طفولة لا تشيخ...تقديم المنظر العراقي عبد الرزاق عودة الغالبي لروايتي ( بين حياتين)

 



 

       وتظلّ الدنيا ساحة للّعب، لا يجيد اللّعب فيها إلّا من عرف فنونها, وأدرك مسالكها، وفهم أنّ القلم الوحيد هو من يستطيع فكّ طلاسمها، فهناك قلم جريء وآخر جبان, وذاك قلم منافق وهناك قلم شريف، وأمضاهم قلمٌ مبدع شريف، والأخير هو من يسلك القاسم المشترك بين الدنيا وسكانّها, فهو يسرد ما يراه بذكاء وإبداع صادق، نقلًا من حيّز الواقع فوق ساحات الورق البيضاء, بأحداث يرسمها بحبر الحكمة والتجربة المغمّسة بالصّدق والأحداث الواقعية التي يمرّ بها هذا القلم النجيب, لتكون شاهدًا وبصمة لإبداعه بالمقارنة بين ما يحدث واقعًا وبين ما يُنقل رسمًا...

     الروائية الناقدة عبير خالد يحيي هي الأخير من تلك الأقلام، سحبتها الدنيا من يختها قسرًا لتدخل عالمًا عجيبًا هندسيًّا يرسم الحياة فوق الورق بفرجال ومسطرة، دخلت عالم النقد العلمي، تعرّفت على مسالكه من مدنه وقراه وأريافه, أجادت التنقّل فيه من صوب إلى صوب, ومن حدب إلى آخر...جرّها هذا التنقل إلى استخدام واسطة لا تعرف الكذب ولا المجاملة ولا التحيّز، واسطة العلم المجسّد بالذريعة لكلّ ما يُكتب ويُقال, وقد ذهبت بعيدًا في هذا المسلك الوعر حتى بلغ فيها مبلغًا انعكس فوق سطوح أوراقها الشخصية, لتكشف عن أسرار كفاحها وصراعها مع الدنيا, في انعكاس قسري لا يعرف الكاتب الهروب عنه والحيد فيه، إلّا من كسب مهارة الدكتورة عبير, لتضع هوّة في كلّ مسلك من مسالك كفاحها, ليتعثّر فيها من كان همّه الفضول، لتقطع فيه الخيط نحو الاعتراف الحسّي بما يملك مخزنها من دلائل وصراعات إنسانية تهدّ جبلًا وتقصم ظهر بعير, حتى جاءت القشّة بعد هذا الحمل تقصم هذا الظهر المحمّل بالأوجاع, لتنطق كلمتها الفصل للحياة وتقول لا...عند تلك ال(لا) انقسمت حياتها إلى حياتين، فهل يستطيع الإنسان يا ترى أن يعيش بحياتين....!؟ من يقرأ روايتها هذه سيجد أنّها فعلًا عاشت حياتين, واستطاعت أن تفصل بينهما بقوّة الإنسان النابضة بالشجاعة والإقدام, وتكون أمًّا ومثالًا للأمومة يُحتذى, وقلمًا لا يجاريه مُجارٍ, وإنسانًا لا يمّل أحد رفقتَه....

 

بين حياتين...عمل أدبي سردي معاصر، اشتغلته الروائية عبير خالد يحيي بتكنيك سردي معاصر, تحت مجهر نقدي لا يفوت الخطأ فيه بخرم إبرة, تتنقل بين الأحداث بحركة سردية رشيقة, وتنقل أحداث طفولة بطلتها، وكأنّها تعيشها هي، ولايستطيع مفرّق أن يفرّق بينهما إلّا من عاشرها طفلة, وعاش معها الطفولة يومًا بيوم، تستخدم تقنيات العصر ومدارسه بتفنّن وحرفنة نقدية أدبية، بالعودة نحو زمكانيّة الطفولة وهي في العقد الثاني أو الثالث من العمر، فتجدها طفلة في الزمكانيّتَين، وكأنّها رافقت الطفولة قرينًا لا يبارحها، فصحبته صديقًا ليعيش معها, وسجينًا يساكنها المدرسة والبيت كقرين, كقرين يمثّل رمزًا للطفولة المستديمة عندها بصورة مستقلّة، ترسم الطفولة قرينًا رمزيًّا يساكنها العيش حتى العقد الخامس من العمر... مسّني الطفل بعلاقتي منها، عرفتها قبل خمسٍ من السنوات, فلمست فيها هذا القرين صدقًا، عدتُ اليومَ  لأجده أمامي في قصّتها (بين حياتين), حين قرأتها أدركت أن طيبتها النقية وسلوكها الإنساني البريء هو خير شاهد على أنّ الطفولة عنصر دائم في حياة الدكتورة عبير خالد يحيي.. فهي تمتلك عفويّة الطفولة وبراءتها، لا تعرف الكذب ولا الرّياء ولا المخاتلة....

 

عبرتْ حقبتها الأولى حاملةً طفولتَها, وعبرتْ الخمسين ولا تزال طفولتها في العاشرة.....

تحياتي لهذه العبقرية التي رسمت الحياة بصدق بين حياتين.....

 

عبد الرزاق عودة الغالبي

سان بيتر - روسيا

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الفلسفة الذرائعية العربية واشتراح المصطلح رواية (رحيل السومري الأخير) للأديب والمنظر عبد الرزاق عوده الغالبي إنموذجًا دراسة ذرائعية مستقطعة بقلم الناقدة الذرائعية د. عبير خالد يحيي

أدب المرايا من الكلاسيكية إلى المعاصرة في رواية / نساء المحمودية / للأديب المصري منير عتيبة دراسة ذرائعية تقنية بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

حمولةُ الرمز التقني من سخرية وتهكّم غضبٌ إنساني يدلقه قلم الأديب محمد إقبال حرب في روايته / العرافة ذات المنقار الأسود/ تعضيد نقدي ذرائعي بقلم الناقدة الذرائعية د.عبير خالد يحيي