قراءة تحليلية للناقدة والأديبة المصرية سحر النحاس في القصة القصيرة ( وجوه) للقاصة السورية د. عبير خالد يحيي :

 



يخطئ الآباء والأمهات حينًا عندما ينفسون عن سخطهم من كثرة شغب أطفالهم بجمل قد يظنون أنها تمر على عقول الصغار مرور السحاب ..والحقيقة أن الصغار لديهم مساحات الخيال تفوق الواقع، فتستقر كلمة صغيرة على جدران أرواحهم الغضة كالنقش على الحجر، لتظل تؤرقهم حتى بعد أن يتجاوزوا مرحلة الطفولة ..

فطفلتنا أطاحت بعقلها الصغير جملة (عقلك عقل سمكة) شغلت حيزًا كبيرًا تجاوز تصوّر طفولي يقاس أمام المرآة ..تلك التي تعدّت مساحة مدينتها الساحلية بتضاريسها إلى محيطات العالم الواسع ..إلى بواخر تجوب عباب البحر كما الحياة تواجه الريح والأمواج العاتي، إما أن تصل بحملها إلى بر الأمان وإما أن تستقر بقاع المحيط لتحكي لنا عن وجوه الغارقين، قصص رعب ارتسمت على قسماتهم لتقص علينا لحظات النهاية المفزعة ..

"وجوه" جاء الاسم نكرة غير معرف، ليوسع دائرة الاحتمالات محملًا بدلالات متباينة فالوجوه ربما تتشابه من زمان لآخر، فالأيام دول، كما تفتح آفاق المتلقي حول ماهية تلك الوجوه، لتنقلنا الكاتبة من عالم صغير، لرحابة وخصوبة تداعب الخيال بمفردات فصحى سليمة سهلة ومتداولة لا تخلو من مشهدية حسية تشعل خيال القارئ، ومعلوماتية بما يقتضيه السياق العام، لتقفز بنا من مرحلة الطفولة للشباب فى سرد دائري تتحول فيه البطلة الزوجة والأم من التجوال فوق الماء إلى الاستقرار على (أرض صلبة)

بوصف بديع (تقول..أولاد يحتاجون أرضًا صلبة كى يتمكنوا من الوقوف بلا تمايل...الخ) ليظل الأب يمشي فوق الماء بما يحتم عليه عمله كقبطان.. بينما تتحول الأم كالأرض التى تضم وتحنو وترعي صغارها ..

نقلة نوعية أخرى للكاتبةحين مزجت بين البحر والريح وبين الحروب التى أطاحت باستقرار الشعوب وشردتها، ويستمر السرد الدائري ليصل لنقطة البداية، غرق الإنسانية وفناء جماعي للشعوب المقهورة كنتاج لصراع السلطة والسلطان، المال والطمع تقول..(أتخيل دومًا كيف تبدو الطحالب متماهية بين الأصفر والأخضر كحقول القمح والبرسيم وهي تغلف وجوه الغرقى) تدمير الحياة بكل معانيها البشعة التى أتت على الأخضر واليابس حيث تحولت المراعي الخضر لمقابر تحمل أشلاء مخيفة جاحظة من هول ما لاقت كحال الغرقى فى الأعماق بحثثهم المتحللة والشاهدة على لحظات النهاية والاختناق حتى الموت

ولازالت الكاتبة تتعلق بالأمل بحلم قرير أن تختفي المآسي والآلام من ذاكرتها لتبقى فقط بذاكرة قصيرة كذاكرة السمكة التى نعتتها بها أمها منذ زمن بعيد

تحية تقدير للمبدعة عبير خالد يحيي لهذا الطرح الذى اختزل حياة كاملة فى نص قصير مكثف بدأ كما انتهى بذاكرة سمكة.

مزيدًا من التألق والإبداع

تحياتي

سحر النحاس

وجوه

قصة قصيرة

عبير خالد يحيى / سوريا

-"عقلك عقل سمكة"

بهذه الجملة كانت أمي تنهي موشّح التوبيخ الذي يعقب كلّ شجار بيني وبين أخي الذي يصغرني قرابة العامين, لا أدري لِمَ كانت هذه العبارة الزائدة توجّهها لي وحدي, رغم أنها كانت عادلة في توزيع جمل وألفاظ التقريع بيننا بالعدل, وبالتناوب, لكنّ هذه القفلة المسرحية كانت تخصّني وحدي, وكأنّها تنهي النتيجة لصالح أخي في كلّ مرّة, وفي كل مرّة أجيبه:

-"وما يدريك؟ قد تكون أمي لا تحبّ السمك, لكن مؤكّد أنّها لا تطيق الضفادع".

أرفع رأسي بعدها بشموخ و أنفة, أتسلّل إلى غرفة أمي وأقف أمام المرآة أتأمّل وجهي, أحاول أن أجد السمكة التي جعلتها أميّ تستقر في عقلي! أقيس جبهتي بالأصابع و كذلك رأسي من الناصية حتى القفا لأحسب حجم السمكة التي تستقرّ فيه, و لو افترضت أنها تسكنه حقيقة, كيف تجلس؟ بالطول أم بالعرض؟! يباغتني ردّ أميّ وكأنّها ما يجول بخاطري:

-" ليست السمكة بكتلتها الكاملة من تحتل ّعقلك, وإنّما مخّها, عقلها الصغير الذي لا يزيد عن حجم حبّة الحمّص الصغيرة, هو ما يملأ رأسك!".

قصف آخر ينالني منها, لأضيف إلى قاموسي المعرفي معلومة جديدة!.

سقط رأسي في جزيرة صغيرة لا تتعدّى مساحتها الكيلو متر المربع الواحد, تقابل مدينتي الساحلية التي أقطن فيها حاليًّا, وتبعد عنها حوالي ثلاثة كيلومترات, لذا لم أجدني في غربة حينما نزلت من محيطي المائي الرحمي إلى محيطي المائي الصخري, كما لم أشعر بتلك الغربة حينما انتقلت إلى البرّ الشرقي المقابل لجزيرتي, متزوّجةًّ من قبطان جبتُ معه البحار و المحيطات قبل أن يرزقنا الله أولادًا يحتاجون إلى الوقوف على أرض صلبة كي يتمكّنوا من الوقوف بلا تمايل والجري فوقها! و تحتّم عليّ رعايتهم والجري معهم فوق الإسفلت و البلاط و الرمل, بينما بقي زوجي يمشي فوق الماء, يشقّ عباب المحيطات مقاسمًا حيتانها سطح عالمها دون العمق, إلى أن جاء ذلك اليوم الذي تصارع فيه البحر و الريح, بحرب ضروس كحروب التحرّر التي لا يدفع فيها الثمن إلّا مساكين الشعوب, وقعت السفينة في مهبّ الريح,

فاستنقذها البحر منها, وغاص بها عميقًا ! انتشلها من الريح الهوجاء ليلقي بها بكلّ مَن وما حملت طعامًا لشعبه بتنوّع زمره الأحيائية! أتخيّل دومًا كيف تبدو الطحالب البحرية متماهية بين الأصفر والأخضر كحقول القمح والبرسيم وهي تغلّف وجوه الغرقى! وكيف تعفّ عن عيونهم التي جحظت مخيفة كخيال المآتة, و هي التي احتلّها الرعب بعد أن نزع منها آخر بريق أمل... كيف تتحوّل الوجوه الآدمية لتحاكي وجوه سكان العالم الجديد, مع فارق بسيط, العيون الآدمية لا تتنازل عن جفونها, تدافع عنها بشراسة, فلا تغنم الأسماك أجفانَا ولا أهدابًا, ولا تنعم بالنوم القرير... أبقى أنا على قيد الأمل, أحلم بهذا القرير, أنتظر أن يحقّق الله يقين أمي فيَّ, ويمنحني ذاكرة سمكة!.

من مجموعتي القصصية

#ليلة_نام_فيها_الأرق

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الفلسفة الذرائعية العربية واشتراح المصطلح رواية (رحيل السومري الأخير) للأديب والمنظر عبد الرزاق عوده الغالبي إنموذجًا دراسة ذرائعية مستقطعة بقلم الناقدة الذرائعية د. عبير خالد يحيي

أدب المرايا من الكلاسيكية إلى المعاصرة في رواية / نساء المحمودية / للأديب المصري منير عتيبة دراسة ذرائعية تقنية بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

حمولةُ الرمز التقني من سخرية وتهكّم غضبٌ إنساني يدلقه قلم الأديب محمد إقبال حرب في روايته / العرافة ذات المنقار الأسود/ تعضيد نقدي ذرائعي بقلم الناقدة الذرائعية د.عبير خالد يحيي