قراءة في رواية (بين حياتين) للروائية الدكتورة عبير خالد يحيي بقلم الأديبة السورية فاطمة الطايع

 




بإبداعٍ كبير سطّرت روائيًا الدكتورة والناقدة الذرائعية عبير يحيى في روايتها "بين حياتين" مراحل مفصّلة من تاريخ سوريا نجحت فيها ببراعة مطلقة باختيارها لشخصية غالية لتأخذ دور البطولة في روايتها, وفي زجّها لبعض الشخصيات الثانوية في بؤرة الأحداث كشخصية أم سامي صهر غالية, هذه المهندسة المشوّهة بالحروق والتي يفكر فيها ابنها دومًا ويحلم بالتعرف عليها كما ورد في الصفحة ١٦٢ (لم أشمّ رائحة أمي قطّ، وكلّما تنشقت عطرً ا شذيًّا أقول لعلّ رائحتها مثل هذا العطر)

 وحين تسنح له الفرصة بزيارتها ترفض لقاءه وتتبرأ منه . ومن خلال هذه الشخصيات استطاعت الكاتبة بسردها الشيق أن تتنقل برشاقة لغتها من جيل الآباء :غالية، مصطفى، عامر، سما, إلى الجيل السابق :الأم والأب والجدة ثم جيل الأحفاد نور، سامي، سليم، وتكون بذلك قد رصدت أحداث ما يقارب النصف قرن وحيوات ثلاثة أجيال خلال حروب مؤثرة مرّت على سوريا وثّقتها الكاتبة في أثناء السرد.

لم تسرد د.عبير يحيى أحداث الرواية بشكل متسلسل بل استخدمت تقنية الإسترجاع (flashback) أي الرجوع من الحاضر إلى الماضي ثم لتعود وتسير بالقارئ إلى الأمام بتقنية الاستباق (flash_forward) منطلقةً من الحاضر إلى المستقبل وكأنها في سرد تناوبي ولكل تقنية وظيفتها التي تخدم الحبكة الفنية للرواية وتسهم في تماسك البنية العامة للنص الروائي ثم تأخذنا لنهاية القصة المباغتة باختفاء مصطفى بعد أن أخذ نصيبه من عقوبة غالية الصّارمة بصفعة على وجهه.

استهلَّت الكاتبة مطلع بعض فصول روايتها بنصوص شعرية رائعة أخذتنا إلى عوالم ذاتها و صوت القرين الذي كان يؤنسها دوماً و يلهمها الشعر. كما أبدعت في وصف البيئة الساحلية التي ولدت وترعرعت على شطآنها فأخلصت لتاريخ مدينتها طرطوس التي تعشقها ووصفت عادات وتقاليد سكان الساحل السوري وعشقهم الأزلي الذي توارثوه عبر العصور للبحر حين تحدثت عن رحلة جدّتها إلى مدينة اللاذقية في فصل'أيام عذرية' حيث تنقّلت الكاتبة من خلال كتابة سردية رشيقة من وصف الأمكنة والتاريخ وبين وصف علاقتها الوثيقة بجدتها الحانية مما يدل على وجدانية سرد الروائية فهذه الرواية ليست سيرة ذاتية وتدوين للوقائع بطريقة علمية تقريرية في بعض الأمكنة وحسب بقدر ما هي سيرة ذات ووجدان لعواطف جياشة مكبوتة؛ فأحيانا يعلو صوت الضّمير حين تشعر غالية بعقدة الذنب أنها بسبب فستانها الأصفر الذي أهدتها إياه عمّتها قد تسبّبت بحادث والدها الأليم وبَتْرِ يسراه .نعم كل هذا يوحي للمتلقي كمية الإحساس المرهف الذي تمتلكه الرّوائية والذي تحوّل بدوره إلى خيال جامح لتنطلق الطّفلة التي في أعماقها كفراشة تعشق الحرية والمدى. وإذا كانت بعض الروايات السردية على نطاق الوطن العربي تجسد المجتمع الأبوي

(The patriarchal society )

وتمثل السلطة الذكورية

(Masculine Authority)

وتحتفل بثنائية الخير والشر إذ تعتبر الذكر شر والأنثى نقيضه فقد شاءت الروائية د. عبير يحيى أن تقلب هذه الثنائية ما استطاعت حيث أعطت أم مصطفى دور الأنثى المسيطرة بكل سطوتها ومهابتها _على عكس روايات الروائية الفلسطينية سحر خليفة مثلًا التي طالما اطمأنت إلى صيغة خاصة بها تساوي الأنثى المقهورة وفلسطين المحتلة_ فما كان من زوج غالية هنا في "بين حياتين" إلا الخضوع لأمه المسيطرة دون احتجاج أو مساءلة ملقيا بأعباء نرجسيته وأنانيته على زوجته القويّة والمثقفة فيحوِّل كل ممتلكاتها إلى وصايته الشرعية دون علمها ويتزوج بامرأة ثانية كي يكسر ثقتها بنفسها كطبيبة ويشوش سلامها الداخلي بدل أن يحتويها ويدعمها لكل ما بذلت من أجله.

.

بالنسبة للوصف السّردي عند الكاتبة: فهو مسهب ولكن بجمال وتشويق بعيد عن الحشو يستمتع القارئ بجمال الوصف لأدقّ التفاصيل كصورة( الصّياد الصّنم الذي ينتظر أن يحقّق حلمه من تحت فَلِّينة الرّزق الطّافية على سطح البحر)، فالكاتبة تأتي بصور جميلة عميقة تمزج الواقع بالخيال مما يدل على رؤاها الخلاّقة الّلامحدودة. باختصار نجحت د. عبير يحيى في تصوير وإبراز الروح السورية من خلال شخصياتها النابضة بالحب والسلام والتي تأبى الرضوخ للحرب والاستسلام. ومهما قلنا لن نوفي الرّواية حقّها فهي متفردة بين كمِّ الروايات المتدفّقة حاليًا في الأسواق وتستحق القراءة والدّراسة النقدية والتحليل.

/فاطِمة طايع/

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الفلسفة الذرائعية العربية واشتراح المصطلح رواية (رحيل السومري الأخير) للأديب والمنظر عبد الرزاق عوده الغالبي إنموذجًا دراسة ذرائعية مستقطعة بقلم الناقدة الذرائعية د. عبير خالد يحيي

أدب المرايا من الكلاسيكية إلى المعاصرة في رواية / نساء المحمودية / للأديب المصري منير عتيبة دراسة ذرائعية تقنية بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

حمولةُ الرمز التقني من سخرية وتهكّم غضبٌ إنساني يدلقه قلم الأديب محمد إقبال حرب في روايته / العرافة ذات المنقار الأسود/ تعضيد نقدي ذرائعي بقلم الناقدة الذرائعية د.عبير خالد يحيي