الواقعية في أدب ألكسندر بوشكين بقلم الناقدة الذرائعية د. عبير خالد يحيي

 



تقول الباحثة المتخصصة في الأدب الروسي ناتاليا سيرجفنا [1]:

" إن بوشكين جسّد روح الحياة الروسية, وهو أول من دعا إلى المذهب الواقعي وله الفضل في صياغة اللغة الروسية", وأضافت : " في زمنه كانت اللغة الفرنسية هي لغة القصور والأدب, مما يعني أن بوشكين هو الذي أعاد للروسية كرامتها وأصبحت بفضله لغة جبّارة" .

لقد لخصت الباحثة فعليًّا مسيرة هذا الأديب الكوني الفذ بجمل قليلة, كبست سيرة مثيرة, ضاجّة بالأحداث والإنجازات, سأقوم بفردها على بياض صفحات قليلة متبعة نفس النهج بالتلخيص والتكثيف:  

ولد بوشكين في 6 حزيران 1799 في موسكو عاصمة روسيا الاتحادية, لعائلة أرستقراطية كبيرة, كان عمّه شاعرًا كبيرًا واسع الثقافة, تعهّد بوشكين منذ الطفولة وغرس فيه حب الأدب الكلاسيكي الفرنسي, تربى على أفكار الحرية وحب الوطن, وأغرم بالشعر  ونبغ في نظمه, عاش حياة أرستقراطية في مدينة بطرسبورغ, ومع ذلك كان أول من ثار أدبيًّا على أفكار وسلوكيات الطبقة الأرستقراطية التي ينتمي إليها, تأثّر بالثورة الفرنسية والأفكار التنويرية القادمة من أوروبا الغربية, فتبنّى الاتجاه الفكري الليبرالي,  غضبت عليه السلطة القيصرية ونفته إلى جنوب روسيا, حيث بقي فيها فترة ما بين 1824- 1820, بعدها تسلمته عائلته وأجبرته على البقاء في المنزل أثناء اندلاع الثورة ضد القيصر, بعد فشل الثورة الليبرالية,  استدعاه القيصر إلى العاصمة ليعمل بوظيفة ( مؤرّخ رسمي للبلاط), وهكذا انتقل من النقيض إلى النقيض, في العام 1831  تزوّج ( ناتالي غونتشاروفا ) الشابة الفاتنة التي كانت السبب في مقتله في حادثة المبارزة الشهيرة  في العام1837, التي كانت النتيجة المدروسة للمؤامرات التي حيكت في بلاط القيصر للتخلص منه, حين قام أحد النبلاء الفرنسيين المقيمين في موسكو بمغازلة زوجته الجميلة, فاعتبر بوشكين هذا العمل إهانة له وتعديًا على شرفه وحرمه المصون فتحدّاه وطلبه للمبارزة, وكانت تلك العادة السائدة آنذاك, وانتهت المبارزة بالمسدسات بمقتل بوشكين برصاصة استقرت في بطنه, أنهت حياته بعد ثلاثة أيام, ليُكتب في عداد الأموات بعمر الثامنة والثلاثين.

أمّا سيرته الأدبية :

فقد تفتّحت موهبته الشعرية بسن مبكّر فنشرت له مجلة " رسول أوروبا" أولى قصائده. ومعلوم أنه دخل وزارة الشؤون الخارجية كموظف عام 1816 لكن القيصر فصله من الوظيفة ونفاه إلى جنوب البلاد بسبب نشره قصائد ثورية مضادة للسلطة القيصرية. فقد كان بوشكين واسع الآطلاع على الأدب الفرنسي, خاصة مؤلفات موليير, وفولتير وسواهما, وبسبب تأثره بفولتير  نشر قصائد مضادة للدين المسيحي, ما أثار  عليه غضب القيصر  والكنيسة الأرثوذكسية, كان نهمًا للقراءة  والمطالعة لا يشبع من الروائع, ومن المؤكد أنه اطلع على قصائد اللورد بايرون, وكذلك على أدب شيكسبير. وكتب متأثّرًا به واحدًا من أعماله الهامة وهي مسرحية " محاكمة الناس",1831 والتي تدور أحداثها في القرن السابع عشر ,حيث كانت روسيا تعيش صراعًا سياسيًّا واجتماعيًّا, كانت المسرحية متقاطعة مع المبادئ الشعبية لمسرحيات وليام شيكسبير التي كتبت للعامة, تتمثّل أهمية تلك المسرحية في أنها أظهرت قدرة بوشكين على بنائها وأخذ أحداثها باتجاه نفسي واجتماعي وتاريخي, ما جعلها واحدة من أهم الأعمال الدرامية في تاريخ الأدب الروسي.

كان بوشكين منفتحًا على التأثيرات الأدبية والفكرية والروحية المختلفة, ولا أدل على ذلك من تأثّره بالشاعر الإنجليزي اللورد بايرون في كتابه( سجين القوقاز) 1821 واصفًا فيه التقاليد العريقة للشعب الشركسي الذي يسكن جبال القوقاز.

كما كان ب شديد التأثّر بالثقافة العربية, وبالقرآن الكريم سيد النصوص العربية,حيث زيّن الكثير من قصائده بعبارات تناصية بلاغية قرآنية. تجلّى ذلك بوضوح في ملاحمه الشهيرة, مثل " النبي", أو " الرسول" , و " من وحي القرآن, و" ليلى العربية ", وكذلك " المغارة السرية" التي استوحاها من سورة الكهف في منفاه بمغارة في شبه جزيرة القرم عام 1820, في قصيدة " روسلان ولودميلا ", وهي القصيدة التي هوجمت من قبل المدرستين الأدبيتين في ذلك الوقت,الكلاسيكية والرومانسية[2], وهي قصيدة شعرية مكتوبة بطريقة السردية المستوحاة من شعراء مثل فولتير , لكنها مطعّمة بالفلكلور والتراث الروسي, يتنقّل فيها بين حكايات العالم السحري في ألف ليلة وليلة, باحثًا عن العلاقة الصحيحة بين الحاكم والمحكوم في شخصية هارون الرشيد, هناك أيضًا قصيدته " لما هي حزينة كليوباترا"  وغيرها من القصائد التي استوحاها من الشرق العربي والإسلامي.

رغم أن قصائده الشعرية أكّدت مكانته الأدبية, وجعلته الأهم في مجال الشعر الرومانسي, الذي أبرز فيه نزعته  العاشقة للحرية, لكن ذلك لم يرضي طموحه, فاتجه نحو العمل السردي, فبدأ عام 1823 بكتابة أهم أعماله وهو  (سفغيني أونيغين) الذي عمل فيه لمدة ثمان سنوات, صوّر فيه الحياة الروسية من خلال شخصياته الرئيسية, أونيغين, المشكّك اليائس, لينسكي الشاعر الرومانسي المحب للحرية ( متناصًا مع نفسه), تاتيانا البطلة مجسّدةً المجتمع الأنثوي الروسي, كانت القصة مستمدة من واقع الحياة الروسية, بعيدة كل البعد عن أي عالم متخيّل, تدور أحداثها بين موسكو وسان بطرسبرغ.

لقد استغل بوشكين فترة منفاه, فقام بدراسة التاريخ الروسي لحياة الفلاحين والفلكلور الخاص بهم, فجاءت  قصيدته " الغرفة الجسر" 1825 مثالًا واضحًا عن الحياة الروسية البسيطة والطبيعية.  

بلغ من تأثره بالواقع الإنساني أنه تحدّث في قصائده عن شعب الغجر الذي  تعرّف عليه وخالطه فترة من الزمن.

يجمع النقاد على أن بوشكين هو الذي أسس الأدب الروسي الجديد عن طريق تحريره من التبعية للآداب الأجنبية رغم تأثّره بها, فقد كان يجيد التخلّص من التأثّر بالآخرين بعد أن يصهر  تجاربهم في داخله ليعيد إنتاجها منتجًا جديدًا, منتج روسي نقي بالكامل, بأسلوبه وأدبه الخاص, فهو شخصية متمرّدة بشكل عام, ترفض الاستبداد وتنشد الحرية, كان غنيّا مترفًا ومع ذلك اختار الطريق الصعب, طريق الأدب, والدفاع عن المظلومين, ولعل هذا هو سبب عظمته, أديب اختار الالتصاق بواقع البائسين والمسحوقين حدّ الانصهار.

كل الأدباء الروس الكبار الذين جاؤوا من بعده, كانوا تلامذته, منهم غوغول, وديستويفسكي , وتوليستوي وباسترانك وغوسمان ....

في خطاب شهير ألقاه ديستويفسكي بمناسبة الاحتفال بذكراه وتدشين نصب خاص به في وسط موسكو قال:

 "لقد كان بوشكين كاتبًا  كونيًّا لأنه كان روسيًّا حقيقيًّا,  وكان روسيًّا حقيقيًّا لأنه كان كاتبًا كونيًّا منفتحًا على جميع الثقافات والحضارات, فالكونية ليست ضد الخصوصية كما يتوهّم ضيّقو العقول, وإنما هي توسيع لها أو تكميل أو تعميق, فبوشكين لم يستطع أن يتوصّل إلى الكونية إلا بعد أن هضم تراثات الآداب الأخرى كالأدب الفرنسي, والأدب الإنجليزي, والأدب العربي,إلخ, وصهرها كلها في بوتقة الأدب الروسي والشخصية الروسية " [3]

وما يؤكد أن بوشكين كان مؤسس الأدب الروسي الجديد, هو استحالة أن نتحدث عن كبار الأدباء الروس الذين جاؤوا بعده من دون أن نذكره, صحيح كان هناك أدب روسي قبل بوشكين, لكن الأدب الروسي الحديث ولد معه, مع أسلوبه الشاعري وواقعيته, مع ملحميته, فهو الذي أسس المسرح الروسي وكان قبله فقيرًا وبدائيًّا, وهو الذي دشّن الرواية الروسية التاريخية عندما كتب قصة "بنت القبطان", وكان أول من كتب الرواية الخيالية والشعر الشعبي الذي يسرد الحكايات العامية المنتشرة في بلاده,

ديستويفسكي نفسه تأثر ببوشكين, هوسه الجنوني بالواقعية صورة عن واقعية وتمرّد بوشكين, ورواية " الحرب والسلام " لتوليستوي  استمدت واقعية أفكارها من قصة بوشكين " بنت القبطان" 

ينصفه ديستويفسكي ويقرّ حقيقة فيقول : " كلنا خرجنا من معطف غوغول, ولكن ألم يكن معطف غوغول منسوجًا من قميص بوشكين ؟[4] ألم يكن بوشكين هو الذي ألهم زميله الأصغر منه مواضيع كتاباته, خاصة روايته الشهيرة " الأرواح الميتة" ؟ وحتى تورغنييف تأثّر به في العديد من كتاباته, نقول ذلك على الرغم من أنه عاش معظم حياته في الغرب, ولم يكن يتردّد على روسيا إلا من حين لحين" .

 

المصادر

1 - الكسندر بوشكين .. أمير الشعراء الروس نصير الفقراء – مقال ل محمد بركة – موقع العين الإخبارية – 2019/10/15

2- بوشكين .. شاعر الواقعية في العصر الرومانسي- مقال ل رشا سلوم – موقع الثورة أون لاين- 11 حزيران 2019- العدد 16997

3- بوشكين شاعر روسيا الأكبر- صحيفة الاتحاد – الملحق الثقافي – 20 يونيو 2018

4- نفس المصدر السابق

 

    

 



[1] - الكسندر بوشكين .. أمير الشعراء الروس نصير الفقراء – مقال ل محمد بركة – موقع العين الإخبارية – 2019/10/15

[2] - بوشكين .. شاعر الواقعية في العصر الرومانسي- مقال ل رشا سلوم – موقع الثورة أون لاين- 11 حزيران 2019- العدد 16997

[3] - بوشكين شاعر روسيا الأكبر- صحيفة الاتحاد – الملحق الثقافي – 20 يونيو 2018

[4] - نفس المصدر السابق

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الفلسفة الذرائعية العربية واشتراح المصطلح رواية (رحيل السومري الأخير) للأديب والمنظر عبد الرزاق عوده الغالبي إنموذجًا دراسة ذرائعية مستقطعة بقلم الناقدة الذرائعية د. عبير خالد يحيي

أدب المرايا من الكلاسيكية إلى المعاصرة في رواية / نساء المحمودية / للأديب المصري منير عتيبة دراسة ذرائعية تقنية بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

حمولةُ الرمز التقني من سخرية وتهكّم غضبٌ إنساني يدلقه قلم الأديب محمد إقبال حرب في روايته / العرافة ذات المنقار الأسود/ تعضيد نقدي ذرائعي بقلم الناقدة الذرائعية د.عبير خالد يحيي