وفاء اللؤلؤ

 


كلّما حزبني أمر أشدّ الرحال إليه لأُلقي فيه دواخلي، يهدهدني بذراع أمي، ويقوي من عزيمتي بلسان أبي، يأتيني بصوت أختي مناديةً : " هيا تعالي اشتقت إليك"، يسمعني ضحكات صاحباتي وربعي يتصايحن:"من يستطيع الغوص والبقاء لأطول وقت ممكن تحت الماء ؟ ".

طبعًا أنا ومن يجاريني في ذلك، يجلب لي أغاني البحَّارة الذين جابوا آفاقه منذ القدم، كم كانت أغانيهم جميلة, وكم حملت أشواقًا وقصصَ عشق وتباريح وجد، وبغفلة منه تسرّبتْ صرخاتُ ذعرٍ ترافقت مع همهمات, فهمتُ لغاتَ بعضها وجهلتُ الأخرى, لكنها بالتأكيد أدعية واستغفار واسترحام قبل موت غادر ، سمعتُ بكاءَ أطفالٍ ونساءٍ وشبابٍ وشيوخٍ لم يخبروا منه سوى الغرق، لملمَ تلك الأصوات معتذرًا مني, وقال : "سقطتْ سهوًا ...! كما سقطتْ بعض أسرار البشر...!". قلت له :

-         وهل تسقطُ الأسرار , وهل تشي بها؟

-         أوصلها فقط للمحبين 

-         ولكنها أسرار

-         نعم، لكنها قيلت لي عمدًا لأوصلها إلى من عجزتْ القلوب عن إيصالها إليهم

-         وهل بحتَ بحنيني ؟

-         لا أخفيكِ, نعم، إلى كل من كان على الضفة الأخرى.

-         بتُّ أخافُك

-         لا، لا تخافي، بقيتْ الأسرار في أعماقي, حوَّلتها إلى لآلئ في محارات من نسيان, هل تُحبين الصيد ؟

-         جدًّا

يمّمت شطر الغرب وجدته، مخلوقًا من بشر وماء، نصفه العلوي بشر ونصفه السفلي ابتلعه الأزرق، يقف ساهمًا بنظرات سابحة بملكوت الله، وكأنّه والدنيا في خصام، وقد سما حتى غاب، اقتربت منه وجدته جبلًا  تآكل رأسه بفعل عوامل  التعرية، وصبغتْ الشمسُ وجهَه وصدرَه وكتفيه وذراعيه بسمرتهاالقاتمة، قلتُ في نفسي أقتحمُ عليه خلوتَه، لعلّهُ حكيمٌ أغنمُ من حكمته : "سلامُ الله عليك أيها الطيب".

لم يحرك ساكنًا، قلتُ لعلّه لم يسمعني جيدًا، التفتُّ إلى البحر : 

" هل لك أن تخفّف هديرَ الأمواج لعلّ الطيّبَ يسمعُ تحيّتي ".

أومأ لي "أن حاضر"، سكنَ موجُه، أعدتُ إلقاء تحيّتي على ذلك الجلمود، التفتَ إليّ كأنّه ناسكٌ أفاق للتّو من تأمّلاته : "عليكِ السلامَ من ربٍ سلام".

خرجت من شفاهٍ تشقّقتْ بملوحة أرضٍ بور، وكأنّها لم ترتوِ بالكلام منذ عصور، دلّ عليها حشرجة مخيفة وكأنها تخرج من سجن مؤبد ..! استجمعتُ قواي ونظرتُ في عينيه اللتين أبتا النظر إلي : " ماذا تفعل يا أخي ؟"

حرّك رأسه مشيحًا ببصره عني, ناظرًا إلى ذلك الساحر الأزرق : " أصيد اللآلئ ".

صعقتني إجابته ..!

التفتُّ إلى عالمي أسأله: "هل يصيد كلَّ اللآلئ ؟"

قال لي :"اسأليه، فهو زائري منذ زمن، يأتيني مع الشروق، وتأخذه معها شمس الغروب، يلتحم بي كما ترَين، لا يمنعه لا قرّ ولا قيظ، أشفقُ عليه كثيرًا، لا يكلّمني أبدًا, لكنّه يسرّح نظره في أعماقي، وكأنه يحاول تعريتي، يبحث عن شيء أجهله ".

التفتُّ إليه : " أخي، هل تصيد كلّ اللآلئ ؟"

حرّك رأسه للأعلى : "لا، أحاول صيد لؤلؤتي, وفقط ".

استغربتُ جوابَه : " كيف ؟ هل لك لؤلؤة تخصُّك وحدك ؟ هل أضعتَها هنا ؟" تململ من إلحاحي، تدفّقتْ منه كلماتٍ سريعة, أراد بها إنهاء الحوار : "هي عروسي، أفلتتْ مني وأنا ألاعبها،اشتهاها هذا الغادر وأخفاها في محارة ."

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الفلسفة الذرائعية العربية واشتراح المصطلح رواية (رحيل السومري الأخير) للأديب والمنظر عبد الرزاق عوده الغالبي إنموذجًا دراسة ذرائعية مستقطعة بقلم الناقدة الذرائعية د. عبير خالد يحيي

أدب المرايا من الكلاسيكية إلى المعاصرة في رواية / نساء المحمودية / للأديب المصري منير عتيبة دراسة ذرائعية تقنية بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

حمولةُ الرمز التقني من سخرية وتهكّم غضبٌ إنساني يدلقه قلم الأديب محمد إقبال حرب في روايته / العرافة ذات المنقار الأسود/ تعضيد نقدي ذرائعي بقلم الناقدة الذرائعية د.عبير خالد يحيي