غاب .. وعاد


 فترة التحليق التي استغرقت حوالي الساعتين ونصف الساعة، كانت فرصة مؤاتية لتحليق آخر ، تحليق في الخيال يبني فيه كل الوعود التي قطعَها لملكة أيامه القادمة، ركاب الطائرة قليلو العدد، لكن الجميع يشكون، انتظروا بالمطار فترة طويلة حتى قدمتْ الطائرة، هناك طائرة واحدة هي العاملة على متن الخطوط الوطنية بالنظر إلى الظروف الصعبة التي يمرّ بها البلد، تعمل دون تقيّد بالوقت، ولا بموعد، قد تتأخر وقد لا تأتي أبدًا، وكل عبارات التذمّر التي يتلفّظ بها الركاب غير مؤثّرة ولا مثمرة، لذلك, آثر عدم التفاعل, معهم والغرق في خيالاته اللذيذة ...

يعود إلى الوطن ليلقاها، جمعه بها هذا العالم الأزرق العجيب، الذي اختصر الكثير من السبل للوصول إلى الأهداف المختلفة، حتى نافس (الخاطبة ) التي كانت نقطة اتصال ووصول عند كلا الجنسين.

عرفها منذ حوالي سنة، تواصلا خلالها، وجد فيها كل مايرومه في أميرة أحلامه، حمد الله أنها بنت بلده, وإن كانت من مدينة غير مدينته، أخضعها للعديد من اختبارات القبول دون أن تدري، اجتازتها بنجاح, أيضًا دون أن تدري، ولعلها أيضًا اختبرته دون أن يدري, ونجح وهو يدري، لم يحدّث أهله عنها مخافة أن يفسد عليه أحدهم الأمر, فيتصرّف معها تصرّفًا لا يُحمد عقباه، سيُقضى الأمر هكذا، يسافر إلى البلد يطلعهم على الأمر، يتصل بها لتخبر أهلها ويتواصل معهم، ثمّ يذهب إليهم مع أهله خاطبًا، فترة الخطوبة لن تطول، يتمّ خلالها التحضير للعرس, يتزوجان, ويسافر بها إلى البلد الذي يعمل فيه ... شيءٌ ما زلزل صفاء باله, حدثَ مع التقاء دواليب الطائرة بأرض المدرّج، أيقظه من حلم السعادة والسلاسة الذي كان يعيشه.. وطئتْ قدماه صعيدَ وطنٍ غاب عنه أكثر من سنتين، تركَه في حالٍ, ليعود ويجده في حال آخر ! انحنى وأخذ كمشة من ترابه، شمّ فيها رائحة الدم، الهواء عابق برائحة الحرب، تبدّلتْ سحنات الوجوه، غابتْ عنها ابتسامة الطيبة والترحاب، غار منها اللون الوردي والقمحي والزنبقي، ولوّنها الأصفر والرمادي والأزرق ..المقت .. والحذر .. والخوف ... وعليه هو أن يبحث عن حقائبه وسط كومة من الحقائب رماها الحمّالون من الطائرة في أرض المدرج, وليس على سِير الحقائب داخل بهو القادمين، عليه أن يفتحها أمام المفتشين ليقلبوها رأسًا على عقب، لدواعي أمنية !!

هي هي نفس الحقائب التي تمّ تفتيشها منذ حوالي ثلاث ساعات قبل الإقلاع ...  لا يهم, المهم التحقق من كل شيء, فالحذر يجب أن يكون كاملًا.

عند نافذة الضابطة الأمنية، بعد انتظار دورٍ لم يطل، تناول منه الضابط جواز السفر, ونقّل عيناه بينه وبين ورقة فيها قوائم بأسماءٍ عديدة، أشار إلى عنصرَي أمن بإماءة، اتجهوا على إثرها إليه, ليمسكوا بيديه وصوت الضابط يهوي عليه بسوط:

 "أنت مطلوب وقيد الاعتقال ".

في صباح اليوم التالي، شابة في عمر الورود تجلس أمام  شاشة حاسوبها، بنظرات حائرة تبحث عن الأخضر أمام اسم فلا تراه ...هي وحدها من يعلم بقدومه ..أخبرها أنه لن يخبر أحدًا من أهله، ليستغل كل دقيقة في التحضير لعرس مرتقب، لا يريد أن يضّيع الوقت باستقبالات وسلامات، فالإجازة قصيرة .. لكن النقطة الخضراء لم تظهر أبدًا !!!

عضّ القلق قلبها، لا تعرف أحدًا من أهله ! لا يصلها به إلّا ذلك الأزرق وأيقونة خضراء وأخرى بنفسجية على سطح جوّال  كلّما فتحتهما تظهر أمامها عبارة :

متصل منذ شهر ... متصل منذ شهرين....متصل منذ تاريخ كذا ...أي من حوالي ستة أشهر، أكل القلق والخوف قلبها بداية ... واستوطنه الشّك والظنّ في عقدة الوسط ... وأخيرًا احتلّه اليأس والخيبة .

على حدود البلد الشقيق، شبه رجل يحمل آثارًا من شباب غادر مسرعًا، زارعًا في  رأسه أشواك عوسج شاحبة، وعلى الوجه واليدين قترة صفراء تختال من تحتها خطوط زرقاء معروقة، يرتدي ثيابًا  فاضت عليه حتى بدت مثيرة للضحك، كان يبدو فيها بمنتهى الأناقة قبل عدة أشهر، على العينين نظارات شمسية تنبئ عن غنى آفل، تخفي ورائها عينين خاصمتها الشمس زمنًا طويلًا، والسبب (التباس وتشابه أسماء ),كانت المبرّر لأن يُرمى وراء الشمس ستة أقمارٍ زمنية على أقل تقدير ...

أُطلق سراحه أخيرًا.. بعد تحقيقات مستفيضة, زار خلالها معظم الفروع الأمنية حتى ثبتتْ براءته بالرجوع إلى الجدّ الرابع .. خرج بعدها متجهًا إلى البلد الشقيق, دون أن يحاول الاتصال بأحد، حتى ولا هي .. من جاء خصيصًا من أجلها، لم يجرؤ على التواصل معها خوفًا  عليها من أن تلاحقها الشبهات ...

 نصف ساعة قبل المغادرة, صوت ينطق باسمه, يستدعونه إلى مكتب الضابطة لاستلام بطاقة نسيها هناك، ينتفضُ على إثر ذلك قلبٌ غار في جوف فتاة تقف مع أسرتها تنتظر السماح بعبور الحدود إلى الطرف الآخر، ركضت تسبق عينيها لتعود متأبّطةً ذراع ذلك الرجل الذي تورّدت وجنتاه بابتسامةِ حياة جرت في عروق وجهه الذي لم يرَ الشمس طوال شهور منصرمة :

 " أبي، أمي هذا هو أميري الذي غاب ثم عاد ".

 

 

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الفلسفة الذرائعية العربية واشتراح المصطلح رواية (رحيل السومري الأخير) للأديب والمنظر عبد الرزاق عوده الغالبي إنموذجًا دراسة ذرائعية مستقطعة بقلم الناقدة الذرائعية د. عبير خالد يحيي

أدب المرايا من الكلاسيكية إلى المعاصرة في رواية / نساء المحمودية / للأديب المصري منير عتيبة دراسة ذرائعية تقنية بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

حمولةُ الرمز التقني من سخرية وتهكّم غضبٌ إنساني يدلقه قلم الأديب محمد إقبال حرب في روايته / العرافة ذات المنقار الأسود/ تعضيد نقدي ذرائعي بقلم الناقدة الذرائعية د.عبير خالد يحيي