السيرة الذاتية عند نجيب محفوظ ومكسيم غوركي بقلم د. عبير خالد يحيي

 


تعريف رواية السيرة الذاتية البيوغرافيا:

 نوع من أنواع الكتابة الأدبية السردية, وهي فن سرد الشخص لسيرة حياته أو جزء منها,

ترجع أصول كتابة السيرة الذاتية [1]إلى الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو, حينما أصدر كتابه( اعترافات ) في عام ألف وسبعمائة, وتبعه العديد من الكتاب والمفكّرين في أوروبا, حتى انتقلت كتابة السيرة إلى اللغة العربيةعلى يد الشيخ أحمد فارس الشدياق, ولكنه أصدر كتابه في باريس في عام ألف وثمانمائة وخمسة وخمسين, يُعد طه حسين رائد كتابة السيرة الذاتية العربية المعاصر  بكتابه ( الأيام), ومن بعده كتب العديد من الأدباء والمفكرين سيرهم الذاتية كأحمد أمين والمازني والعقاد....

نجيب محفوظ:

لم يكتب نجيب محفوظ سيرته الذاتية بالنمط الروائي المتعارف عليه, وإنما جعلها نتفًا  في كل رواية من رواياته, وجعل ذاته تتغلغل مستترة في شخصية معينة من شخصياتها, وقطعًا لم تكن هي الشخصية البطلة بالمجمل, دلّنا على ذلك ما كان يورده من تعليقات وتصريحات في بعض التحقيقات الصحفية معه, أو ما كان يكتبه من مقالات عن تجربته الروائية. وله قول مشهور في هذا الموضوع هو:" هناك عشرات المقابلات معي في مختلف وسائل الإعلام ولا حاجة توجد لكتابة سيرتي الذاتية", هناك مجموعة قصصية له عنوانها ( أصداء السيرة الذاتية)[2], نشرها سعيد جودة السحار مالك دار مكتبة مصر للنشر سنة 1995, اختار لها اسم " أصداء " لينفي عنها صفة السيرة الذاتية,ولكننا سنجد حياته ملخّصة في جميع قصص المجموعة.

"إن العمل الأدبي عنده وخاصة الثلاثية لا يهدف إلى تدمير صورة متسقة للحياة الاجتماعية والنفسية في بعدها التاريخي- كما هي الحال عند جويس مثلَا في تصويره لمدينة دبلن في أوليسيس- بل  يهدف إلى تشكيل تلك الصورة بكل متناقضاتها"[3], فنجد البعد القومي متغلغلًا وكاشفًا للثراء الروحي للشعب المصري, مرصودًا بالشخصية المصرية المركبة بسماتها الإيجابية والسلبية وخصوصًا الكامنة التي تنتظر البعث من خلال مفارقات حركة الأحداث, لتطفو على السطح في اتساع ملحمي شمولي, إن الواقعية عنده تعني ربط التحليل السيكولوجي بالتحليل الاجتماعي, لذلك يقوم بثلاثيته بتقديم نماذج عامة لعلاقات اجتماعية وإنسانية منكسرة أو مهزومة من خلال التشخيص السيكولوجي الفردي, يظهر العالم الداخلي للشخصية نتاجًا لأوضاع أسرية بالدرجة الأولى وأوضاع طبقية واجتماعية وسياسية,وتكون علاقتها سببية مع مصير  الشخصية, عالم محفوظ هو عالم شرائح من الطبقة الوسطى ( البرجوزية الصغيرة), تتحدّد سيكولوجية تلك الشرائح بعلاقاتها المتناقضة بالطبقات الأخرى فوقها وتحتها, وبصراعها الاجتماعي في لحظة معينة, لذلك تتضمن تلك الشرائح حضور الطبقات الأخرى سيكولوجيًا( كمال عبد الجواد يعشق عايدة شدادالارستقراطية, احمد شوكت يعشق فتاة برجوازية ثم يتزوج سوسن حماد ابنة الطبقة العاملة ....), أفرد العوالم الوسطى يرون أنفسهم محلقين فوق المعركة الاجتماعية و ممثلين للشعب وللإنسانية لضمان الاستمرار التاريخي والقيم الروحية والتراث, لذلك كانت الخاصية " النموذجية " للواقعية عند نجيب محفوظ ثرية جدًّا في تصوير الشخصيات البرجوازية الصغيرة وثرية جدًّا في تصوير الأوضاع الاجتماعية, إضافة إلى الصفة الملحمية في السرد الواقعي, فهو سرد يتضمن عند محفوظ فكرة أن النشاط اليومي للناس العاديين له وجه عام تاريخي, كما يتضمن رصد حركة الوعي عند أفراد ينتمون إلى طبقات اجتماعية متعددة.       

وأثناء بحثي عن إغناء معرفي يمكن أن أثري به بحثي هذا وجدت شيئًا غريبًا, مفاده أن معظم من كتب عن نجيب محفوظ من النقاد العرب من جيله بالمجمل, لم ينصفوه بالقدر  الذي يستحقه, لن أبحث عن أسباب ذلك, وسأكتفي برد الأمر إلى قصور في الأدوات النقدية والمعرفية العربية ومحدودية في توظيفها تنظيريًّا وتطبيقيًّا, ولا أدلّ على ذلك من الخلط بين المدرسة الطبيعية والمدرسة الواقعية, الذي أشكل على رجاء النقاش وغيره, حيث يعتبر رجاء النقاش أن كل ما كتبه نجيب محفوظ حتى الثلاثية ينتمي إلى المدرسة الطبيعية لا الواقعية, أما ما كتبه بعد الثلاثية فينتسب كما قال إلى " الواقعية الوجودية"...... فغالبًا ما يقصد النقّاد ب " الطبيعية" , و" الواقعية " نفس الشيء تقريبًا أي : الواقعية[4], وهو ما ذهب إليه الناقد الروسي يوري روشين.

 والخلط بين الكلاسيكية والرومانسية والواقعية, حين أطلق لويس عوض على نجيب محفوظ صفة عدو  الواقعية اللدود[5],  متفقًا مع نقاد الكلاسيكية معتبرًا نجيب محفوظ من رواد الكلاسيكية, متعمدًا في تصنيف عالم نجيب محفوظ على معايير  نقدية رؤوية تخصّه هو , فالكلاسيكية توهم بتصوير المحتمل المعقول, والرومانسية توهم بتصوير الممكن المثالي, والواقعية توهم بتصوير العادي الموجود في الشخصيات أو  في الأحداث أو  في المواقف  أو في العواطف أو  في الأفكار  أو  في الأقوال أو  في الأفعال.

بينما أنصفه النقاد الغربيون, وخصوصًا النقاد السوفييت, الذين عكفوا على دراسة أعماله المترجمة إلى أغلب لغات الدول الإشتراكية باهتمام كبير  وبدقة بالغة, وإلى اللغة الروسية تُرجمت رواية " اللص والكلاب", و" السمان والخريف", و" حب تحت لمطر", و " ميرامار", و" المرايا". حيث ضمّن أحمد الخميسي كتابه المعنون ب ( نجيب محفوظ في مرآة الاستشراق السوفييتي ) أكثر  من 6 دراسات نقدية لنقّاد روس على الكثير من أعمال نجيب محفوظ  

 وقد دخل نجيب محفوظ في عالم القارئ السوفييتي تحت اسم أديبنا مع أهم الشخصيات العالمية الأدبية والسياسية في أكبر موسوعتين سوفييتيتين, الأولى: الموسوعة الأدبية, والثانية : الموسوعة السوفييتية العامة .

من ضمن ما جاء فييهما:

" نجيب محفوظ أديب مصري من مواليد 1911, ولد في أسرة موظف صغير , أنهى كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1934. بدءًا من سنة 1959 عمل رئيسًا لمجلس إدارة مؤسسة السينما المصرية. صدرت أولى رواياته التاريخية عام 1939. مال بعد ذلك إلى الرواية الاجتماعية برؤية واقعية نقدية, ألقت رواياته الضوء على حياة الأوساط البرجوازية الصغيرة والمتوسطة في القاهرة على عهد النظام الملكي, ويتضح ذلك خاصة في ثلاثيته" بين القصرين" و" قصر الشوق", و"السكرية" .....[6] 

فإذًا, اعتُبر نجيب محفوظ من أشهر الشخصيات العربية التي لمع نجمها في سماء العالمية,فهو أول أديب عربي يفوز بجائزة نوبل, ما مثّل اعترافًا عالميًّا غير مقتصر على أعمال نجيب محفوظ فحسب, بل يتعداه إلى التأكيد على المستوى العالمي الذي وصل إليه الأدب العربي والثقافة العربية بالعموم, مستوى يدحض المزاعم والدعاية الإسرائيلية والصهيونية المعادية للعرب.

وقد جاء في جريدة البرافدا الناطقة بلسان الحزب بتاريخ 25/ 11/ 1988تعليقًا على فوز نجيب محفوظ بالجائزة على كامل الصفحة السادسة, ما سنقتطعه تاليًا:

"..... لعل السبب الأول في شعبية وانتشار الكاتب أنه ممثّل نادر للواقعية النقدية, يكتب بتعاطف حار عن الفئات الفقيرة والمطحونة في المجتمع المصري, واستحوذ على اهتمام الكاتب في السنوات الأخيرة العالم الباطني النفسي لأبطال رواياته. وهو أديب لا يحلّق فوق السحب, ولا يؤلف الروايات العاطفية المنقطعة الصلة بالواقع, فأبطال رواياته يعيشون في معترك الحياة ويعانون شقاءها..... " .

أعتقد أن هذا ردًا مفحمًا ومنصفًا  على ما أورده لويس عوض في حق عملاق الأدب الواقعي.  

مكسيم غوركي:

أما مكسيم غوركي, فلقد كتب سيرته الذاتية كاملة في ثلاثيته المكوّنة من ثلاث مجلدات, المجلد الأول كتاب ( طفولتي) كتبه في العام 1928, ذكر  فيه اسمه الحقيقي أليكسي مكسيموفيتش بيشكوف, وهو الطفل الذي سيصبح كاتبًا يوقع أعماله باسم مستعار هو " مكسيم غوركي", في ذلك المجلد يسطر ماكسيم غوركي طفولته البائسة التي تبدأ بموت والده بمرض الكوليرا الذي أصاب روسيا القيصرية في تلك الفترة , وهوطفل في عامه الثالث, في ذات الوقت الذي تلد فيه أمُّه أخاه الذي لم تُكتب له الحياة, يضطر الطفل ألكسي للسفر مع أمه(فاريوشا) وجدّته( أكولينا إيفانوفنا) إلى بيت الجدّ, ليجده بيتًا تسوده الصراعات العائلية, الخال ميخائيل المنافق والخال ياكوف الكافر  والجبان,  الجدّ المستبد القاسي, الذي يعالج هفوات عائلته بالضرب والجلد الرجال والنساء والأطفال على حد سواء, مجنون إلى حدّ ما, لكنه ليس شريرًا بالمطلق, وما جنونه إلا انعكاس لطفولة قاسية عاشها, الجدّة الطيبة التي تتعهد أليوشا اليتيم بعطفها وحنانها, ولكنها مدمنة على الشراب لتهرب المتاعب والصراعات التي تعيشها مع زوجها الطائش البخيل الذي اضطرها إلى أن تعمل لكسب عيشها بعد أن منع عنها المال, تدافع عن الطفل وتحميه من سوط جدّه وتحكي له القصص فهي حكّاءة بارعة,  الأم ( فارفارا) التي لم تتحمّل فكرة البقاء في بيت العائلة المحكومة ببطرياركية الأب والأخ, فتترك طفلها وهو في سنوات الطفولة الأولى في عهدة الجد والجدة وتغادر  هائمة على وجهها لتتزوج ثانية, عن هؤلاء الأشخاص وغيرهم ممن شهدهم في طفولته  يقول مكسيم غوركي : "[7] في طفولتي أصوّر نفسي كخلية نحل, وضع فيها مختلف الأشخاص البسطاء العاديين مثلما النحل معارفهم وأفكارهم عن الحياة, وأثروا روحي بسخاء, كل بما استطاع, وكثيرًا ما كان هذا العسل قذرًا مرًّا, ولكن كل معرفة هي مع ذلك عسل".

في الثلاثية حمّل الكاتب مكسيم غوركي نفسه مسؤولية الدعوة للنهوض بالطبقات الفقيرة المعدمة من المجتمع الروسي, التي كانت تعيش صراعات وأزمات أقل ما يمكن أن يقال غيها أنها فوق حدّ الاحتمال البشري, ما فرض عليهم اعتياد الحزن والتعامل معه وكأنه لعبة عليهم أن يتسلّوا بها, حتى يغدو الحريق تسلية مثيرة وإن أكل البيت والمصبغة مصدر الرزق والمعيشة, مجتمع منهار على كل المستويات, القيم العائلية في الدرك الأسفل, يفكّر الولد جديًّا بقتل أبيه, ويضرب الزوج زوجته  قبل معاشرتها حتى الموت, يُخرِج الفقر الأطفالَ للعمل قبل أن تتبنّى أجسادهم, يضر الأب أطفاله ضربًا مبرحًا لأسباب واهية وهو يعتقد أنه يربيهم, هو مجتمع تتشابه به قصص المتألمين والمهمشين والمعذّبين, وهم الطبقة العريضة من ذاك المجتمع, لذلك كان مكسيم غوركي حريصًا على التركيز على المجتمع الروسي ككل, وليس على الفرد, والهدف الحلم الذي كان حريصًا عليه هو أن يتخلّص المجتمع من هذه الآلام المهولة ويخرج من ذاك الجنون باتجاه نهضة اجتماعية تحفظ للإنسان الروسي كرامته ككائن بشري, ويحدّد جوركي سببًا آخر لعرض جنون ذلك المجتمع, وهو سبب يعود إلى إيمان غوركي بالإنسان الروسي وبسرعة نماء الخير فيه, ولذلك آمن بنجاح النهضة, يقول في كتاب طفولتي:

" حين أذكر شناعات تلك الحياة الروسية الهمجية أتساءل أحيانًا أكانت تستحق أن يتحدّث المرء عنها؟ لكني اقتنعت بعد تفكير أن من الواجب أن أعرضها, لأنها تشكّل الحقيقة الشريرة الدنيئة التي لم تُستأصل شأفتها بعد حتى اليوم الحاضر , غنها تمثل حقيقة يجب معرفتها حتى أعمق جذورها, كي ننزعها بعد ذلك من حياتنا الكئيبة الملطخة بالعار, ننتزعها من صميم نفس الإنسان وذاكرته.  ولكن هناك سببًا آخر  أكثر رضى يدفعني إلى وصف هذه الأهوال المقيتة... إن الإنسان الروسي يملك من الفتوة وسلامة الفكر ما يكفي كي يُبيد مثل هذه الأشياء...إن حياتنا لرائعة , ليس لأنها نمت في تربة من الحيوانية فحسب , بل لما يتضوأ وراءها من قوى خلاقة براقة وصحية, وإن اثر الخير ليتضاعف, وإن شعبنا سوف يستيقظ أخيرًا غلى حياة ملاى بالجمال, مشعّة بالإنسانية".

ينتهي الجزء الأول من الثلاثية بموت الأم( فارفارا) بعد فترة من زواجها الثاني ويكون أليوشا قد بلغ عشر سنوات من عمره, بعبارة يقولها الجد  البخيل: " ليس لك مكان بعد اليوم هنا.. فقد آن لك أن تخرج إلى ما بين الناس لكسب القوت" .

يبدأ الجزء الثاني من السيرة معنونًا ب ( بين الناس) وقد لفظته الحياة يتيم الأبوين مشرّدًا من بيت الجد, ليدخل في عرين الحياة الروسية الفقيرة, متغلغلًا في طبقة العمال الفقراء, طفلًا في عالم الكبار المخيف الذي لا يعرف عنهم شيئًا, وحيدًا مفتقدًا لقصص الجدة وحنانها, ابتدأ العمل كطاهٍ في منزل, احترقت يداه من الحساء المغلي فدخل المستشفى للعلاج من الحرق, انتقل للعمل كخادم في بيت أخت جدّته, المرأة القاسية التي استغلته أبشع استغلال, يقول عن تلك المرحلة: " كنت لا أرى فيما حولي إلا الشر الذي لا يعرف الشفقة... هنا يخاطبني الجميع قائلين: اخرس أيها المغفل, وتعلّم كيف تطيع الكبار"  هرب أليوشا من جحيم ذلك المنزل إلى الشوارع والأرصفة, وعاش على ما يجود به عليه الحمّالون  في المرفأ, وانضم إلى أحد المراكب ليعمل في غسل الصحون, وهناك تعرّف على عدد كبير من كبار السن, متأثّرًا بالأيديولوجيا المختلفة لهؤلاء العمال حيال الحياة ووجود الله والإيمان, ورفضه لبعض الآراء المرعبة, وحيرته أمام تساؤلات مربكة, واجهته صدمة فكرة مفادها أن " الإنسان هو العدو الألد للإنسان" , دخل عالم المشاجرات وقصص البحارة ومعاناتهم التي كانت نتيجة حتمية عن فقد القيم الاجتماعية والدينية في المجتمع الروسي القيصري. يتنقّل بعدها أليوشا في أعمال وأشغال عديدة, يعمل في محل لصنع التماثيل والأيقونات الدينية, يعد للعمل كخادم ومربٍ للأطفال, ثم مراقبًا في مدينة يراقب العمال وهم يهدمون دكاكين حجرية في الخريف ويعيدون بناءها في الربيع.  إن أبرز المحطات التي توقف عنده ماكسيم غوركي في هذا الجزء من سيرته الذاتية هو ولعه بالقراءة وبداية تشكّل رؤيته في عالم الكتابة والتأليف الأدبي, كان الكتاب حلم صعب المنال عند غوركي, وكان يتجشم عناء كبيرًا لكي يحظى بإضاءة تمكّنه من قراءة كتاب, أقلها أن يقف تحت ضوء شموع الأيقونات يقرأ, ينام في مكانه حين يتعب ويستيقظ على صراخ وضرب المرأة العجوز القاسية, كانت القراءة  الكتب وخصوصًا الدينية منها شرًا مستطيرًا يجلب له الكثير من التوبيخ والشتائم, يدين بالفضل الكبير في مساعدته على إشباع شغفه بالقراءة إلى زوجة الخياط التي أهدت إليه كتاب من تأليف مونتبيان فقرأ أول سطر في حياته: "البيوت كالبشر, لكل منهما ملامح خاصة" . مكّنه الكتاب من الانتقال لعالم آخر, تعرّف فيه على شخصيات عديدة, أبطالًا ونبلاء, وأشرارًا , تتطابق شخصياتهم مع شخصيات واقعية يعاصرهم غوركي في حياته الآنية, وفكّر مرّة بمساعدة هؤلاء الأبطال, ليجد أنهم أبطال على ورق, و الأجدى أن يساعد الذين يعايشهم, لكن كيف وهو مثلهم؟! يقول : " أثارت الكتب في نفسي شيئًا فشيئًا ثقة لا تتزعزع وهي أني لم أعد وحيدًا في هذا العالم, وأني سأشق لنفسي دربًا في الحياة. كل كتاب كان يبرز بصورة أوضح الفارق بين الحياة الروسية والحياة في البلدان الأخرى, ويبعث الاشمئزاز في نفسي, وفي ذات الوقت يزداد شكي في صحة أقوال هذه الوريقات المهترئة المصفرة ذات الجوانب القذرة".

الشخصية الأكثر تأثيرًا في حثّ مكسيم على القراءة كانت الملكة (مارغو )التي التقاها  أثناء هروبه من عمله على ظهر مركب نهري في الفولغا, مثقفة جدًّا وإليها يُرْجِع ماكسيم غوركي الفضل في جعله كاتبًا, أهدت إليه كتاب ( أسرار  سان بطرسبورغ) ونصحته بقراءة الكتب الروسية, وأن يطلع على صميم الحياة الروسية,  اعتبرها ملاكًا مسخّرًا له ليُفاجأ بعدها برؤيتها تمارس الجنس مع ضابط شاب, بعدها أهدته مجموعة من كتابات بوشكين شاعر روسيا العظيم, الذي كان تأثيره على مكسيم عظيمًا حتى أنه حفظ كل قصائده, ومردّ ذلك التأثير لطبيعة أشعار بوشكين السياسية المناهضة للتسلط والطغيان, والدفاع عن حقوق الشعب والعمال المهدورة تحت مداسات التسلط, والتي كان جوركي يكتوي بسياطها . ينتهي الجزء الثاني من الثلاثية بتصميم جوركي الرحيل إلى بلدة قازان,بعلّة البحث عن وسيلة للتعلّم والدراسة.

الجزء الثالث بعنوان ( جامعاتي), وهو  الجزء الذي يقف كنسيج لوحده, كقطعة أدبية استثنائية, [8]يتحدّث عن الكيفية التي انتقل فيها من الدراسة إلى الكتابة. صدر هذا الجزء في العام 1923   في وقت بلغ فيه غوركي ذروة شهرته الأدبية, وارتبط اسمه باسم صديقه لينين, ما مكّنه من أن يعبّر  عن تحفظات عدّة حول الكيفية  التي تُدار بها شؤون الثورة وشجون الدولة....

في بداية هذا الجزء يكون غوركي بعمر 17 سنة وقد وصل إلى مدينة قازان الجنوبية وهدفه أن يتمكن من التعلم في الجامعة,  لكنه كان مضطرًا للعمل على ضفاف نهر الفولغا مع الفلاحين الحفاة البؤساء, حيث وجد نفسه ملزم بأن يشاطرهم بؤسهم وعداءهم للعالم كله, يقول:" لقد كنت أحب حقدهم اتجاه الحياة, كنت أحب موقفهم العدائي الصاخب والوقح اتجاه أنفسهم, فالحقيقة أن كل ما كنت عشته أنا قبل أن ألتقي بهم , كان يجتذبني الآن نحو أولئك الأشخاص ويعطيني الرغبة في الغوص في عالمهم الرهيب".

غوركي الذي كان يعتزم الدراسة في الجامعة وجد نفسه يعمل في فرن , ويختلط بالأوساط الطلابيةالمتمردة الراديكالية, يشارك في اجتماعاتهم السرية ويشاركهم بقراءة الكتب الممنوعة, خليط فكري عجيب فيه الشباب الغاضبون وفاقدي الإيمان المتعصبين, والمتأثرين بأفكار  تولستوي الإنسانية اليوتوبية الحالمة, وأصحاب الأفكار الكبيرة, وقلب جوركي موزّع بين" أحلام تزرع الطيبة والعدالة والإيمان, ويأس يولد, بخاصة من رحم الفاقة" هذا التشرذم اليائس جعله يفكّر مرة بالانتحار, ولم يجد حلّا للخلاص من تلك الفكرة إلا بالقراءة, فانكب عليها , يقرأ كل ما يقع بين يديه من كتب, ليكتشف أن تلك القراءات ستكون جامعته الحقيقية, في البداية قرأ لكبار الكتّاب الروس: بيساريف, تشيرنيشيفسكس , بوشكين, نيكراسوف.... هؤلاء الذين حوّلوه عن فكرة الانتحار ليصبح سؤاله الأساس: كيف كان يمكنني أن أحرم نفسي من حياة تشمل كل هذه النصوص والاطلاع على كل هذه الأفكار؟

يحكي غوركي في هذا الجزء كيف بنى علاقة جديدة مع الروح الفلاحية الروسية, ما جعله مشتبهًا به سياسيًا, وملاحقًا من قبل الشرطة التي كانت تراقبه, فأصبح كثير التنقل, وتمكن من الإفلات من قبضة الشرطة التي أرادت الإمساك به لكي تحجزه في معسكرات الاعتقال في سيبيريا, في تلك المرحلة تعرّف على الكاتب (كورولنكو )الذي شجعه على الكتابة, وإليه يعود الفضل بدخول جوركي المجال الأدبي, إلا أن دخوله عالم كتاب " رأس المال" لكارل ماكس  أعاده إلى الواقع, منقذًا إياه من الغرق في مثالية كان واضحًا جدًّا أن قراءاته هيأته لها, فبدأ ينشر قصصه الأولى التي لقيت ترحيبًا في المجلات الراديكالية الثورية. كان ذلك في العام 1901العام الذي شهد بروز  نجم غوركي في أفق الثقافة الروسية. وبذلك يكون غوركي قد قدّم من خلال مذّكرات ممكنة الحدوث, إن لم نشأ تصديقها كحياة فعلية غير مغالٍ فيها,صورة نموذجية حيّة لحياة شاب روسي عند نهاية القرن التاسع عشر.

 

 

المراجع

 

1-مفهوم السيرة الذاتية في الأدب – كتابة ليلى العاجيب –موقع موضوع mawdoo3.com -4 سبتمبر 2016

2-  أصداء السيرة الذاتية – المعرفة m.marefa.org

3-نجيب محفوظ بين القصة القصيرة والرواية الملحمية- ابراهيم فتحي – إبداعات التفرغ- المجلس الأعلى للثقافة – صفحة 255

4- نجيب محفوظ في مرآة الاستشراق السوفييتي – أحمد الخميسي – المجلس الأعلى للثقافة – عام نجيب محفوظ 2011-   ثلاثية الإبداع  الواقعية النقدية- يوري. روشين – صفحة 125

5- نجيب محفوظ بين القصة القصيرة والرواية الملحمية – إبراهيم فتحي- المجلس الأعلى للثقافة – إبداعات التفرغ- القاهرة- 2010- صفحة 181

6- الموسوعة الأدبية السوفييتية. موسكو عام1967

7- ثلاثية غوركي- عن كتاب مطالعات في الكتب- عبد الجبار داوود البصري بغداد1978   ملاحق جريدة  المدى almadasupplement.com-2010/11/05 

8- "ثلاثية السيرة الذاتية " لغوركي : الكتب جامعة المبدع الحقيقية – إبراهيم العريس- المصدر : الحياةaljaml.com

 



[1] -مفهوم السيرة الذاتية في الأدب – كتابة ليلى العاجيب –موقع موضوع mawdoo3.com -4 سبتمبر 2016

[2] - أصداء السيرة الذاتية – المعرفة m.marefa.org

[3] - نجيب محفوظ بين القصة القصيرة والرواية الملحمية- ابراهيم فتحي – إبداعات التفرغ- المجلس الأعلى للثقافة – صفحة 255

[4]- نجيب محفوظ في مرآة الاستشراق السوفييتي – أحمد الخميسي – المجلس الأعلى للثقافة – عام نجيب محفوظ 2011- ثلاثية الإبداع  الواقعية النقدية- يوري. روشين – صفحة 125

[5]- نجيب محفوظ بين القصة القصيرة والرواية الملحمية – إبراهيم فتحي- المجلس الأعلى للثقافة – إبداعات التفرغ- القاهرة- 2010- صفحة 181

[6] -الموسوعة الأدبية السوفييتية. موسكو عام1967

[7] - ثلاثية غوركي- عن كتاب مطالعات في الكتب- عبد الجبار داوود البصري بغداد1978  ملاحق جريدة  المدى almadasupplement.com-2010/11/05

[8] -" ثلاثية السيرة الذاتية " لغوركي : الكتب جامعة المبدع الحقيقية – إبراهيم العريس- المصدر : الحياةaljaml.com

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الفلسفة الذرائعية العربية واشتراح المصطلح رواية (رحيل السومري الأخير) للأديب والمنظر عبد الرزاق عوده الغالبي إنموذجًا دراسة ذرائعية مستقطعة بقلم الناقدة الذرائعية د. عبير خالد يحيي

أدب المرايا من الكلاسيكية إلى المعاصرة في رواية / نساء المحمودية / للأديب المصري منير عتيبة دراسة ذرائعية تقنية بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

حمولةُ الرمز التقني من سخرية وتهكّم غضبٌ إنساني يدلقه قلم الأديب محمد إقبال حرب في روايته / العرافة ذات المنقار الأسود/ تعضيد نقدي ذرائعي بقلم الناقدة الذرائعية د.عبير خالد يحيي