قيم
التضحية والإخاء العربي.
في ضوء المنهج الذرائعي العربي الذي يقوم على
التكامل بين الجمال والأخلاق، واللغة والفكر، تتبدّى القصيدة ككيان فنيٍّ
وأخلاقيٍّ متكامل. إذ تتفاعل فيها المستويات السبعة:
البؤرة الفكرية، الخلفية الأخلاقية، المستوى
البصري، اللساني، الديناميكي، النفسي، والإيحائي، لتكشف جميعها عن تصعيدٍ دلالي من
الواقعة إلى الرمز، ومن الحدث إلى الفكرة، ومن الفكرة إلى المعنى الكوني للحرية.
إنّ البحر في القصيدة ليس مجرّد فضاءٍ مكانيٍّ،
بل حقل رمزيّ يحمل دلالات الخلاص والموت والنقاء، ويصبح مرآةً لضمير الأمة العربية
ووجدانها الجمعي.
وبذلك تتحول القصيدة إلى وثيقة شعرية تشهد على
زمنٍ تُخاض فيه المعارك الإنسانية بالكلمة والموقف، لا بالسلاح وحده.
هذه الدراسة تسعى إلى تحليل القصيدة وفق
المستويات الذرائعية المتكاملة، للكشف عن بنيتها الأخلاقية والنفسية والرمزية،
وتحديد موقعها ضمن خريطة الشعر المقاوم المعاصر بوصفها نصًّا يُعيد للقصيدة
العربية رسالتها الأصيلة في الدفاع عن الإنسان والكرامة والحرية.
العنوان: بحرٌ للحرية
العنوان ثنائي البنية:
"البحر": فضاء طبيعي مفتوح، يرمز للمغامرة، للمخاطرة،
ولللانهاية.
"الحرية": قيمة إنسانية كبرى تتجاوز حدود الجغرافيا
والسياسة.
العنوان إذًا استعارة تأسيسية تجمع بين الخطر
والأمل، بين المدى والنجاة. البحر هنا ليس جغرافيا، بل مسار وجودي نحو الخلاص.
البؤرة الفكرية
الحرية لا تُمنَح، بل
تُنال بالرحيل نحو الأمل رغم الرعب، وبالموت يُبعث الشرف.
الشاعر يربط بين الفعل الإنساني المقاوم وبين
الخلاص الجمعي للأمة، حيث يصبح الفداء طريقًا للخلود، وتتحول المأساة إلى شرفٍ
جماعي.
الخلفية الأخلاقية
المنظومة الأخلاقية التي تحكم القصيدة نابعة من:
القيم الإسلامية: "إنها
آيات قرآنٍ... والأحاديث الصحاحُ"
القيم القومية: وحدة العروبة، رفض التطبيع، نصرة
المظلوم.
" لكنها
الحرية الحمراء تعرف أهلها... فتقلّهم نحو المحيط من الخليج... ويعزفُ اليامال في
سمع العتابا الأغنياتِ الخارجات عن النظام العالمي"
القيم الإنسانية: الرحمة، الإيثار، التمرد على
الظلم.
" حملوا طعام الجائعين وكسوة العارين ....
وانحازوا لشعب خلف أسوار الحصار... فزمجر الطغيان"
القصيدة تقوم على أخلاقية الحقّ والعدالة،
وتُدين الأنظمة المتخاذلة:
"طبتم أيها الشرفاء في زمن التخاذل والتحايل".
المستوى البصري (التصويري)
الصور الشعرية في القصيدة سينمائية وواسعة
الأفق:
"من مستحيل الليل ناداهم إلى الأمل الصباح" ← استعارة
تضادّية تُجسّد الانتقال من العتمة إلى الرجاء.
"حتى كأن القارب المثقوب أسطولٌ" ← مفارقة رمزية
تُعلي من شأن الضعف البطولي.
"ناجتهم في ظلمة القضبان غزّةُ تغسل شعرها بدم الشباب" ←
صورة مأساوية مهيبة تجعل من غزة أنثى مقدّسة.
البحر، السفن، الأمواج، الدم، الزيتون — كلها
عناصر بصرية تُشكّل لوحة رمزية للبطولة العربية.
المستوى اللساني (اللغوي)
لغة القصيدة فخمة مشحونة بالإيقاع والمجاز:
استخدام التكرار:
"راحوا إلى ألقٍ وراحوا" أداة
توكيد صوتي ودلالي.
إيقاع داخلي متناوب بين الجمل الفعلية والحركية:
"اشتَبكت على الماء الرياح"،
"ناجتهم في ظلمة القضبان غزة"، "كتبوا بلا قلقٍ قصيدتهم".
الجمل الطويلة تُشي بالاتساع والتدفق، في حين
تكرار كلمة "راحوا" يخلق نبضًا إنشاديًا أقرب إلى المأتم البطولي.
المستوى الديناميكي
القصيدة تتحرك من:
الحدث الواقعي: رحلة البحرينيين نحو غزة.
" لم تحملِ الرحالةَ العشاقَ في البحر
الرهيب مراكبٌ تجري ولا سفنً"
إلى التحوّل الرمزي: البحر يتحوّل إلى فضاء
بطولي، والموت إلى حياة.
" ثم عادوا مثلما راحوا فدائيين... لم يحرف
جهاتِهمُ دوار البحر"
إلى الرسالة الكونية: "ليس
الدرس في الجغرافيا لكنه التاريخ والعشق المباح".
تنتقل الديناميكية من المحلي إلى الكوني، من
الخبر إلى المعنى، من الزمن الآني إلى الخلود الرمزي.
المستوى النفسي
تسكن القصيدة حالة وجدانية متوترة بين الحزن
والفخر.
الحزن يتجلى في مفردات مثل: الرهيب، الرياح،
القضبان، الدم.
الفخر يظهر في: الأمل، الألق، العشق المباح،
الشرفاء.
القصيدة تُعالج التحول النفسي من الألم إلى
البطولة، وتُظهر نوعًا من التفاؤل الوجودي الذي يجعل الفناء طريقًا للخلود.
"راحوا إلى شفق وراحوا.... نثروا رذاذ الشمس من ذهب على تعب...
فشعّت سمرةُ القمح الغزير ... تعالوا أيها الجوعى ..."
المستوى الإيحائي العميق
القصيدة تفيض بإيحاءات دينية وتاريخية:
"الأحاديث الصحاح" تربط الفداء بالشهادة.
"القارب المثقوب أسطول" يحيل إلى سفينة نوح، رمز النجاة
الجماعية.
"من الخليج إلى المحيط" تؤكد وحدة الأمة العربية في
الوجدان الجمعي.
كل هذه الرموز تؤكد أن الفعل البطولي يتجاوز
الحصار المادي ليصبح طقسًا تطهيريًا.
التجربة الإبداعية
الشاعر هنا لا يكتفي بالتوثيق، بل يُحوّل الواقعة
إلى أسطورة حديثة.
تبدو التجربة محكومة بعاطفة صادقة تتجاوز
الحماسة الشعاراتية، إذ تمزج بين الشعر والموقف السياسي بوعي فني رفيع.
النص يجمع بين التناص القرآني والتاريخي وبين
اللغة الحديثة ذات الوجدان القومي.
الخاتمة والتقييم الذرائعي
القصيدة مثال على الشعر المقاوم الإنساني
المعاصر، توازن بين الجمالية والإيديولوجيا.
نقاط القوة:
-
صدق العاطفة
ووضوح الهدف.
-
غنى الصورة
الشعرية وتماسك البناء.
-
إيقاع إنشادي
جذّاب يعبّر عن الموقف الجمعي.
نقطة ضعف طفيفة:
التكرار المكثف أحيانًا يبطئ الإيقاع، لكنه يخدم
النبرة التمجيدية.
التقييم العام:
9.5 / 10 على مقياس الذرائعية، باعتبارها قصيدة موقفٍ وضميرٍ حيّ،
استطاعت تحويل الواقعة السياسية إلى ملحمة شعرية رمزية.
نص القصيدة
بحرٌ للحرية / كريم رضي توبلي
راحوا إلى ألقٍ
وراحوا
من مستحيل
الليلِ ناداهمْ
إلى الأمل
الصباحُ
لم تحملِ
الرحالةَ العشاقَ في البحرِ الرهيبِ مراكبٌ تجري
ولا سفنٌ
ولا في الجو طار
بهمْ بُراقٌ
او جناحُ
لكنها الحريةُ
الحمراءُ
تعرفُ أهلها
فتُقِلُهُمْ
نحوَ المحيطِ من الخليجِ
ويعزفُ اليامال
في سمع العتابا الاغنياتِ الخارجاتِ
على النظامِ
العالميْ
حتى كأن القاربَ
المثقوبَ أسطولٌ
وأخشابَ
المجاديفِ الرماحُ
حملوا طعامَ
الجائعينَ وكسوةَ العارينَ
وانحازوا لشعبٍ
خلف أسوار الحصارِ
فزمجر الطغيانُ
واشتبكت على
الماء الرياحُ
ناجتهمُ في ظلمة
القضبان غزةُ
وهي تغسلُ شعرها
بدم الشبابِ
وتلتقيهمْ في
هدير الموج
ترسم بسمةً
مغصوبةً بالحزن
طبتمْ أيها
الشرفاء
في زمن التخاذلِ
والتحايلِ
انتمُ الملحُ
الأواليُ الذي هو وشمٌ أجدادٍ إلى الأحفاد ميراثٌ
بُنيْ إياك أن
تنسى فلسطين الحقيقةِ
إنها آياتُ
قرآنٍ
توارث عطرَها
شُرَّاحُها
جيلا فجيلا
والأحاديث
الصحاحُ
راحوا إلى شفقٍ
وراحوا
نثروا رذاذ
الشمس
من ذهبٍ
على تعبٍ
فَشَعَّتْ سمرةُ
القمحِ الغزيرِ
تعالوا أيها
الجوعى
قوافلكمْ هنا
الموانيءُ كلها
ملكٌ لكمْ
فلكل كبدٍ لقمةٌ
ولكل عريانٍ
وشاحُ
راحوا إلى ألقٍ
وراحوا
كتبوا بلا قلقٍ
قصيدتَهمْ
على ورق النخيلِ
فأينع الزيتونُ
وارتاح الكلامُ
وما استراحوا
راحوا وغابوا
ثم عادوا مثلما
راحوا
فدائيينَ
لم يحرفْ
جِهاتِهٍمُ دوارُ البحرِ
لم يكسر
عِنادَهُمُ دويُ البارجاتِ
ولا بهِمْ سكتتْ
جراحُ
راحوا
ولكن خِلْتُهُمْ
جاؤوا
كان الأرضَ
واحدةٌ
وليس الدرسُ في
الجغرافيا
لكنهُ التاريخُ
والعشقُ
المباحُُ
#دعبيرخالديحيي مرسين – تركيا 4 نوفمبر 2025

تعليقات
إرسال تعليق