إن عُرف السبب....

 


أصبح مرآه جزءًا أساسيًّا ضمن برنامجي اليومي الاعتيادي، كلما ذهبتُ إلى عملي صباحًا، أراه منتصبًا في نفس مكانه المعتاد،  أقسم صادقًا أنه لا يتزحزح عنه شبرًا، اختاره في الجهة المقابلة لبوابة كلية الهندسة تمامًا، ويقوم بفعل غريب جدًّا, و مثير للضحك, وأحيانًا للاستغراب والتساؤل، هو مسالم جدًّا, لا يؤذي أحدًا، فقط يصفّق بيديه بوجه من يخرج ومن يدخل من تلك البوابة، ولا يتوقّف عن التصفيق، وكأنّ يديه ما خُلقتا إلا لهذا الفعل، ويدوم فعله فترة مدار سفر الشمس اليومي، ويرحل عند رحيلها ليختفي في ظلمة الليل وفي متاهات أسراره، وهذا ما أثار استغرابي وجعلني ألاحق موقفه إرضاءً لفضولي القاتل واللامحدود......

لا يكلّم أحدًا، ولا يتكلّم معه أحد، وإن حدث لا يرد، لفتني وضعه الغريب كثيرًا مُذ قدمت إلى هذه البلاد غريبًا، أيامٌ مرّت والبلاد تتخلّلها اضطرابات، فُرض على إثرها حظرُ تجوال, بعد مغيب الشمس حتى صباح اليوم التالي، وغيّبت تلك الفترة صاحبنا عن ساحتها، وأحسستُ بالقلق، هو ليس قلق بحق, بل فضول بشري،  وكأنه  شخص يهمّني حقًّا، سألتُ من يقف عادةً بهذا المكان، بائعَ خضار، عن سرّ اختفاء صاحبنا، نظر إلي بريبة، فأنا غريب من لهجتي, ومظهري الخارجي واضح جدًّا، لستُ منهم، أخبرته أنني أسلك هذا الطريق يوميًّا، وقد أثار استغرابي وفضولي فعل هذا الرجل الغريب, كما أثارني غيابه وعدم تواجده في هذه الأيام الحرجة، فهل هو مريض, أم مات, أم ماذا جرى له؟! له حق علينا أن نسأل عنه حتى ولو من باب الفضول، اطمأن بائع الخضار قليلًا وأجابني :

-"ربما يكون محتجزًا عند الأمن...."  ا

قلت بانفعال: "كيف ذلك ؟ ولمَ، ماذا فعل ؟"

أجاب بائع الخضار:

- " أكيد اشتباه، أنت تدرك وضع البلد هذه الأيام، لا يحتمل، وكل شيء غريب أو غير طبيعي يجلب انتباه الأمن ويلاحقه لحين التأكّد، ضرورات أمنية يعني.."

وهنا تشجّعتُ لأسأله سؤالًا طالما راودني:

- "ما قصة صاحبنا، لماذا يفعل ما يفعله؟."

تنهّد بائع الخضار تنهيدة عميقة, ثم قال :

- "هذا الرجل فقد ولده الوحيد في هذا المكان بالتحديد, والذي كان طالبًا في تلك الكلية، وقبل تخرّجه بأيام، فقد صدمته سيارة, يقودها سائق متهور, فقضى الشاب في تلك البقعة التي يقف عندها صاحبنا المسكين كل يوم ....ولا أدري لماذا يصفّق بيده، قد يكون ندمًا على فقدان وحيده....!"  

غار قلبي حال سماعي تلك القصة, أحسستُ أن  النبض قد تسارع فيه ورحل الدم نحو رأسي واغرورقت عيني بالدموع دون أن أدري، وغبتُ في ثنايا تفكيري, وأنا أفكر بالسائق الأرعن، هل يدري حجم الجريمة التي ارتكبها، وما كان عقابه يومها؟! أعتقد أن الموضوع انتهى بدفع نقود ولفّ القضية عرفيًّا، فالوالد فقد العقل، والله أعلم ما كان حال الوالدة، ثمّ كيف لا توضع إشارة مرور أمام بوابات الكليات والمدارس، أو أقلها مطبًّا من المطبات التي تكبح جموح السرعة والاستهتار لدى الكثير من السائقين المتهوّرين؟! أليس ذلك خطأً فادحًا في حق أية حكومة؟! كم تحصد حوادث السير من الأرواح كل يوم، وكم تتسبّب بشقاء من يبقى، وكم وكم وكم....... !؟

وهل الحروب المجنونة التي تقتات على أرواح الأبرياء تختلف عنها كثيرًا؟ كلاهما آلة بيد أرعن، لا يدري حجم الشقاء الذي ألقاه على غيره, أي جنون هذا ؟!

سبحان الله هذا رجل واحد، فقد ولدًا فذهب عقله, فكيف بآلاف الناس في بلدي الذين فقدوا غواليهم بالجملة، أم أنّ لطفَ الله يغلّف عقول عباده المؤمنين فيقيهم بالصّبر شر الجنون ؟

ولم أنتبه إلّا وبوّاب دائرتي يلقي عليّ تحية الصباح....

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الفلسفة الذرائعية العربية واشتراح المصطلح رواية (رحيل السومري الأخير) للأديب والمنظر عبد الرزاق عوده الغالبي إنموذجًا دراسة ذرائعية مستقطعة بقلم الناقدة الذرائعية د. عبير خالد يحيي

أدب المرايا من الكلاسيكية إلى المعاصرة في رواية / نساء المحمودية / للأديب المصري منير عتيبة دراسة ذرائعية تقنية بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

حمولةُ الرمز التقني من سخرية وتهكّم غضبٌ إنساني يدلقه قلم الأديب محمد إقبال حرب في روايته / العرافة ذات المنقار الأسود/ تعضيد نقدي ذرائعي بقلم الناقدة الذرائعية د.عبير خالد يحيي