وانتصرت



آااااااخ ......
صرخة نبتت في أديم القلب ونمت وتصاعدت لتطلقها الروح عاليةً في فضاءات الرحمة، "وهل هناك رحمة ؟
" سألت أمي عنها يومًا فنهرتني : " وهل نتكاثر إلّا بها؟ حتى الحيوانات تتراحم، هي رحمة قسّمها الله إلى بضع وتسعون جزءًا ترك لنا واحدًا نتراحم به واحتفظ ذو الجلال بالباقي ؟"...

لكن, يبدو أن الجزء المقسوم للعباد قد بدأ بالتلاشي، أو لَعَلَّه يهرب خائفًا من هول ما يرى ...

تتهاوى أعضائي العلوية إلى الأسفل كفعل المغناطيس بالحديد، الحديد صلب لكنه يقرّ بعجزه أمام المغناطيس، أحاول جاهدةً أن أقاوم السقوط، لكني أعجز ! قيودٌ تأبى إلّا أن تزيّن معصمي بل وأخرى تصعد إلى عضدي، تتدلّى منها سلاسلَ كملابس إغراء ترتديها غانية، تجذبني إلى عوالم سفلية بغيضة, لاااااا أريد أن أدخلها... لكنها أخذتني فقاومتُها بغيبوبة.. لن أراها لن أراها ...أطبقت جفوني باستسلام .. سأغيب مختارة، ربّما يُهيّأ لي أَنِّي مختارة، لكن لا ضير, المهم أن أهرب ولو إلى قبر ... صار الوضع سيئًا جدًّا برأي من يحيطون بي . "أنت تدخلين في غيبوبات متلاحقة".

أشعر بالانتصار عليهم، هم لاحظوا المظاهر الخارجية لحالتي، لكنهم عجزوا عن الغوص في أحوالي الداخلية، لم يلحظوا أن معدتي ترفض بعنفوان كل ما يلج إليها قصرًا، طوّعتُ العصب الذي يصلها  بالدماغ مباشرة، حتى أصبح التنبيه يأتيها من الدماغ بأنّ الحالة  هي حالة شبع دائم، في تزييف واضح لواقع الجوع ...

أمعائي أطبقت على بعضها بانكسار ، لا مورد لعملها, فالإغلاق أولى وأكثر منطقية من استنزاف الطاقة في تشغيل آلة فارغة, لعل الكبد كان أكثر عضوٍ ثار, أعلن التدهور البياني, وسجّل هبوطًا حادًا في وظائفه, مطالبًا بمعاوضة .. لا تأتيه.

وحدها الكلى كانت تعمل بأريحية، فالماء قام مقام كل مصادر الطاقة، حلّ محلها بالحجم فقط, لشغل الفراغ، فكانت تقوم بتنظيف الدم من السموم التي كانت تتأتّى من الوارد من الطعام, أمتع ما في الأمر أنها كانت تعمل على تنقية دمٍ نظيفٍ كليًّا...!

لا أدري لم تملّكني الشعور بالتحدّي والغَلَبة على من حولي، أنا الآن حرة أدخل غيبوبتي كلّما داهمتني، بعد أن كنتُ لا أملك كلّ وقتي ! غيبوبتي لي وحدي لا يشاركني بها أحد, في الوقت الذي كان فيه الجميع يشاركونني لحظات نومي .

لكن الوضع حرمني من متع كنت اختلسها، منعوني من القيادة ومن الذهاب في نزهة بمفردي، منعوني من البقاء في البيت وحدي، أحسستُ بهم يحاصرونني، لعلّهم شعروا بسعادتي فأرادوا أن ينغّصوا علي ..ربما خجلوا مني لأني صرتُ مصدر إحراج لهم عندما تداهمني غيبوبتي وأنا في مجلس اجتماعي...

إضافة إلى انخفاض إنتاجيتي بخدمتهم ...! فكان القرار الحسم ... مراجعة طبيب ..! كم أكره هذا الأمر, لكن الوضع أصبح ملحًّا للغاية, ولم يعد لديهم الصبرَ الكافي لتحمّل المزيد ... نتائج الفحوص الطبية كانت إيجابية للغاية ..! لكن الاستشارات التالية انتهت بعد إيجابية كل الاستشارات العضوية للوصول لاستشارة نفسية ..! أحسستُ وكأن الطبيب النفسي مدير أمن، قلت أتحايل عليه وأخدعه .. لأفاجأ به وقد خَبَرَ داخلي, وكأنه قد قام بتنويمي مغناطيسيًّا، فخرجت كوامني تَتْرى كخروج معتقلين قضَوا في المعتقلات عقودًا من الزمن، يفرّون من معاقلهم فرارَ المذعور من احتمال إعادة الإعتقال ...

"عزيزتي, هذا الدواء ستأخدينه لا لأنك مريضة، فأنت لست بالمريضة، لكنك تعيشين في وسط مريض، لا يمكن أن يخضع لعلاج  ...! وعليك  تناول العلاج بدلًا عنه ...!"

أطلقها الطبيب في وجهي كرصاصة رحمة ..! فأين الرحمة ؟ ستة أشهر من تناول تلك السموم مضتْ... بعدها, قابلتُ طبيبًا أكثر خبرة, منعني عنها, ليقول لي :

"على المريض أن يتناول هو دواءه، وإن لم يشأ فليمت هو ..لا أنتِ".

 

 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الفلسفة الذرائعية العربية واشتراح المصطلح رواية (رحيل السومري الأخير) للأديب والمنظر عبد الرزاق عوده الغالبي إنموذجًا دراسة ذرائعية مستقطعة بقلم الناقدة الذرائعية د. عبير خالد يحيي

أدب المرايا من الكلاسيكية إلى المعاصرة في رواية / نساء المحمودية / للأديب المصري منير عتيبة دراسة ذرائعية تقنية بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

حمولةُ الرمز التقني من سخرية وتهكّم غضبٌ إنساني يدلقه قلم الأديب محمد إقبال حرب في روايته / العرافة ذات المنقار الأسود/ تعضيد نقدي ذرائعي بقلم الناقدة الذرائعية د.عبير خالد يحيي