علامة الاستفهام كأيقونة احتجاجية: قراءة ذرائعية في قصيدة (علامة الاستفهام؟!) "الرسالة الأخيرة من البارودي إلى الخديوي توفيق" بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي
تنتمي قصيدة (علامة
استفهام؟!) إلى الشعر السياسي الاحتجاجي، وتقوم على استحضار روح محمود سامي
البارودي بوصفه رمزًا للمثقف المقاوم الذي جمع بين السيف والقلم، بين الفعل
والشعر.
النص يتأسس على موقف احتجاجي صلب، يعيد استدعاء
صوت البارودي في مواجهة سلطة الخديوي توفيق، بما يحمله هذا الاستدعاء من دلالات
رمزية على العلاقة المأزومة بين المثقف/المصلح والسلطة. فلا تتعامل القصيدة مع
البارودي بوصفه شخصية تاريخية، بل بوصفه بنية رمزية للكرامة الوطنية في مواجهة
السلطة الممثلة هنا بالخديوي توفيق.
تسعى هذه القرءة إلى تحليل القصيدة بمنهج
ذرائعي، يقوم على تفكيك مستوياتها الفنية والدلالية، مع خصوصية التركيز على البنية
الإيحائية التي تتخذ من "علامة الاستفهام" محورها البنائي والدلالي.
البؤرة الفكرية والخلفية
الأخلاقية
البؤرة الفكرية تقوم على طرح "علامة
استفهام" كأداة مقاومة رمزية، تتجاوز حدود الزمان والمكان، لتسائل الشرعية
والعدالة وفساد الحكم. لذلك تتمحور البؤرة الفكرية حول مساءلة شرعية الحاكم
السياسي، وتعرية منظومة الفساد والتبعية، عبر خطاب شعري يحتج ولا يستعطف، ويكشف
العلاقة المختلة بين السلطة والأمة.
أما الخلفية الأخلاقية للنص فترتكز على قيم الوطنية،
الكرامة ومواجهة الاستبداد ورفض الانبطاح والتزلف للحاكم، كما يعلن الشاعر صراحة:
«ولستُ ممن ينحني ضراعةً / وينثني نطاعةً / ويرتجي لعاعةً / من أصل
بيت مالك الحرام»
هي خلفية مستندة إلى ثنائية الحق/الباطل،
والصدق/النفاق.
فالقصيدة ليست معارضة سياسية فحسب، بل موقف
أخلاقي شامل ضد النفاق والتملّق وشراء الضمائر.
المستويات الذرائعية
1- المستوى البصري
تقوم القصيدة على مجموعة من الصور البصرية الحادة
والقاطعة التي ترسم مسافة فاصلة بين الصدق والزيف، النور والظلام، الثبات
والانكسار:
صورة الشاعر وهو يقيم خطابه «كالفصل بين
النور والظلام»
صورة «وجمرة أمام كل
ناطق… وخلف كل ساكت مكبَّل بالقيد واللجام»
التي تمنح القصيدة حرارتها.
تكرار مشهد الانتصاب والاعتداد بالذات مقابل
الانحناء والتسوّل، ليُرسم مشهد بصري من التحدي والإباء.
الصورة هنا لا تجمّل الفكرة، بل تحوّلها إلى
مشهد احتجاجي بصري موجّه ضد هشاشة الحكم ولزوجة الحاشية.
2- المستوى اللغوي–الجمالي
يعتمد الشاعر لغة ذات نبرة خطابية هجائية، تقوم
على التوازي والتكرار والنفي التوكيدي، من خلال سلسلة متتابعة من الجمل: «ولستُ…
ولستُ… ولستُ…»، مما يحوّل القصيدة إلى بيان أدبي أخلاقي موجَّه لا إلى نص وجداني:
«ولستُ ممن يحسن التهريج في المواكب»
«ولست من مثقفي الحشيش والأفيون والدخان»
«ولست ممن يرهب السلطان أياً كان»
والمعجم الشعري حادّ ساخر، يوظّف ألفاظًا ذات
دلالة تحقيرية واضحة: «نطاعة، لعاعة، حثالة الخصيان، شلة التدوير والتحوير…»،
فيكشف أن اللغة هنا جزء من المقاومة.
بالنتيجة:
-
اللغة متينة،
تقطر فصاحةً وصرامة، متكئة على التوازي والسجع (ولستُ… ولستُ…).
-
تبرز الألفاظ
التراثية ("لعاعة، نطاعة، فذلكة") لتؤكد نَفَس الرسالة التراثية وتربطها
بخطاب البارودي.
-
الجملة الشعرية
طويلة النفس، أقرب إلى خطبة ملحمية تتخللها الصور الشعرية والاستعارات.
3- المستوى الديناميكي
الحركة الدلالية السردية للنص تتصاعد تدريجيًا،
وفق منطق احتجاجي مقصود:
1.مقدمة : إعلان الموقف: «دعني أقول
مخلصًا»
2. موضوع: سلسلة من النفي المتكرر( ولست... ولست...)← كشف الفساد:
«فكلها من فاسد
لفاسد… من باعة الضلال والإعراب والصياغة»، لتكوين حالة جدلية بين الشاعر
والسلطة
3. ذروة :لحظة الانعطاف الرمزي: «فكل ما أردته
يا سيدي… علامة استفهام»
هذا التصاعد يجعل القصيدة تنتقل من الوصف إلى
الاتهام، ومن الإدانة إلى المساءلة.
النص يمزج بين الإيقاع الخطابي والإيقاع الشعري،
مما يولد طاقة درامية أشبه ببيان سياسي/ شعري.
الحركة الديناميكية تتجلى في التدرج من التوضيح
إلى اإدانة ثم إلى التساؤل الختامي بعلامة الاستفهام الجامعة.
4- المستوى النفسي
يكشف النص عن موقف نفسي ثابت، يرفض التغيّر
والتطويع:
«فقد خُلقت شكلاً واحدًا من ساعة الفطام لساعة النوائب العظام»
أ)
السلوكي
تتحول علامة الاستفهام من أداة نحوية إلى موقف
وجودي، إذ لا يسأل الشاعر ليستفهم، وإنما يجعل علامة الاستفهام أيقونة وجودية تسائل
الحاكم،والأمة وتسائل القارئ ذاته: ماذا بعد؟ :
«علامة استفهام تمتد بين الأرض والسماء / من أول الوجود حتى آخر
الأنام»
هنا يصبح السؤال أوسع من الخطاب السياسي، إنه
سؤال الكينونة والمصير.
ب) التوليدي التناصي:
القهرالاجتماعي والسياسي يولّد طاقة لغوية شعرية
احتجاجية، فالغضب يتحول إلى شعر توثيقي ثوري . النص نفسه حالة توليد انفعالي يوازن
بين العقل والتمرّد.
القصيدة تُبنى كلها حول الإيحاء الاستفهامي.
علامة الاستفهام تتحول إلى "جسر" يصل
بين الأرض والسماء، بين الماضي والحاضر، بين الشاعر والقارئ.
تكرار السؤال في الخاتمة: "فهل أتاك
سيدي حديث تلك الغاشية؟" يحيل إلى القرآن الكريم (سورة الغاشية)، بما يضفي
على النص إيحاءً دينيًا–مجازيًا، يجعل السؤال علامة إنذار ووعيد.
الإيحاء يمتد من المستوى السياسي المباشر (فساد
الحاشية، التبعية) إلى بعد فلسفي أعمق: السؤال عن جدوى السلطة، جدوى الطاعة، جدوى
المصير الجماعي للأمة.
النتيجة الذرائعية الموحَّدة:
تتكامل مستويات النص
لتكشف أن القصيدة مبنية حول فعل واحد: الاستفهام بوصفه احتجاجًا. فالصورة البصرية
ترسم الانقسام والجمرة والضوء، واللغة الهجائية توظّف التكرار كآلة رفض، والحركة
الدلالية تنتقل من التعريف إلى الإدانة، بينما ينهض المستوى النفسي على ثبات
الشخصية المحتجة. ويبلغ الإيحاء ذروته عند مزج الاستفهام بالبعد القرآني:
«فهل أتاك سيدي حديث تلك الغاشية؟»
حيث يتحول السؤال من مجرد علامة نحوية إلى علامة
إنذار، فينقلب الخطاب من مخاطبة الخديوي إلى محاكمة التاريخ.
التجربة الإبداعية
لا يكتب الشاعر القصيدة كالنَظْم، هو يكتب بروح
التمثيل المسرحي/الحواري، وكأن القصيدة رسالة – أو محاكمة شعرية – للحاكم.
استدعاء البارودي ليس مجرد تناص تاريخي، بل هو
إحياء لروح المقاومة الأدبية التي جسّدها البارودي في شعره. القصيدة وثيقة احتجاج
أدبية تستعير روح البارودي لا لتقلّده، بل لتستكمل خطابه
بهذا، تتحقق تجربة شعرية هجينة: بين القصيدة
السياسية، والرسالة الأدبية، والبيان الوطني.
فالشاعر يعيد كتابة الشعر السياسي على هيئة
رسالة مفتوحة، تُبقي الباب مشرعًا بين الحاكم والمحكوم، بين الماضي والحاضر، وبين
النص والقارئ.
الخاتمة
تثبت
القراءة الذرائعية أن القصيدة تقوم على هندسة احتجاجية تجعل من علامة الاستفهام
مركزًا دلاليًا وإيحائيًا، لا يخص الخديوي وحده، بل يخص الأمة والقارئ والتاريخ.
البنية الإيحائية هي جوهرها: فكل بيت فيها يشتغل
كعلامة استنطاق، يحوّل القارئ من متلقٍ سلبي إلى مشارك في التساؤل.
إنها قصيدة سؤال لا قصيدة جواب، قصيدة موقف لا
شعر انفعال، قصيدة وعي لا تهييج.
وعبر هذه البنية، يتحول الشعر من لغة جمالية إلى
جهاز نقدي يفضح السلطة، ويعيد ربط السؤال بالحرية… والحرية بالكرامة.
#دعبيرخالديحيي مرسين – تركيا 10 نوفمبر 2025
النص الشعري
علامة استفهام ؟!
( الرسالة الأخيرة من البارودي إلي الخديوي توفيق )
بدايةً ٠٠
دعني أقول
مخلصاً
كالفصل بين
النور والظلامْ
فقد يكون ما أرى
٠٠
من خالص الكلامْ
لكنه ٠٠ من بعض
فضل القول ٠٠
عند صاحب المقام
******
لكنه ٠٠ في
البدء والختام
ليس سوى انعطافة
انعتاقْ
من مُهلِك
الضلال في الفيافي
ورغبة المحب في
التعافي
وجمرة أمام كل
ناطقٍ ٠٠
وخلف كل ساكتٍ
٠٠ مكبلٍ
بالقيد واللجامْ
*******
لكنني أردتُها
٠٠
علامةَ استفهامْ
تمتد بين الأرض
والسماء
من أول الوجودِ
٠٠
حتى آخر الأنام
******
أردتُ أن أخطّها
٠٠
بالروح والدماء
لكي تكون رافداً
موضحاً ٠٠
في هامش الدستور
وغامض التلبيس
عند محكم الأمور
لكونها
٠٠فذلكةً٠٠
لفقه الانبطاحْ
وخط سير أمةٍ
مكسورة الجناح
ولم يعد بحوزة
الفرسان من بنيها ٠٠
سوى الصهيل في
الرؤى
والعدْو في
المنام
والجري منذ
الفجر٠٠
خلف لقمة الطعام
******
ولستُ ممن يحسن
التهريج في المواكب
ولست ممن
يَحْطِم ُ القلاع والمراكب
ولست ممن ينحني
ضراعةً
وينثني نطاعةً
ويرتجي لعاعةً
من أصل بيت مالك
الحرام
******
ولست ممن يرتمي
ببابكم ٠٠
يقفز كالأرانب
يرقب مثل اللص
خلف بابه الموارب
ولست ممن يزحم
المكان بالمناكب
أو يحسن الزحام
أو يحتسي فجوره
٠٠
ويدّعي تواضع
اللئام
******
ولست من مثقفى
الحشيش٠٠
و الأفيون
٠٠والدخان ٠٠
والنسوان
ولست من رجالك
العيال والصبيان
حثالة الخصيان
والغلمان
ولست ممن يمتطي
الجنون
ويرغب التهويس
٠٠ والإخلال بالنظام
******
ولست ممن يرهب
السلطان٠٠
أياً كان ٠٠
أو يذلّ ٠٠ أو
يواري
ولست أقفو
ماجداً٠٠
ما يوجب اعتذاري
وتحت نعل جزمتي
٠٠
مشايخ النفاق
والأبواق
والقِطّ عندي ٠٠
شأنُهُ موقرٌ٠٠
أرفع من سناجق
السواري
فقد خُلِقتُ
شكلاً واحداً
من ساعة الفطامْ
لساعة النوائب
العظام
******
وصفحتي أمامكم
٠٠
تختال مثل لوحة
الصباحِ٠٠
وابتسامة الأيام
فبدؤها ٠٠ حيّ
على الصلاة
وختمها ٠٠ حيّ
على الفلاحْ
وطيرُها ٠٠
مباركُ ٠٠ الغدو والرواحٔ
وأحرفى كنخلةٍ
مجيدةٍ
٠٠تطاوع الرياحْ
نهارُها
٠٠كليلها ٠٠مبسوطةَ الجناحْ
عرجونُها ٠٠
كالقوس حين يطلق
السهام
وحضنُها الرحيبْ
يحطّ فوق صدره٠٠
اليمام ٠٠ والحمام
******
وأنت من أعنيه٠٠
بانطفاءة
التحايا
معلقاً بظهره ٠٠
كسائر الضحايا
في يوم فقد
الحول، ثم الطول، ثم القول ٠٠
حيث جفت الصحاف
والأخبار
والأقلام
******
وأنت ٠٠لا سواك
يا أيها الموضوع
فوق العرش بالسلاح
جمعت حول شهدنا
الزنابر
يا أيها الصغير
٠٠
وسط عالم
الأكابر
جعلتنا ملطشةً٠٠
لكف كل عابر
من سفلة الصغار
والعسابر
وأنني ٠٠
لا شأن لي ٠٠
بكل ما يدور
من خلف الستر من حكايا
ولست ممن يؤثر
التفتيش في النوايا
ولست ممن يرتدي
القناع ٠٠
عند الصلح
والخصام
وأحرفي ٠٠
من يوم أن وعيت
فك الخط
موزونةّ ٠٠
كالملح فى
الطعام
*******
فلا تلمني
مطلقاً
وافتح عيون
النور
وهيئ الطريق
للعبور
فإنما لواقح
الرياح ٠٠
لا تسير فوق سكة
الترام
******
فهل أتاك سيدي
حديث تلك
الغاشية ؟!
من بؤس تلك
الحاشية
فكلها ٠٠
من فاسدٍ٠٠
لفاسدٍ٠٠
من باعة الضلال
والإعراب والصياغة
وزمرة الجواري
وشلة التدوير
والتحوير ٠٠
من معاطن
البلاغة
وكل ما أردته يا
سيدي
علامة استفهام
وضعتها ٠٠
أمام كل ما أرى
من فوقهِ ٠٠
وتحته٠٠ِ وبينهِ ٠٠ وقبله٠٠ِ وخلفه٠٠ِ
من طاعة المأموم
٠٠حتي قبلة الإمام
هاليفاكس -
كندا الأربعاء
١/١٠/٢٠٢٥
تعليقات
إرسال تعليق