إيقاع الذات الشاعرة بين التكرار والتوازي: دراسة ذرائعية في ديوان «إنّي آنستُ حبرًا» للشاعرة السورية عائشة بريكات بقلم الناقدة الدكتورة عبير خالد يحيي

 




مقدمة :

      يشكّل الشعر فضاءً تتشابك فيه التجربة الذاتية مع النبض الجمعي، ويتحوّل عبره الحبر من مادة جامدة إلى وسيط رمزي يتقاطع فيه الجسدي، الروحي، واللغوي. ومن هنا تنطلق هذه الدراسة، التي تتناول ديوان "إني آنستُ حبرًا" للشاعرة عائشة بريكات، من منظور ذرائعي يُعنى بتفكيك مستويات النص من الداخل، وليس فقط الحكم عليه من الخارج.

تستند هذه المقاربة إلى الذرائعية كما صاغها المنظّر عبد الرزاق الغالبي، بوصفها منهجًا ديناميًا يدمج بين البنية الأخلاقية، والتكوين النفسي، والتداولي، واللساني، ويبحث في عمق القصدية والفاعلية التواصلية للنص. كما تستلهم الدراسة بعض مفاهيم الهيرمينوطيقا التأويلية (ريكور)، خاصة في تأويل الرموز المفتوحة كالملح، الحبر، الضوء، والرحى، بوصفها ليست محض استعارات بل شيفرات وجودية تكتب الذات وتعيد خلقها.

وبذلك، تسعى هذه الدراسة إلى قراءة الديوان قراءة تتجاوز ظاهر اللغة إلى عمق التجربة، محاولة الإمساك بالخيوط الدقيقة التي نسجت هذه النصوص، لتضع المتلقي أمام مشهد شعري تتقاطع فيه الذات مع العالم، ويغدو الحبر فيه علامة على أنس الإنسان بقدرته على الكتابة، والمقاومة، والتحوّل.

إن ديوان "إنّي آنستُ حبرًا" يتّسم بتقنيات شعرية فريدة يمكن تحليلها عبر المستويات الذرائعية التي تتيح لنا رؤية التجربة الشعرية من زوايا متعددة تتداخل في تشكيل الهوية الإبداعية لهذا النص..

 

1. البؤرة والخلفية الأخلاقية

 

     ينطلق الديوان من بؤرة فكرية تتأسس على جدلية الذات والكتابة، حيث تُصبح الكتابة عملية استشفاء ومقاومة في آن. فالحبر ليس مجرد وسيلة تعبير، بل هو كشف وجودي يتقاطع فيه الجرح مع المعنى. الشاعرة تكتب لا لتبوح فحسب، بل لتُعيد بناء ذاتها الموزعة بين الأم، والطفلة، والمرأة، والذاكرة.

تقوم الخلفية الأخلاقية على موقف وجودي من العالم: مقاومة المحو، ورفض الصمت، واستعادة الحق في الوجود من خلال الكلمة. الألم في هذا السياق لا يُعامل كضعف بل كقوة مولّدة للمعنى، إذ تقول:

"أكتب كي لا ينتهي بي المطاف امرأة من ورق"

في هذا القول اختزال لجوهر القصيدة بوصفها خلاصًا نفسيًا، وانعتاقًا من التشييء. فالقصيدة تُقاوم أن تتحوّل الأنثى إلى كائن استهلاكي، هش، بلا صوت. إنها تُعلن انتماءها إلى طقس لغوي يستبطن المسؤولية، ويُصغي إلى صدى الألم الشخصي بوصفه ألمًا كونيًا.

ومن منظور ذرائعي، فإن البؤرة الفكرية للنص لا تنفصل عن خلفيته الأخلاقية؛ فكل صورة وكل استدعاء رمزي في الديوان يحيل إلى شبكة من القيم تتعلّق بالصمود، والخلق، والانبعاث من الداخل، لا من الخارج. هكذا تُبنى قصيدة بريكات على قاعدة من الالتزام الوجودي، لا الدعائي، وتُصبح الذات الشاعرة ذاتًا تُناضل لكي تُكتب.

 

2. المستوى البصري

الغلاف:

يقدّم غلاف ديوان "إني آنستُ حبرًا" تمثيلًا بصريًا ينسجم مع البنية النفسية والرمزية لنصوص الشاعرة، عبر مشهد تجريدي مفعم بالدلالة. في مركز الغلاف نرى امرأة مرسومة بأسلوب تفكيكي، تتداخل فيه الأشكال الهندسية الحادة مع الظلال الرمادية، في إحالة إلى التشظي الداخلي والتوترات الوجودية التي تعاني منها الذات الأنثوية في قصائد الديوان. لا تظهر هذه المرأة ككيان مكتمل أو مريح بصريًا، بل كجسد متشظٍّ بين الثبات والانهيار، في وضعية تتقاطع بين التأمل والاحتراق الصامت.

 

الخلفية الداكنة تُعزّز مناخ الحزن والتأمل، بينما تومض هالة صفراء خلف رأس المرأة، كأنها تجسيد للرؤيا أو لحظة الإلهام الشعري، ما يربطها مباشرة بالعنوان اللافت: "إني آنستُ حبرًا".

 العنوان نفسه ينتمي إلى بنية تناصّية مأخوذة من الآية القرآنية "إني آنستُ نارًا"، ليصبح الحبر هنا مرادفًا للنور، ولأول ومضة وجودية تدفع الذات إلى الانكشاف.

أما الغلاف الخلفي، فيُبرز صورة الشاعرة في إطار شفاف كأنها محاطةٌ بذاتها الشعرية، تتداخل صورتها مع كلماتها المختارة من إحدى القصائد، حيث تسرد تجربة الحزن والخذلان بتشبيه حسّي داخلي، يعمّق العلاقة بين الصورة والكلمة. الرموز البصرية الأخرى كرمز الطائر المحلق، واللون الأحمر الزاهي في تاريخ النشر (2024)، تمنح الغلاف ديناميكية حركية، تُقابل السكون البصري للشخصية المركزية، في إحالة إلى فعل الكتابة كمقاومة وجودية.

بهذا التكوين البصري، يعكس الغلاف رؤية شعرية تتجاوز (الديكور) الخارجي إلى التعبير الداخلي، حيث تُصبح المرأة أيقونة حبر، والحبر إشراقًا بديلًا، والقصيدة مجازًا عن جسدٍ يكتب ذاته كي ينجو.

العنوان «إنّي آنستُ حبرًا»

غني جدًا رغم قِصره، ويمكن تفكيكه على مستويين: بصريًا ودلاليًا.

أولًا: التحليل البصري (الشكل والتركيب)

العنوان يبدأ بـ «إنّي»، وهي أداة توكيد قوية، مما يجعل القارئ يشعر من البداية أن المتكلم يعلن عن تجربة شخصية عميقة.

الفعل «آنستُ» يرتبط بصريًا وذهنيًا بآية قرآنية شهيرة:

«إني آنستُ نارًا...»

وهذا يجعل العبارة تبدو مألوفة بصريًا للعين العربية، وفي نفس الوقت يخلق توازيًا ذهنيًا بين "النار" و"الحبر"، وهو ما يقودنا للجانب الدلالي.

التركيب يقوم على جملة فعلية بسيطة:

«آنستُ» (فعل + فاعل مستتر) + «حبرًا» (مفعول به).

هذه البنية تُقرأ بسهولة وتنساب، مما يمنح العنوان وقعًا إيقاعيًا خفيفًا، رغم أن الكلمة الأخيرة (حبرًا) تنتهي بصوت رخيم ساكن (الراء).

ثانيًا: التحليل الدلالي (الرموز والمعاني)

الفعل «آنستُ» يعني: أبصرتُ، رأيتُ بوضوح

أو: شعرتُ بأُنس وبقرب، وليس مجرد الرؤية البصرية

وهنا يكمن العمق:

الشاعرة رأت الحبر، لكنها أيضًا آنسَت به، أي وجدَت فيه أنسًا وسلوى، كأنه كائن حي، لا مجرد مادة.

كلمة «حبرًا» ترمز إلى:

الكتابة (الأداة المادية)، والقول الشعري (النتاج المعنوي)

وهو أيضًا دم الرموز، أي أن الحبر يصبح في هذا السياق أشبه بدم القلب الذي يُسال على الورق.

من حيث الدلالة العميقة: العنوان يوحي بأن الشاعرة تمرّ بتجربة مشابهة لتجربة النبي موسى حين قال: «إني آنستُ نارًا»، أي لحظة التحول من الرؤية العادية إلى الوحي.

وهنا، الحبر بدل النار:

النار رمز التحوّل والتطهير والنبوة.

الحبر رمز الكتابة والتعبير والخلق الشعري.

ما يعني أن الشاعرة تعلن هنا عن لحظة الوحي الشعري، حيث لم تعد الكتابة مجرد تقنية، بل أصبحت رؤيا وبصيرة.

وبطريقة غير مباشرة، العنوان يقول:

"لقد رأيتُ في الحبر (الكتابة) ما يُنقذني، ما يُكلمني، ما يُنير طريقي"

مثلما رأى موسى النار فاتجه نحوها، ترى الشاعرة الحبر فتتجه إليه.

ثالثًا: الإيحاءات العميقة

التحول: العنوان يعلن عن بداية لحظة انكشاف، حيث الحبر ليس مجرد وسيلة، بل صار مصدر أنس، وكأن الشاعرة تعبر من الواقع المؤلم إلى الكتابة الخلاصية.

التقديس: اقتران العنوان بجذر قرآني (آنستُ) يرفع من قيمة الكتابة إلى مستوى شبه مقدس، ويجعل من الحبر نارًا جديدة تضيء الروح بدل أن تحرق الجسد.

الإيحاء بالمخاطرة: كما أن موسى عليه السلام عندما آنس النار دخل تجربة غيّرت مصيره، الشاعرة بإيناسها الحبر تدخل مغامرة الكتابة التي لا رجوع عنها.

خلاصة مكثفة:

بصريًا: العنوان بسيط شكليًا، لكنه يُحاكي البنية القرآنية التي تمنحه قوة إيقاعية وعين القارئ تلتقط هذا التوازي فورًا.

دلاليًا: العنوان يرمز إلى لحظة انتقال من المعاناة إلى الخلق، ومن الصمت إلى البوح، حيث يتحوّل الحبر إلى نار روحية تبصرها الشاعرة وتأنس بها.

إنه إعلان شعري بأن الكتابة ليست مجرد أداة، بل رؤيا من نوع خاص.

 

الإهداء

على الرغم من أنهما إهداءين قصيران لكنهما مشحونان بدلالات عميقة وبناء بصري قوي.

نحللهما معًا على مستويين:

1. بصريًا (تركيبيًا وشكليًا)

2. دلاليًا (رمزيًا ووجدانيًا)

 

أولًا: التحليل البصري للإهداءين

الإهداء الأول:

يا مَنْ طحنَ برحاه حِنطة قلبي

إليكَ أُهدي رغيفي الأوّل.

التقسيم إلى شطرين يشبه بيت الشعر، مما يعطيه طابعًا إيقاعيًا كلاسيكيًا، رغم أنه حرّ.

نرى صورة دائرية في الكلمات:

"طحن" → "رحى" (أداة دائرية) → "حنطة" (تُطحن) → "رغيف" (نتيجة الطحن).

كأن النص يدور في حلقة مغلقة، ما يبعث شعورًا بالاكتمال.

لفظ "رغيفي الأوّل" يوحي بأن هناك بداية لمسيرة، أي أن هذا النص الشعري هو أوّل نتاج هذا الطحن الداخلي (الألم).

 

الإهداء الثاني:

لمن كبتتْ ثم كتبتْ، وما بكتْ

كم يليقُ بملحكِ خبزُ الضّوء؟

أيضًا مقسوم إلى شطرين، لكن الثاني على شكل سؤال شعري (كم يليقُ؟)، وهذا يفتح العبارة على التأمل بدل الحسم.

نلاحظ تدرجًا حركيًا بصريًا في الأفعال:

كبتتْ (قمع داخلي)

كتبتْ (تفريغ عبر الكتابة)

وما بكتْ (امتناع عن التنفيس العاطفي)، هذا السطر يصنع تصعيدًا ثم كبحًا، مما يولّد توترًا شعوريًا.

عبارة "ملحكِ خبزُ الضوء" فيها تزاوج بصري بين الأبيض (الملح، الضوء) والخبز، مما يخلق صورة غريبة لكنها جذّابة للعين وللخيال، كأنها لوحة تشكيلية فيها تنافر بصري جميل.

 

ثانيًا: التحليل الدلالي

الإهداء الأول (للشعر):

يخاطب فيه الشعر ذاته ككائن فاعل:

هو من طحن "حنطة القلب"، أي من حوّل الألم والمشاعر الخام إلى شيء مطحون (قابل للتشكيل).

"رغيفي الأول" يرمز إلى القصيدة الأولى، أو النص الأول الذي خرج من هذه المعاناة.

الرغيف هنا ليس مجرد طعام بل هو نتيجة روحية، أي أن الشاعرة تهدي ثمرتها الأولى لمن سبّب معاناتها (الشعر كقدر مؤلم).

دلالة الرحى:

الرحى تدور وتطحن، ترمز إلى دوامة الألم التي تنتج الشعر.

الحنطة (القلب) تعني أن التجربة الشعرية تنبع من الداخل الحي، لا من الخارج.

الإهداء الثاني (للذات):

موجّه إلى الذات الكاتبة، لكنها ذات منقسمة بين:

من كبتت (صمتت، احتملت)

ثم كتبت (أفرجت عن المكبوت)

وما بكت (احتفظت بالكبرياء، لم تنهَر)

سؤال "كم يليق بملحكِ خبزُ الضوء؟" هو سؤال وجودي:

الملح رمز للدموع المكبوتة.

خبز الضوء هو رمز للنتاج الإبداعي، أي أن الألم الداخلي (الملح) ينتج شعرًا مضيئًا (الضوء).

كأن الشاعرة تسأل نفسها: هل تستحق معاناتي أن تثمر كل هذا الجمال الشعري؟

هل يليق بهذا العذاب (الملح) أن يتحوّل إلى طعام روحي للناس (خبز الضوء)؟

 

ثالثًا: الملاحظات الجمالية

كلا الإهداءين يقومان على اقتصاد لغوي شديد، مع استخدام صور مألوفة لكنها مُفاجئة في طريقة تركيبها (رحى + قلب، ملح + خبز الضوء).

هناك تكرار رمزي للخبز في الإهداءين:

رغيفي الأول

خبز الضوء

وكأن الشاعرة تعتبر الكتابة عملًا يوميًا مقدسًا، مثل إعداد الخبز.

التحول من الإهداء الأول (مخاطبة الشعر/القَدَر) إلى الثاني (مخاطبة الذات) يوحي بأن الشعر ليس فقط خلاصًا شخصيًا، بل هو أيضًا إعادة بناء الذات.

خلاصة مركزة:

بصريًا: الإهداءان يقدّمان صورًا دائرية وتزاوجات بين عناصر ملموسة (الرحى، الحنطة، الملح، الخبز) وعناصر روحية (القلب، الضوء).

دلاليًا: النص يدور حول فكرة أن المعاناة الداخلية (كبت، طحن) تتحوّل بفضل الشعر إلى منتج روحي مضيء (رغيف، خبز الضوء)، وهذا يشكّل إعلانًا عن فلسفة الشاعرة:

الألم مصدر الخلق، والكتابة خلاص للذات.

 

الآن ندخل إلى عمق المعمار الشعري لهذا الديوان، لنكشف العلاقة الخفيّة التي تربط بين: الإهداءين، والعنوان (إنّي آنستُ حبرًا)

أوّلًا: العلاقة بين العنوان والإهداء الأوّل

الإهداء يقول:

يا مَنْ طحنَ برحاه حِنطة قلبي

إليكَ أُهدي رغيفي الأوّل.

في هذا الإهداء، نرى صورة المعاناة والتحوّل:

القلب يُشَبَّه بالحنطة التي تُطحن تحت الرحى (الصورة مؤلمة لكنها خصبة)

والنتيجة: رغيف، أي منتَج تُهديه الشاعرة لمن سبّب الألم (أو ألهم المعاناة).

والآن نربط هذا مع العنوان:

عندما تقول الشاعرة «آنستُ حبرًا»، فهي تعلن عن لحظة رؤيتها للوسيلة التي ستحوّل هذا الطحن الداخلي (المعاناة) إلى رغيف شعري.

الحبر هنا هو المادة الخام التي سيتحوّل بواسطتها الألم (حنطة القلب) إلى نص (رغيف).

فالإهداء الأوّل يتحدث عن النتيجة (الرغيف الشعري)، والعنوان يتحدث عن بداية العملية، أي الإيناس بالحبر واكتشافه كقوة تحويلية.

 

ثانيًا: العلاقة بين العنوان والإهداء الثاني

الإهداء الثاني موجّه إلى الذات:

لمن كبتتْ ثم كتبتْ، وما بكتْ

كم يليقُ بملحكِ خبزُ الضّوء؟

 

هنا الشاعرة تصف ذاتها:

كبتت الألم

ثم كتبت بدل أن تبكي

والكتابة تحوّلت إلى خبز الضوء (وهذه استعارة عظيمة: الضوء لا يُخبز عادة، لكنها تجعل الضوء مادة تؤكل، كالرغيف).

والآن نربط هذا مع العنوان:

آنستُ حبرًا = لحظة اختيار الكتابة بدل البكاء

كأن الشاعرة تقول: "حين رأيت الحبر، أنستُ به واخترته، فتحوّلت دمعتي المكبوتة إلى كتابة"

وبالتالي، الإهداء الثاني يُفَصِّل التجربة الذاتية التي يبدأ الإعلان عنها في العنوان.

 

ثالثًا: المثلث البنائي (العنوان + الإهداءين)

إذا نظرنا إليها كبنية، سنراها كالتالي:

بمعنى آخر:

الحبر هو نار موسى بالنسبة للشاعرة، لكنه بدل أن يحرق، يُنبت الخبز (في الإهداء الأول)، وينير الذات (في الإهداء الثاني).

التجربة هنا كلها قائمة على فكرة:

الألم → رؤية الحبر → الكتابة → الخبز/الضوء

 

رابعًا: الخلاصة النقدية

الديوان يبدأ من لحظة الانبثاق الشعري، حيث:

الحبر يصبح هو "الأنس"، بدل البكاء أو الصراخ.

القلب المطحون يتحوّل إلى رغيف شعري يُهدى للآخر.

الذات المكبوتة تكتشف خلاصها في الكتابة، لا في الدموع.

وكل هذا ينبثق من الفعل الأساسي الذي في العنوان:

آنستُ

أي أن الرؤية ليست بصرية فقط، بل هي وجدانية/روحية.

 

 

3. المستوى اللغوي والجمالي

      تقوم بنية اللغة الشعرية في ديوان إني آنستُ حبرًا على اقتصاد لغوي مكثّف وشحنة دلالية عالية، حيث تنأى الشاعرة عن البلاغة التقليدية أو الزخرفة المجازية، لتُنتج جمالًا شعريًا شفافًا، قائمًا على التوتر بين البساطة والعمق، بين الإشارة والتأويل.

اللغة هنا ليست مجرد أداة، بل هي جسد نفسي، صوت داخلي، وبنية رمزية تُخاطب القارئ من بين السطور. تتقشّف حينًا وتفيض حينًا آخر، ما يخلق إيقاعًا داخليًا غير مسموع، لكنه محسوس من خلال التوازي الصوتي والتكرار الدلالي.

"أمحو ملامحي بالحبر، كي أكتبني من جديد"

في هذا السطر، تتقاطع اللغة مع فعل الخلق الذاتي، ويظهر الحبر كأداة محو وإعادة تكوين، وهو ما يعكس جمالًا فكريًا يتجاوز جماليات التزيين اللفظي. تظهر صورة الحبر بوصفه عملية محو وتشكيل متجددة للهوية، وتُعبّر اللغة عن ذاتها لا كحامل للمعنى بل كمنشئ له. كما

الجمل غالبًا قصيرة، متقطعة، وتُفضي إلى إيقاع داخلي يشبه النبض النفسي. لا يوجد انتظام عروضي، لكن ثمة تناظر خفي، يعتمد على التكرار، التوازي، والاشتقاق الداخلي للكلمات. هذا ما يمنح النصوص طابعًا شبه موسيقي دون أن تكون موزونة.

 

وعند مقارنتها بشعراء كتبوا بنفس الرموز، يتضح ما يلي:

مقارنة رمزية: الحبر كمنفى داخلي – بين بريكات وأدونيس وسعادة وبركات

إنّ الحبر في ديوان "إني آنستُ حبرًا" ليس مجرد أداة للكتابة، بل هو ما يتوهّج داخل الذات الشاعرة، ما يشبه "المنفى الداخلي"، أو "الذاكرة التي لا تُروى إلا بالنزف"، وهو ما يُحيلنا إلى وديع سعادة، حين يقول في ديوانه "المياه كلها بلون الغرق":

"أكتب لأتأكد أنني ما زلت أتنفّس، أنني لم أمت بالكامل."

هذه العبارة تشكّل مفتاحًا مشتركًا بين سعادة وبريكات، إذ تتحول الكتابة إلى دليل بقاء، إلى فعل استدراك داخلي لا يُقصد به الآخر بل الذات المتصدعة.

أما في تجربة سليم بركات، وتحديدًا في "هاتهِ الصورةُ… هاتهِ اللعنة"، فنحن أمام شعرية كثيفة رمزية، يستدعي فيها الجسد واللغة كيانًا كونيًا يتكلم فيه كل شيء، يقول مثلًا:

"اللغةُ تنهضُ على رؤوس أصابعي، والسكينُ في داخلي يكتبني."

هذا التداخل بين الجسد واللغة، بين الألم والكتابة، يوازي ما نجده في قصيدة بريكات حين تقول:

"أضع قلبي في كأس الحليب... وأخبّئه تحت وسادة الدُّمى."

فهنا، كما عند بركات، لا تنفصل أدوات البراءة (الحليب، الدُّمى) عن دوافع الألم والكشف، بل تنصهر بها، لتخلق شكلًا من الطفولة المجروحة التي تتكلّم بالشعر، لا بالكلام العادي.

أدونيس يوظّف الحبر رمزًا للجرح المعرفي، كما في قوله: "الحبرُ دمُ اللغة"، وهو بذلك يجعل الكتابة فعل جرح معرفي. أما عند بريكات، فالحبر يصبح وسيلة لإعادة خلق الذات المهددة بالذوبان، لا مجرد جرح فكري.

بينما سركون بولص، يقول في الكتابة :

"أكتب كي لا أموت، أكتب كي أرتّب الغبار في داخلي."

 ويرتبط بالثنائية الرمزية بين الطين والملح، وهي من أكثر الثنائيات كثافة ودلالة في شعره:

"أنا من الطين، يا صديقي،

لكنني محكومٌ بأن أحلم بالملح."

(من ديوانه: الوصول إلى مدينة أين)

يتقاطع هذا القول مع ما نلمحه في ديوان "إني آنستُ حبرًا" لعائشة بريكات، حيث تتجلّى الثنائية الوجودية بين الأصل الأرضي (الطين)، وبين الحنين إلى التوهّج أو الوجع المصفّى (الملح). في كلا النصَّين، تتحوّل المادة إلى استعارة للحالة الشعورية:

الطين: يرمز إلى الجذر، إلى الجسد، إلى ثقل الحياة.

الملح: رمز للتجربة، للدموع، للبقاء رغم التآكل.

كما في نص لبريكات تقول فيه:

"كنتُ أصلّي لجفوني ألا تملحَ ثانيةً،

ففي كل دمعةٍ، وجعٌ يُعيدني إلى البدء."

تُصبح الدموع هنا معادلًا للملح، ومع كل "تملّح" تعود الذات إلى الطين، أي إلى هشاشتها الأولى، لتعيد كتابة أوجاعها بالحبر. وهذا يجعل من الكتابة فعلًا يعبر الجسد عبر دورتين متكاملتين: التحلل (الطين) والانبعاث (الملح/الحبر).

وهكذا فإن الرموز المشتركة تتخذ في نص بريكات أبعادًا أنثوية/داخلية، تُعيد إنتاج المعنى من موقع ذاتي نابع من الجرح والحنين والرغبة في النجاة.

جمالية المعنى عند بريكات:

-        لا تراهن على الإدهاش، بل على الإيحاء.

-        لا تستعرض اللغة، بل تُخضعها للحالة الشعورية.

-        تمزج بين الصور المادية (الخبز، الرغيف، الحبر) والدلالات التجريدية (الغياب، الحنين، الهوية).

-        تعتمد على التوازي التركيبي كوسيلة لإعادة بناء التوازن الداخلي للقصيدة، لا كحيلة بلاغية.

-        الجمال هنا هو جمال التخفّي، حيث لا تلوح اللغة بزخرفتها، بل تهمس، وتكثّف، وتُوجع. وهذا ما يجعل من شعر بريكات مثالًا على الكتابة الهادئة التي تترك جرحًا ناعمًا.

-        الجمال في هذه النصوص ليس زخرفيًا، بل تأملي وعميق، يتشكل من الإيحاء ومن القدرة على تكثيف المعنى في كلمات قليلة، في انسجام تام مع بنية قصيدة النثر الحديثة.

 

4. المستوى الديناميكي

      يعتمد المستوى الديناميكي في ديوان "إني آنستُ حبرًا" على حركة شعورية داخلية تستبطن تصاعدًا إيقاعيًا نفسيًا يتأرجح بين الكتمان والبوح، وبين الانكسار والانبعاث. الديناميكية هنا لا ترتكز على سردية خطية، بل على تحولات الحالة الشعورية، وعلى تصعيد الصور من شكل إلى آخر.

تقول الشاعرة: "أُرتّب الحزن في صدري... كوعدِ نبتةٍ لا تُزهر إلا في الظل"

نجد هنا أن الصورة الشعرية تتحرك من تنظيم داخلي (ترتيب الحزن) إلى إمكان الحياة (نبتة الوعد)، بما يكشف عن تطور انفعالي يتجلّى بصور ذات طبيعة عضوية حيّة.

عند مقارنة هذه الديناميكية مع شعر وديع سعادة، نلاحظ أن سعادة يُبقي الديناميكية محصورة في الحياد والانكسار، إذ تتردد قصائده بين الفقد والتلاشي بصوت هادئ متراجع. أما بريكات، فتتخذ من التكرار والتوازي مسارًا تصاعديًا يخلق احتكاكًا داخليًا، كما لو أن اللغة نفسها تتحرّك لتوقظ الذات:

"أُمسِك ظلِّي حين أضيع، أُربّت على الفراغ، أَلوّح للغصة كأنها قارب نجاتي"

في هذا المقطع تتولد الحركة من تراكم الإيماءات الداخلية التي تقاوم الثبات، وتُعيد تشكيل اللغة من الداخل.

أما مقارنة مع سليم بركات، فهي تكشف عن اختلاف في منبع الحركة: بركات يُولّد ديناميكيته من صراع اللغة مع نفسها وكثافة مفرداتها، بينما بريكات تُولّدها من صراع الذات مع اللغة، حيث تكون اللغة أقل تزاحمًا وأكثر طقسية، لكنها تحمل موجات داخلية عالية الانفعال.

الحركة في ديوان بريكات ليست شكلية أو خارجية، بل حركة رمزية ترتبط بتبدّل الهوية وتحوّل الأنا. فالنص لا يسير إلى الأمام، بل يدور حول الذات بحثًا عن خلاص داخلي. وهذا ما يمنح النص ديناميكية حلزونية تقوم على التكرار التحويلي، لا على التنقل الخطي.

 

حقل الرمزية في الديوان :

      يتأسّس خطاب الديوان على شبكة من الرموز التي لا تُقدَّم بمعناها الثابت أو القاموسي، بل تُعاد صياغتها ضمن سياق وجداني شخصي تتداخل فيه الذات الشاعرة مع العالم الخارجي، في علاقة تصعيد وتحوّل.

1. الحبر بوصفه رمزًا وجوديًا: العنوان "إني آنستُ حبرًا" لا يكتفي بالتلميح إلى الكتابة، بل يمنح الحبر دلالة نورانية تشبه النار المقدّسة، بما تحمله من استبصار، ودفء، وربما ألم. هنا يتحوّل الحبر إلى حضور داخلي، يُرى ويُشَم ويُحَسّ، لا كأداة كتابة، بل ككيان يتوهّج في عتمة الذات. إنه مرآة للبوح الذي يقي من الانطفاء.

2. القمر والعواء: تكرار صورة القمر في قصائد الشاعرة لا يُحيل فقط إلى الرومانسية، بل إلى رمزية الامتلاء والانكشاف، فيما العواء – بما يحمله من إيحاء حيواني بدائي – يكشف لحظة الانفجار الداخلي أو الحاجة إلى إطلاق الألم. المفارقة بين "اكتمال القمر" و"رغبة العواء" تحوّل الرمز من دالٍّ على الجمال إلى دالٍّ على الألم المكبوت.

3. الجسد بوصفه نصًّا: في أكثر من قصيدة، يُعاد بناء الجسد ككائن ينطق، يتمزق، يتخفف، أو يتماسك. لا يُطرح الجسد كجسد أنثوي شهواني، بل كوعاء شعري – كيان يعبر عنه النص، لا مجرد موضوع له. تظهر الشفاه، الجفون، العيون، الأقدام كأعضاء متشظية، تتكلم باسم التجربة.

4. الزمن والضوء: ينتشر الزمن في النصوص كشعور لا كوقائع: "تطول الخطوة"، "يعود الليل"، "ينكمش القلب". بينما يُمثّل الضوء – سواء بصيغة القمر، أو الحبر، أو "النور الخافت" – أداة كشف داخلية، غالبًا ما تترافق مع لحظات مواجهة الذات أو الآخر.

5. الطفولة والخذلان: تتكرّر إشارات الطفولة عبر مفردات مثل: "الأرجوحة"، "الحليب"، "الدمية"، "الصوت المرتجف"، وكلها تُوظف كرموز للفقد الأول، أو لجرح لم يلتئم. ترتبط هذه الرموز بشعور خفي بأن الذات الشاعرة تنظر إلى نفسها من موقع الطفلة المجروحة التي تكتب لتداوي، أو لتفهم.

 

 

5. المستوى النفسي

يشكّل المستوى النفسي في ديوان "إني آنستُ حبرًا" بنية عميقة تتقاطع فيها الذات مع اللغة، والألم مع الخلاص. تقدم الشاعرة شخصية شعرية مُمزّقة لكنها واعية بتمزقها، ومُصغية إلى ظلال ذاتها في المرآة، في الغياب، وفي أصوات الأمهات والجدّات اللواتي يَغِبن ليحضرن كقوى داخلية حارسة أو مُلهِمة.

تحضر في النصوص صور متعدّدة ل (الأركيتايب)[1] الأنثوي، وفي طليعته "الأم الكبرى"، بوصفها صورة نفسية متجذّرة في لاوعي الذات، تعيد الشاعرة استدعاءها عبر مفردات مثل: الحنان، الرغيف، الضوء، الحبر، الطفلة. هذه الرموز تُعيد تشكيل العلاقة بين الذات وذاكرتها، حيث يُعاد بناء الماضي كمساحة للاحتماء لا كعائق.

التكرار هنا ليس مجرد بنية لغوية بل استجابة نفسية: كل تكرار لمفردة مؤلمة (كالحبر، الرغيف، الضوء) هو بمثابة عملية تهدئة داخلية، تُشبه ما يسميه التحليل النفسي بـ “إعادة التملك” — أي محاولة للسيطرة على الألم عبر النطق به شعريًا.

تقول الشاعرة: "أمسح حزني بقصيدة... وأربّي جرحًا في صمتي"

هنا لا يُلغى الحزن بل يُحتضن، ويُعاد تدويره داخل اللغة. إنها كتابة ترويض ذاتي للوجع لا بهدف المحو، بل بهدف التكيّف الواعي معه.

كما تحضر في بعض النصوص بنية حلمية أو كابوسية، مثل انشطار الذات، تلاشي الملامح، أو التشظي بين الماضي والحاضر. هذه العناصر تُشير إلى آليات لاشعورية في الدفاع الذاتي، وتحاكي تجربة الانفصال أو التنافر الداخلي الذي غالبًا ما يرافق الهويات الأنثوية المكسورة بفعل القمع أو الفقد.

وعند المقارنة مع تجارب أخرى:

تُقارب سيلفيا بلاث الجرح بمواجهة حادة وانفجارية، بينما بريكات تقترب من الألم كأنها تربّت عليه بلطف، تروضه وتُحنّطه في نص ناعم لكنه عميق النفاذ.

غادة السمان تكتب عن الذات الأنثوية الغاضبة والرافضة، أما بريكات فتكتب عن الذات المنكسرة التي تحاول التماسك بصمت لا يقل احتجاجًا عن الغضب.

وإن استحضرنا مفاهيم "الكتابة النسوية الجسدية" (écriture féminine) كما لدى هيلين سيكسو، التي تعلنها " على المرأة أن تكتب بجسدها، عليها أن تخترع الكتابة التي لا تخضع لاقتصاد الذكر"، نجد في قصائد بريكات تماثلًا واضحًا: إذ تُصبح اللغة امتدادًا للجسد، تُكتب كما يُبكى، كما يُتألم، لا كما يُخطَّط نظريًا.

وبذلك، لا يكون المستوى النفسي خلفية للنص، بل محرّكًا داخليًا له. كل كلمة تُعيد رسم الذات، وكل صورة تُداوي ندبة، واللغة تتحول إلى جلدٍ داخلي ترتديه الشاعرة في غياب الدفء.

 

6. المستوى الذرائعي العميق:

     يتجلى المستوى التداولي في ديوان "إني آنستُ حبرًا" عبر آليات متشابكة تتخطى البنية الجمالية إلى الفعل التواصلي الموجّه نحو قارئ متخيَّل، يتم استدعاؤه ليس بوصفه متلقيًا سلبيًا، بل مشاركًا في بناء المعنى. تقوم القصائد على مخاطبة الذات والآخر معًا، وتتحول اللغة إلى حوار داخلي- خارجي، يحمل شفرات تُطلق ولا تُغلق.

في كثير من المقاطع، تستخدم الشاعرة ضمير الخطاب: "قلنا: لا نريد القصيدة... لكن القصيدة جاءت"

هنا تُحرّك النص من كونه قولًا فرديًا إلى موقف جمعي، مما يمنح القصيدة وظيفة جماعية، ويُحمّل القارئ عبء التأويل والمشاركة. فالنص لا يُسلّم رسالته كاملة، بل يراهن على المسافة بين المعنى الصريح والمعنى الممكن، تلك المسافة التي يسكنها القارئ.

التداول هنا لا يقتصر على مستوى المقروئية، بل يشمل أيضًا الأثر الذهني والعاطفي. فالشاعرة تكتب بنبرة مشحونة بنداءات وجدانية، أسئلة مفتوحة، وتوتر لغوي يحفّز التفاعل لا الامتثال. كما تستخدم الإيقاع النفسي كتقنية تداولية؛ حين يتكرّر القول، لا بهدف الإلحاح فحسب، بل بوصفه صدى داخليًّا يُلامس القارئ في قلقه.

المقصدية في هذا الديوان عالية، لكنها غير مباشرة؛ إذ لا تعلن الشاعرة عن رسالتها بوضوح، بل تنثر إشارات، تزرع جروحًا لغوية، وتترك للقارئ مسؤولية جمع الشظايا. هذه المقصدية المفتوحة تتناغم مع ما تسعى إليه الذرائعية من ربط النص بالفعل التأويلي.

كما أن الإشارات العميقة إلى الخبز، والحنطة، والضوء، واللغة الأم، تتحوّل إلى رموز تداولية ثقافية تشد النص إلى لاوعي جمعي، وتُخاطب قارئًا عربيًّا يمتلك ذاكرة قهر وجوع وانمحاء.

إن القصيدة هنا تُمارس نوعًا من التفاوض الوجداني مع القارئ، وتعرض عليه احتمالات للنجاة، دون أن تُنهي سرده. وهذا ما يمنح المستوى التداولي عمقه الحقيقي: قدرة النص على إشراك القارئ في إنقاذ المعنى من الغياب.

 

الملاحظات النهائية على الديوان:

نكمل إذًا بما يُسمى في منهج الذرائعية بـ الملاحظات النهائية، حيث نلخص الأثر العام للنصوص، وتُجمع الخيوط التي رأيناها في المستويات المختلفة (البؤرة، اللغوي، الديناميكي، النفسي، التجربة الإبداعية).

1. شعرية مشبعة بالحميمية والأنس.

    العنوان "إنّي آنستُ حبرًا" يهيمن كحالة شعورية على الديوان كله، فنجد أثر الأنس بالحبر، أي بالكتابة، يتردد في أغلب النصوص. الشاعرة تتعامل مع الشعر ككائن يواسيها، يشبه الأهل والصديق، وهذا يخلق أثرًا دافئًا وعاطفيًا في القارئ.

2. حضور قوي للأنوثة المقاومة

    هناك نبرة واضحة تُظهر المرأة الشاعرة بوصفها ذاتًا قادرة على الصبر، والكبت، والتحويل دون استسلام. فالبكاء يُستبدل بالكتابة، والملح يتحول إلى خبز من الضوء. هذه الصورة تولد شعورًا بأن القارئ يتابع صراعًا داخليًا منتصرًا، وهذا يُضفي على الديوان قوة نفسية كامنة.

3. التكثيف الرمزي يمنح النصوص عمقًا إضافيًا

    استخدام الشاعرة للصور الرمزية (الرغيف، الحنطة، الرحى، الضوء، الملح) يجعل القارئ ينشغل بتفكيك الدلالات، وهذا يخلق تفاعلًا ذهنيًا يُعمق الأثر، ويُخرج النص من المباشرة إلى التأويل المفتوح. وبالتالي، يشعر المتلقي بأنه شريك في إضاءة النص.

4. الإيقاع النفسي قبل الإيقاع العروضي

     بالرغم من أن النصوص تلتزم بإيقاع لغوي داخلي، إلا أن الأثر الأقوى ينبع من الإيقاع النفسي الناتج عن تعاقب الصور والشحنات الشعورية. فالقارئ لا ينجذب إلى الجرس الموسيقي بقدر ما يُجبر على السير مع توتر الذات داخل القصيدة.

5. تكامل بين مستويات النص

     عندما ننظر إلى البؤرة الفكرية و(القيمة الأخلاقية)، والمستوى اللغوي، والديناميكي، والنفسي، نجدها جميعًا متآزرة، تخدم بعضها البعض. فالتجربة النفسية تفرض الصور اللغوية، وهذه الصور تدفع الدينامية، لتصب في النهاية في خلفية أخلاقية عالية: السمو عبر الألم.

الأثر العام:

يخرج القارئ من الديوان وهو يشعر أنه عبر مع الشاعرة رحلة تطهيرية، فيها شيء من الألم لكن كثير من الضوء، وفيها صراع مع الذات انتهى بوعي جديد وقوة داخلية.

إنه شعر لا يكتفي بالتصوير بل يحرّض على التحوّل، سواء للشاعرة أو للمتلقي. وهذا ما يجعل الأثر مستمرًا بعد القراءة، حيث تبقى الصور والدلالات تتردد في الذهن، وتدعو القارئ للتأمل الذاتي.

 

خلاصة:

     إن ما يتيحه ديوان "إني آنستُ حبرًا" ليس فقط قراءة شعرية، بل ممارسة لتجربة تطهيرية تتحول فيها الكتابة إلى طقس داخلي للمقاومة، وللتحوّل من الندبة إلى النص، من الجرح إلى الخبز، ومن الصوت المخنوق إلى رغيف الضوء. لقد استطاعت الشاعرة أن تخلق إيقاعها الداخلي الذي لا يقوم على موسيقى تقليدية، بل على توازي الدلالات، وتكرار الرموز، وتوتر الذات.

تكشف القراءة الذرائعية في هذا السياق عن تكامل مستويات النص، حيث تتآزر البنية الأخلاقية (الألم كمنبع للخلق)، مع المستوى اللغوي (الصور المركبة ذات المرجع الصوفي والنسوي)، مع المستوى النفسي (الحفر في الذات ومواجهة الجرح)، والديناميكي (الحركة من السكون إلى الإيقاع)، والتداولي (الصوت الذي يُخاطِب ويُحاسب القارئ).

كما أن الاشتغال على صورة "الأم الكبرى"، الجدّة، والجسد الأنثوي، يضع الديوان في تماسّ مع الأركيتايب اليونغي (Jung) من جهة، ومع مفهوم "القصيدة الأنثوية المقاومة" من جهة أخرى، في توازٍ مع تجارب غادة السمان وعدنية شبلي وسيلفيا بلاث.

بهذا المعنى، لا تكون قصيدة النثر في هذا الديوان مجرد انفعال شعري، بل شكلًا من أشكال البقاء، وفعلًا من أفعال النجاة. ويظل الحبر في نصوص عائشة بريكات ليس مجرد أثر على الورق، بل تجليًا لرؤية: الذات التي تعرف أن تكتب خلاصها.

 

 

 

 

 

 

تحليل أبرز المستويات الذرائعية لعدد من القصائد

 

1-   قصيدة لقاء معي

 

     هذه القصيدة قطعة شعرية كثيفة، تحمل ملامح من المنولوج الداخلي والحوار الجدلي مع الذات والآخر، وتفيض بطاقة رمزية عالية. لتحليل النص وفق المستوى التداولي العميق وتقنيات الأسلوب، إليك هذا التفكيك المنهجي:

أولًا: المستوى التداولي العميق

    في الذرائعية، نبحث هنا عن القصدية (البراغماتية) العميقة التي تحرّك الخطاب، والكيفيّة التي يُفعَّل بها المعنى بين المتكلّم والمخاطب، سواء أكان ظاهرًا أم ضمنيًّا.

1. الحوار الذاتي/الجدلي

    النص مبني على حوارية تبدو ظاهرًا بين «أنا» و«آخر»، لكنها في العمق مرايا متقابلة داخل الذات الواحدة، حيث «الأنت» ليس إلا قناعًا آخر للـ«أنا»:

«من أنت؟» السؤال المتكرّر يمثّل تفكيك الهوية وإعادة تشكيلها في كل مقطع.

هذا التكرار التداولي يُحدث تراكمًا شعوريًا، ويعكس صراع الذات بين الاعتراف والإنكار، بين التذكر والنسيان.

2. قصدية التخفف والتطهر

    النص يتوسّل الحرف ليكون:

أداة دفن «أنا لا أكتب، أنا أدفن»

أداة ردم للخراب الداخلي «أهلتُه على قلبي برفش التجمل»

أداة تطهير «أجمعُ كل بياضي أصيّرهُ كفنًا»

 المعنى الذرائعي العميق هنا أن الكتابة عند المتكلمة فعل فدائي تطهيري، حيث تُفني نفسها في الحرف لتتخفّف من أثقال الوجع.

3. انقلاب الأدوار

عندما تقول: «كنتُ بكَ أتحدى الأيّام حتّى مِلتَ إلى صفّها»، فهي تُسقِط خيانة الحبيب في خانة التواطؤ مع الزمن نفسه.

وهذا يكشف عن تقنية تداولية عميقة: شخصنة الزمن، ليصبح طرفًا في المؤامرة على الذات.

 

ثانيًا: التقنيات الأسلوبية المستخدمة

1. الأسلوب الحواري التفكيكي

تكرار الأسئلة (من أنت؟، بم تفكرين؟، ماذا تقولين؟) يخلق إيقاعًا أسلوبيًا دائريًا، يعكس دوران الذات حول أزمتها الوجودية.

هذه التقنية مأخوذة من فن الحوارات السقراطية، حيث يُستخدم السؤال كوسيلة لتعرية الذات.

2. الصورة الرمزية المركبة

«أنا طهر الدمع في صحن الخزف»

صورة مزدوجة (الدمع=نقاء، صحن الخزف=هشاشة)، مما يُنتج دلالة على النقاء المهدد بالانكسار.

«حفّارة قلوب أنا، قلمي رفش ومحبرتي ماء»

هنا تقنية المجاز الآلي (تحويل أدوات الكتابة إلى أدوات حفر)، تعزّز من وظيفة النص كفعل تطهير وتفريغ.

3. اللغة التصعيدية

التنقل من الاعتراف الحزين إلى السخرية السوداء «تخرج لي لسانها وترفع بوجهي إصبعها الأوسط»

يكشف عن تقنية التوتر الأسلوبي، حيث تصعد اللغة من الحزن إلى الغضب، ومن الرثاء إلى السخرية.

4. تقنية الاختزال

«سامحيني، حاولت!»

جملة قصيرة مكثفة، تمثل ذروة انهيار القوة الخطابية، وتُعدّل إيقاع النص ليكون لحظة اعتراف خافت.

5. النهاية الشاهدية

«فليكتبوا على شاهدة قبري…»

هنا تقنية الخاتمة الميتانصّية، حيث تتنبأ الذات بمصيرها، وتصوغ وصيتها بوعي كتابي واضح، كأنها تمارس كتابة شاهدة قبرها.

خلاصة التداول العميق للنص:

    الذات الشاعرة هنا تتفكك وتُعاد صياغتها عبر مرآة السؤال والجواب، في حركة تداولية تهدف إلى التصالح مع الوجع عبر الكتابة.

النص يستخدم تقنيات الحفر الأسلوبي: التكرار، الصورة المركبة، التوتر التصعيدي، الاختزال، والنهاية الشاهدية، ليُنتج خطابًا شعريًا عميقًا يلامس حدود الطقس التطهيري.

الحرف في هذا النص ليس أداة تعبير بل أداة نجاة، والكتابة تتحوّل إلى فعل وجودي في مواجهة الفقد، الهجر، والخراب الداخلي.

 

 

 

 

 

 

 

2-   قلنا

     قطعة من الشعر العشقي الصوفي، حيث يمتزج الحب بالفناء، ويتحول الجسد إلى لغة، والعلاقة إلى نوع من التحليق الرمزي.

أولًا: المستوى التداولي العميق

1. التناوب في الأدوار التداولية

النص يُبنى بالكامل على تقنية الاسترجاع التداولي:

المتكلمة تستدعي أقوال «هو» «مذْ قلتَ...»، «مذْ سألتني...» وتبني ردّ فعلها الوجودي على هذه الأقوال.

التداول هنا تفاعلي وليس خطّي؛ فكل قول من الحبيب يعيد تشكيل وجودها ويفتح مدارًا جديدًا من التفاعل.

2. التحول من الثنائية إلى الوحدة

تقول: «في آخر مرة قصدنا الموتَ معًا، أيّنا عادَ حيًّا؟»

هذا تساؤل تداولي يُذيب الفواصل بين الاثنين؛ فتذوب الذات والآخر في تجربة الموت الرمزي (الفناء الصوفي العاشق).

3. الإفشاء التدريجي للانصهار

كل مقطع يبدأ بـ«مذْ قلتَ» يمثل لحظة تحوّل، حيث تنتقل المتكلمة من حالة إلى أخرى:

من الانتظار «بفارغ التّرمّد»

إلى الامتلاء «كل الخطوات تُفضي إليك»

إلى التحليق «نمت لي أجنحة»

إلى الاحتراق «صرتُ جحيمك»

هذه الحركية التداولية العميقة تجعل من النص رحلة تفاعلية بين الأثر (كلامه) ورد الفعل (تحوّلها)، فالحب هنا يُمارس كتبادل طاقي ينقلها من طور إلى طور.

 

ثانيًا: التقنيات الأسلوبية والفلسفات

1. التقنيات الأسلوبية:

-        الاسترجاع التداولي: «مذْ قلتَ» مكرّرة، وهذه تقنية تؤسس لبنية دائرة، تجعل كل صورة شعرية متولّدة من قول الحبيب.

-        المجاز الجسدي: كل الصور تنقل العلاقة إلى مستوى الجسد:

«تنهمران حبرًا تحتَ جلدي»

«تحوّلتُ لحبّةِ مطر»

الجسد هنا مسرح للكتابة والاحتراق والانصهار.

-        تشبيه متحوّل: التشبيهات ليست ثابتة بل تتحرك:

«حبّة مطر» تتحوّل إلى «أجنحة» ثم إلى «جحيم». هذا تصعيد أسلوبي يواكب التحوّل الداخلي للمتكلمة.

2. الفلسفات الضمنية

أ. فلسفة الفناء الصوفي:

«قصدنا الموت معًا»

«أيّنا عادَ حيًّا ؟»

هنا يحضر مفهوم الفناء عند الصوفيين، حيث العاشق يذوب في المعشوق، حتى يغيب الطرفان وتبقى الوحدة.

ب. فلسفة التحليق والتحرر

«نمت لي أجنحة»

«حلّقي فأنا سماؤكِ»

هذه صور مستمدة من الميتافيزيقا العرفانية، حيث تتحوّل التجربة العاطفية إلى فعل تحرّر من الجسد والمكان، كأنّ الحب هنا يرفع الذات إلى مقام أعلى.

ج. فلسفة الاحتراق والتطهّر

«أشدها احتراقًا»

«بفارغ التّرمّد»

«صرتُ جحيمك»

تحضر فلسفة النار بوصفها أداة تطهير وتحوّل، ما يذكرنا بمفاهيم النار عند الحلاج وابن الفارض، حيث يكون الاحتراق نهاية طريق العشق.

 فالنصّ يمارس الكتابة كطقس تحوّلي: فكل كلمة من الآخر تُعيد تشكيل الذات المتكلّمة، وتنقلها من صورة إلى صورة (موجة، مطر، جناح، جحيم).

التداول هنا حيوي دائري، حيث الأقوال لا تُترك في الزمن، بل تستعاد وتُمارس تأثيرها الوجودي في الذات المتكلمة.

فالأساليب: تقوم على الاسترجاع، المجاز الجسدي، التصعيد التحولي.

والفلسفة الضمنية في النص تمزج بين الفناء الصوفي، والتحليق العرفاني، والاحتراق الطقوسي.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

3-   إليك

    النص هنا، مختلف عن النص السابق:

هنا ننتقل من التحليق العاشق الصوفي إلى المساءلة الشعرية الوجودية.

يصبح الصوتُ في النص أقرب إلى النبيّ المعذَّب أو الشاعرة النبية التي تتوسّط بين السماء والأرض، وتدفع ثمن المعرفة والكشف.

أولًا: المستوى التداولي العميق

1. التداول القائم على التوتر والاستنطاق

النص يبني مساره من خلال سلسلة من الأسئلة التحدّية:

«فكم مرة سيُنفخ في قصائدنا؟»، «ومن هنّ الأربع في عمرك؟»، «وماذا كُتب تحت عرش قلبكَ؟»

هذا النوع من التوجيه التداولي يُسمّى الاستنطاق الشعري، حيث يُجبر المتلقّي (الآخر، المخاطَب) على المشاركة لا كمتلقٍ سلبي، بل كمُجيب مفترض، حتى لو لم ينطق.

 التداول هنا تصعيدي: يبدأ بالقصائد والحبر والمعنى، ثم يتوسّع إلى الميتافيزيقا (القصيدة التي قتلتني فأحيتك؟)، ثم يصل إلى الأسئلة عن النعيم، العرش، الجنة، القهر الأول.

2. الموقف التداولي: الشاعرة كوسيط معذَّب

المتكلمة تتخذ موقف المُعاتِب العليم:

تعرف أن السفن احترقت.

تدرك أن اللغة في تحديها الأكبر.

تعي أن القهر أصابها قبله.

إنها هنا تتوسّط بين الذنب والكشف، بين اللعنة والإبداع. وهذا ما يجعل النص مشبعًا بتداول اعترافي-استنكاري.

3. الاستراحة بين العذابين: موقع الكلام

قول: «من الاستراحة بين العذابين أحاولُ التواصل معك»

هذا يحدّد بوضوح الإطار التداولي:

المتكلّمة تتحدّث من المنطقة الرمادية بين عذابين (ربما: عذاب المعرفة وعذاب الفقد؟ أو عذاب الحب وعذاب الغياب؟).

مما يضفي على كل الكلام طابع النداء من الأطراف، لا من المركز. الصوت قادم من الهامش المؤلم، حيث لا خلاص كامل ولا فناء تام.

ثانيًا: التقنيات الأسلوبية والصور الجمالية

1. الصور المجازية الكثيفة والمتلاحمة

«السطرُ الحَرون» : مجاز عن الكلمة التي لا تنصاع، كأن الشعر نفسه حصان جامح، لا يخضع لسلطان الشاعرة.

«حشرجةُ الحبر في حلقوم المحبرة» تشبيه مدهش: الحبر يُشبه صوت من يُحتضر، مما يُجسّد ألم الكتابة كفعل احتضار دائم.

«سيقانُ التأويل الملتفّة بالذنوب»: هنا يتجسّد التأويل ككائن نباتي، سيقانه ليست خضراء بل ملفوفة بالذنوب، وكأن كل قراءة أو شرح هو فعل خطيئة وتعدّي.

2. تقنية السؤال التصعيدي

تبدأ بأسئلة بسيطة عن القصائد والحبر:

«وكم قصيدة ستشفعُ لمعاصي حبرنا؟»

ثم تتصاعد نحو الأسئلة الوجودية الكبرى:

«وما هي القصيدة التي قتلتني فأحيتك؟»

«وما هو القهر الأول؟»

«وماذا كُتبَ تحت عرش قلبكَ؟»

 هذا الأسلوب يُستعمل في النصوص النبوية (الأنبياء، المتصوّفة) كطريقة لتوسيع أفق السامع حتى يشعر بأنه محاصر بأسئلة لا مفرّ منها، ما يخلق شعورًا بـ"اللاهوت الشعري" داخل النص.

3. الصور الجمالية الفلسفية

«السفن المحترقة التي تركتها خلفي»

استعارة عن القطع مع الماضي، وعدم إمكانية العودة، وهي صورة مستعارة من التكتيكات الحربية القديمة (حرق السفن لمنع التراجع).

«وما حاجتي الآن لكل ما غرسته من غرقد يا المنتظر»

«غرقد» شجرة شائكة، مذكورة في الأحاديث النبوية، كأنها تقول: لمَ زرعتُ الأشواك والمرارة؟ وما نفعها الآن؟

وهذه صورة شِعرية مُضمّنة بدلالة دينية، تُعطي النص عمقًا في اشتباكه مع التراث.

4. الصورة الجمالية الختامية

«قفْ عند لحد المغزى، قلْ: هنا ترقدُ مَن استغاثت بالحبرِ فخذلها»

هذه الصورة الختامية تخلق قبرًا رمزيًا للمعنى، حيث تصبح الشاعرة شهيدة الكتابة التي لم تجد خلاصها في الحبر. ثم تطلب من المخاطَب أن يغادر، كأنها تقول: اتركني الآن، لا فائدة من هذا الحضور المتأخر.

     هذا النص يُمارس فلسفة الشعر كعقاب وكشف:

الحبر هنا ليس طاقة إبداع فحسب، بل مادة ملوثة بالذنوب، بالخذلان، وبالخطايا التأويلية.

التداول في النص مبني على ديناميكية السؤال والتحدي والعتاب، ممّا يجعل القارئ يشعر أنه في جلسة محاسبة شعرية تتجاوز ذات المخاطب إلى كل من يكتب ويقرأ.

التقنيات تعتمد على: التكثيف المجازي، التساؤل التصعيدي، الصورة المركّبة (الدينية/الجمالية/الفلسفية)

 

 

4 - إن بعض الظلّ حبر

 

     هذا نصٌّ غائر في الماء والطين والغياب، ويعتمد على طاقة المجاز المفعمة بالرموز:

أولًا: المستوى التداولي العميق:

    الخطاب هنا موجه إلى "الغياب"، وربما إلى "الآخر" الذي يمثّل الفقد أو الخذلان، لكنه يُقدَّم بصفته كيانًا متكاملًا يحرّك المعاني ويصادم الذات. التفاعل التداولي بين المتكلّم (الأنا) والمخاطب (الغياب/الحبيب/الآخر/الفقد) يُبنى على التوتر: حضور الذات مقابل انسحاب الآخر.

هناك طابع احتجاجي وتقريري (مثال: "الطّينُ أوّلُ أسماء الموت الحسنى"). هذه الجملة ليست فقط صورة، بل موقف فلسفي من علاقة الإنسان بالموت والخلق. الشاعرة هنا ليست في موقع الضحية فحسب، بل في موقع من يعيد تعريف المفاهيم من جديد. كذلك نجد التحاور الداخلي بين المفردات: الغياب - الستائر، الانتظار - الرصاصات، الطين - الموت، الملح - الزلل، الصمت - الصراخ، كأنّ المعنى لا يكتمل إلا بالصدام أو التنافر. هذا يعطي عمقًا تداوليًا حيث تُستدعى شبكة مفاهيم متضادة.

ثانيًا: الرمز التقني:

الطين: رمز أصيل في التراث الديني والميثولوجي، مرتبط بالخلق الأول، وتحويله هنا إلى "أول أسماء الموت الحسنى" ينقل الرمز من الخلق إلى الفناء، ومن الحياة إلى نقيضها، في مفارقة تحمل ثقلًا فلسفيًا.

الملح: يُستخدم كـ"طَلسْمُ لغة الضباب"، فيربط بين النقاء والألم، بين حفظ الجسد وتحنيطه (الملح كمادة تحفظ ولكنها أيضًا تجرّح).

الغياب: يتموضع ككائن فاعل، يختنق وتختنق به الستائر، في استعارة تُحوّل المفهوم إلى شيء حيّ، خانق وثقيل.

الانتظار: يُجسَّد بشكل ساخر ومرّ كـ"سراويلُ رعب فضفاضة"، كأنّه فضيحة مستمرة على جسد المدن، وهذا تحويل للانتظار من كونه فعل صبر إلى كونه فعل عنف.

ثالثًا: التناص:

يظهر تناص عميق مع مفاهيم من التراث الديني: "الطّين، الموت، الصمت، الله، الصراخ"، كلّها مصطلحات تحيل إلى معجم قرآني أو صوفي، لكنكِ تعيدين توظيفها في سياق وجودي حديث.

الجملة: "كلّما رشقني اللهُ بفكرة حجريّة" تُذكّر بتجربة الأنبياء مع الوحي، لكنها هنا تنقلب إلى علاقة مؤلمة، فالفكرة ليست نورًا بل حجرًا، تُحدث صدمة لا إلهامًا، وهذا تناص يقلب المألوف.

كذلك، "أعذارُكَ الطّينيّة" تستدعي صورة الخلق الأول (من طين)، لكنها تشير إلى ضعف الإنسان وتبريراته السقيمة، في إعادة قراءة وجودية لموروثات الخلق.

خلاصة:

التداولي: النص يشتغل على مستوى حجاجي فلسفي عميق، يواجه القيم والثنائيات (حياة/موت، حضور/غياب، صمت/صراخ).

الرمزي: يستند على رموز الطين، الملح، الغياب، لتشييد عالم مادي/ميتافيزيقي.

التناصّي: يحاور القرآن والصوفية والأساطير لكنه يحوّرها إلى صرخة وجودية معاصرة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

5 - للنون شجون

 

    هنا يفيض النص  بالتمرد الأنثوي والشجن المقنّع بجمال لغوي آسر.

أولًا: المستوى التداولي

الخطاب في هذا النص موجّه إلى "الآخر" الغائب، لكنه في عمقه موجّه إلى الذات الأنثوية في حالتها المتمرّدة على الصورة النمطية للشاعرة والأنثى.

العبارة: "أَشرعي نوافذكِ، كي لا يضنيكِ أنيني"، تُمارس سلطة تداولية مزدوجة؛ فهي تأمر (شرّعي) وفي الوقت ذاته تتوسل (كي لا يضنيكِ). مما يخلق توترًا بين القوة والضعف.

هناك لعب تداولي على صور التناقض: الشاعرة ترفع ثوبها كي "لا تتبلل القصيدة"، مما يُدخل المتلقي في عملية تفاوض بين الصورة الإيروتيكية والصورة الطاهرة (القصيدة ككيان ينبغي حمايته).

يشتغل النص أيضًا على خطاب جمعي عندما تقول: "الشاعراتُ.."، وكأنه يخلق عقدًا تداوليًا مع قارئات (أو شعراء) يعرفون هذا العالم الداخلي من الاستنزاف والشغف.

الخطاب يستخدم أفعالًا تدل على الاستحواذ والاستبداد: "تُصادِرُ"، "تستبد"، "يمارسنَ شهوة"؛ وهذه ليست أفعال الضحية بل أفعال من تعيد كتابة أدوارها الاجتماعية والفنية.

ثانيًا: المستوى النسوي

هذا النص يُعلن ثورته على الصورة النمطية للمرأة، وخاصة الشاعرة التي عادة ما تُقدَّم ككائن رقيق يكتب بدموعه فقط:

في هذا النص، تتلبّس الشاعرة أدوارًا متعدّدة: هي المُغوية "ترفع ثوبها قليلًا"، وهي المُعترفة بخطايا الجسد "تضاجعُ العتمةَ بشغف"، وهي الأم التي تهدهد الدمع والوسائد، لكنها في الوقت نفسه متمرّدة على الأمومة التقليدية.

الجملة المفتاحية هنا نسويًا: "تمسّدُ أضلعَ السّريرِ، تُزمِّلُ دمعَها بابتسامة، تَستَبِد بصراخِ النّداءاتِ.. جوعًا عن وفاء"، هذا تمثيل للمرأة ككائن جائع للحب لكنه يرفض الخضوع، مما يعكس خطابًا أنثويًا حداثيًا يتحدى قوالب الوفاء التقليدية.

"الشاعراتُ.. يزرعنَ الرّيحَ في أصابعِهنّ" صورة نسوية بامتياز، تعبّر عن النساء اللواتي يشتغلن على زراعة الممكن (الريح: الشيء العابر والهش) كي يحافظن على نارهن الداخلية.

كما أن استخدام التلميحات الجنسية (الإيروتيكية) في سياق رفض الذوبان في دور الأنثى الطاهرة أو المطيعة يعزز قراءة النص كإعلان نسوي للتمرّد على التصنيفات الذكورية للمرأة.

ثالثًا: تفكيك الصور الجمالية

النص غني للغاية بالصور المركّبة والمتداخلة، نفكك بعضها:

"تطوِّرُ لغةَ النّزيفِ"

الصورة هنا تشحن فعل الكتابة بالدم، وكأن الشاعرة تخلق شعريتها من الجرح لا من الكلمات فقط.

النزيف = الخلق، وهو نسق متكرّر في الأدب النسوي.

"تُصادِرُ هَفهفاتِ القصيدة على شرفةِ حلم حرون"

هذا مزيج بين صورة ناعمة (هفهفات القصيدة) وصورة السلطة (تصادر). القصيدة كأنها طائر يُختطف من حريته، والحلم هنا يُوصف بالحرون (الصعب ترويضه)، مما يجعل الصورة مركّبة: الحلم عنيد، والقصيدة مختطفة.

"ترفعُ ثوبَها قليلًا كي لا تتبلّلَ القصيدةْ!"

صورة عبقرية: تخلق توترًا بين الجسد والشعر، بين الفعل الإيروتيكي والفعل الشعري، وتلعب على حافة التلميح دون السقوط في المباشرة.

"يمارسنَ شهوةَ الشقاوةِ .. مناسكَ صخبِ الكمنجاتِ"

هنا صورة فنية تُشحن بأفعال الطقس (مناسك) لكنها تُنقل إلى مجال اللعب والصخب. الكمنجات ترمز إلى الأنوثة والصوت الجريح، ما يُعيد شحن الفعل الأنثوي بالقداسة الجديدة.

"يزرعنَ الرّيحَ في أصابعِهنّ"

واحدة من أجمل الصور في النص: كيف يُزرع الريح، الذي لا يُزرع؟ هذا تعبير عن العمل العبثي الجميل الذي تمارسه الشاعرة، أي الكتابة نفسها، التي تخلق من اللاشيء.

والخلاصة :

النص يعمل كثورة ناعمة، يخلخل المعايير الجمالية والأنثوية المعتادة، يقدّم الشاعرة كجسد وروح، كناقمة وعاشقة، كمن تُضاجع العتمة ولكنها تزمّل دمعها بابتسامة. الصور كلها تصنع طقسًا شعريًا أنثويًا فيه مرارة الذات وفيه شهوة للحضور والتمرد.

إنه نص يحمل بذور "القصيدة الأنثوية الحديثة" التي تستبد بالأدوار ولا ترضى بالتصنيفات الموروثة.

لذلك سأقوم ب:

1. تفكيك النص تحت عدسة الأنوثة الجريحة في مواجهة السلطة الثقافية.

2. ومقارنة صور هذه القصيدة  بصور شاعرات نسويات عالميات.

أولًا: الأنوثة الجريحة في مواجهة السلطة الثقافية

    هنا، القصيدة لا تكتفي بجماليات اللغة، بل تقوم بعملية استعادة رمزية لما فُرض على المرأة، وبالذات على "الشاعرة" كرمز أنثوي داخل المؤسسة الثقافية الذكورية.

العبارة:

"تُصادِرُ هَفهفاتِ القصيدة على شرفةِ حلم حرون"

تعكس سلطة الشاعرة على القصيدة، وهي هنا تقلب المعادلة التقليدية:

فالثقافة الذكورية لطالما عاملت الأنثى كقصيدة جميلة يجب أن تُحتفى بها، أما هنا فالشاعرة نفسها تصادر هذه الهفهفات، أي تفرض سيطرة على اللغة وعلى ما يُتوقع منها كأنثى. الحلم يوصف بـ"الحرون"، أي الذي لا يخضع، مما يُسقط إسقاطًا على الأنثى كحلم ثقافي عصيّ على الترويض.

وفي عبارة:

"ترفعُ ثوبَها قليلًا كي لا تتبلّلَ القصيدةْ!"

نرى الجسد والشعر في تفاعل جدلي: الشاعرة هنا واعية جدًا بحدود اللعبة الثقافية؛ هي تلوّح بالجسد (ترفع ثوبها)، لكنها تفعل ذلك بحذر (كي لا تتبلل القصيدة). كأنها تقول: لن أسمح لكم أن تجعلوا من شعري مجرد استعراض لجسدي. هنا نلمس مواجهة ذكية مع السلطة الثقافية التي طالما سعت لاستغلال "الأنثى الشاعرة" كجسد أولًا وكقلم ثانيًا.

عبارة:

"تضاجعُ العتمةَ بشغف"

تعلن نوعًا من التصالح مع الجرح الداخلي، لكنها أيضًا فعل سيادة: فالشاعرة لا تنتظر النور الذكوري ليمنحها المعنى، بل تمارس فعل الحب مع عتمتها، أي مع جراحها وظلالها الداخلية. هذه صورة قوية عن الأنوثة الجريحة التي تقلب ضعفها إلى ممارسة وجودية جريئة.

وفي:

"يزرعنَ الرّيحَ في أصابعِهنّ.. خوفًا على نارِ الذّروةِ من الانطفاءِ"

نصل إلى قمة المواجهة الرمزية: الشاعرة، رغم هشاشتها (تزرع الريح، الذي لا يُزرع)، إلا أنها تمارس هذا الفعل العبثي دفاعًا عن نارها الداخلية (نار الذروة). كأن النص يقول: حتى في الهشاشة، الأنثى تحمل سلاحها السري ضد الانطفاء.

ثانيًا: مقارنة مع شاعرات نسويات عالميات

سيلفيا بلاث

سيلفيا بلاث، في قصائدها، غالبًا ما استخدمت صورة الجسد الجريح والعلاقة الإشكالية مع السلطة الذكورية (الأب، الزوج، المؤسسة). مثلًا، في قصيدتها "بابا"، تتحدّث عن العلاقة السامة مع سلطة الذكر الأب. في قصيدة عائشة، نلمح شيئًا مشابهًا، ولكن بفارق:

سيلفيا بلاث تميل إلى فضح الجرح بوحشية، أما نص عائشة فيُلبس الجرحَ ثوبَ الأنوثة المتمردة، لكنه يحتفظ بجمال الغموض، كما في: "تُزمِّلُ دمعَها بابتسامة"، هذه صورة لا تكسر الجرح، بل تلبسه بعباءة القوة الناعمة.

غادة السمان

شاعرة عربية نسوية ثارت على التصنيفات الموروثة، خاصة في كتابها "كوابيس بيروت"، حيث ربطت بين الجسد والتحرر السياسي والاجتماعي. غادة السمان كانت أيضًا تُطوّع الصور الإيروتيكية لتقول في قصيدة من ديوان " كأني مت يا غريب":

" كأني مت

وأستطيع أن أستعيد ذكرى

جسدك

عضلة عضلة

من دون أن يختلع جسدي

شهوة أو غيرة أو غضبا "

ونص عائشة قريب جدًا من هذه الروح، مثلًا في:

"ارتداءُ الممكنِ دثارَ المحالِ"

هذا تمامًا أسلوب غادة في خلق معادلة بين المستحيل والممكن داخل التجربة الأنثوية.

عدنية شبلي (الكاتبة الفلسطينية)

تكتب عن الأنثى المحاصَرة في الجغرافيا والسياسة والجسد. نصوصها مملوءة بصور عن الأنوثة التي تكتب وتبكي وتنتفض.

نص عائشة يتقاطع مع هذا التيار خاصة في استخدامها لعبارات مثل:

"يمارسنَ شهوةَ الشقاوةِ .. مناسكَ صخبِ الكمنجاتِ"،

حيث تمارس العائشة طقسًا شعريًا يُشبه التمرد الوجودي الذي تقوم به عدنية شبلي، لكن بلغة أكثر زخرفًا وصورًا.

خاتمة التحليل:

يمكننا أن نقول إن هذا النص يؤسس لما يمكن أن يُسمى:

"قصيدة أنثى ما بعد الجرح"، حيث الأنوثة هنا ليست ضحية بالكامل، ولا قاتلة بالكامل، بل كائن يُفاوض السلطة الثقافية والجسدية بلغة الشعر، ويزرع الريح في الأصابع ليحمي نار الذات من الانطفاء.

إنه نص يمارس فعله النسوي عبر الصورة الجمالية المركّبة، لا عبر الشعارات المباشرة، مما يجعله عميقًا من حيث الأثر والدلالة.

إذن لنغُص الآن إلى العمق:

سأجري تشريحًا دقيقًا لمفردات الجسد في النص، وكيف أن العائشة — بوعي شعري عالٍ — وزّعتِ الجسد بين الإيروتيكي (كغواية) وبين المقدّس (كطُهر) دون أن تُسقطه في الابتذال، بل جعلت منه حقلًا رمزيًا للمقاومة الأنثوية.

أولًا: الجسد الإيروتيكي كاستفزاز ثقافي

العبارة:

"ترفعُ ثوبَها قليلاً كي لا تتبلّلَ القصيدةْ!"

هذه الصورة تحمل احتكاكًا واضحًا مع الإيروتيكي، لكنها لا تسمح بالانزلاق التام.

رفع الثوب: إشارة حسية مباشرة إلى الجسد.

لكن لماذا؟ ليس للعرض، بل "كي لا تتبلل القصيدة".

الجسد هنا يُستدعى كشرط لنجاة القصيدة، أي أن النص يقول:

لا كتابة دون جسد، ولا جسد يُباع في السوق دون كتابة تبرّره.

إنها عملية توازن بين الجسد كأداة إغراء والجسد كحدّ شعري مقدّس.

عبارة:

"ثمالةُ خصرِها المفتونِ"

صورة إيروتيكية صريحة، فالخصر رمز جسدي أنثوي بامتياز، و"ثمالة" تعني السكر، أي أن الجسد هنا يترنح من اللذة.

لكنه أيضًا "مفتون"، أي أنه ذاته في حالة عشق لنفسه، لا للآخر.

وهذه نقلة ذكية: الجسد هنا لا يُقدَّم كمتعة للغير، بل كمنظومة مكتفية ذاتيًا.

وهذا بالضبط جوهر الإيروتيكية النسوية التي تريد أن تفكك الجسد من كونه مجرّد سلعة وتعيده إلى كونه ذاتًا.

 

ثانيًا: الجسد المقدّس كملاذ من الانهيار

العبارة:

"تُزمِّلُ دمعَها بابتسامة"

كلمة "تُزمل" تذكّرنا بـ "زُمّل" النبي محمد، أي غُطّي واحتُضن عند الفزع.

هذا استعارة ثقيلة الدلالة: الجسد الأنثوي هنا يصبح مكان اللجوء المقدس.

الدمع: الألم، الجرح.

الابتسامة: غطاء الطهر والصبر.

أي أن الجسد لا يُقدَّم هنا كجسد فقط، بل كـ"كفن مؤقت" للحزن.

هذا الجسد يتحول إلى هيكل مقدس، فيه يحدث طقس التزميل: الألم يُغسل بالابتسامة، أي أن الشاعرة تعمّد جسدها بالدمع كي تُعيد طهره من وصمة العيون الخارجية.

العبارة:

"تضاجعُ العتمةَ بشغف"

فعل "تضاجع" صادم للوهلة الأولى؛ لأنه قادم من الحقل الإيروتيكي، لكن شريك الجسد هنا ليس رجلاً، بل "العتمة".

العتمة: قد تكون الجرح، الغياب، القهر الثقافي.

إذًا، هذا الجسد الأنثوي لا يُضاجع الآخر (الرجل/الثقافة)، بل يُضاجع جرحه الخاص، فيفعل فعل التخصيب داخل الظلام، لا على المسرح الثقافي الذكوري.

هنا نصل إلى لحظة الجسد المقدّس:

الجسد يصير مذبحًا، يُقدّم عليه طقس المقاومة الصامتة.

 

ثالثًا: الجدلية بين الإيروتيكي والمقدس

في نص العائشة، الجسد لا يستقر في خانة واحدة: هو يُفتن (كما في "ثمالة خصرها")، ثم يُقدّس (كما في "تزمّل دمعها"). هذا التنقل الذكي بين الحقلين يجعل النص:

لا يُشبع رغبة القارئ الذكوري الذي يبحث عن جسد أنثوي يُشبع خياله، ولا يُرضي كليًا الثقافة النسوية السطحية التي تريد جسدًا طاهرًا منزّهًا عن الشهوة. بل النص يُنتج جسدًا ثالثًا:

جسد أنثوي مشحون بطاقة الإيروتيكا، لكنه يُمارس هذه الإيروتيكا كفعل سيادة وتطهير داخلي.

الخلاصة:

نص عائشة:  يكتب الجسد بوصفه:

حقل مقاومة مزدوج: يقاوم الاستلاب (عبر الإيروتيكي)، ويقاوم الانهيار (عبر المقدّس). وبهذا، هو يُنتج شعرًا جديدًا للأنوثة:

لا يُبَضَّع، ولا يُطهَّر تعسفيًا، بل يعيش توتره الداخلي كشرط وجودي للشاعرة.

 

 

 

 

 

6- الشاعرات يأكلن الحصرم والقرّاء يضرسون:

 

   هذا النص كنز نقدي حيّ، مكتظ بالعلامات والسخرية والثورة المكتومة… أُفكّكه  على مستوى التداول، ثم أنتقل مباشرة إلى البعد النسوي، ثم التناص، وأخيرًا الاقتباس الشعبي:

أولًا: المستوى التداولي (قوة التأثير على القارئ)

العبارة المفتتح:

«الشاعرات يأكُلنَ الحُصرم والقراء يضرَسون!»

هنا تُطلق الشاعرة قذيفة تداولية مباشرة:

الشاعرات يتحملن مرارة التجربة، بينما القرّاء هم مَن يدفعون ثمن الأثر (يضرَسون = يتألمون في أسنانهم).

هذا يضع القارئ فورًا في موضع المُدان المتورط، لا مجرد متلقٍ.

أي أن النص لا يُسلِّي القارئ بل يُشهّر به كطرف شريك في لعبة الحصرم والوجع.

العبارة:

«بشراسة أنوثتي وكبريائها الأصيل أعتلي أدهم القصيدة»

تداوليًا، هذا إعلان سلطة كاملة؛ القارئ هنا يُجبر على تخيُّل الشاعرة كفارس يمتطي القصيدة لا كأنثى يُرثى لها.

وهنا يفقد القارئ الذكراني سلطته المعتادة في التعامل مع الأنثى ككائن ضعيف/غامض، ويُضطر إلى قبولها كسيدة المشهد.

الذروة التداولية:

«بإصبع واحدة كتبتُ كل هذه الهرطقات... إصبعٌ لم يئِدوها وما استطاعوا ختانها...»

هنا توجّه الشاعرة صفعة مباشرة للعالم (القارئ ممثلًا للسلطة الذكورية):

الإصبع الناجية = بقايا الجسد المقاوِم، الذي لم يُكسر.

والختان هنا = مجاز عن محاولة قطع رغبة الأنثى في التعبير (شعريًا وجسديًا).

إذًا: كل النص لعبة مقاومة رمزية يُمارَس فيها الشعر كفعل فجّ للنجاة.

وهذه التقنية التداولية تُحدث صدمة شعورية عند القارئ؛ فهو يخرج مثقوبًا لا محايدًا.

 

ثانيًا: النسوية (المقاومة الأنثوية)

النص يتبنّى ما يُسمّى بـ"النسوية الراديكالية المتصالحة مع قبحها"، أي التي لا تبحث عن تلميع صورة الأنثى بل تفضحها كما هي:

تقول: «أُخفي قبحًا داخليًا يفوق...»، وهنا تُعلن الشاعرة:

الأنثى ليست ملاكًا، وليست ضحية فقط، بل كيان مليء بالتناقضات، وهذا إعلان تحرُّر من كل قوالب الأنثى المثالية.

العبارة:

«أنا امرأة تامة التزييف»

هذه أقوى جملة نسوية في النص، لأنها تُفرغ فكرة "الأنثى كجمال طبيعي" من معناها، وتعلن أن كل أنوثة مُعلنة هي مصطنعة ومفروضة اجتماعيًا، وأن المقاومة تبدأ من الاعتراف بالزيف.

وذروة النسوية هنا:

«إصبعٌ لم يئِدوها وما استطاعوا ختانها...»

هذه مباشرة تحيلنا إلى قضية ختان الإناث، كأقصى درجات القمع الجسدي للمرأة، وهنا تجعل الشعر نفسه هو "العضو" الذي فشلوا في قمعه.

أي أن النص يكتب الأنوثة كـ"قضيب شعري" مضاد للإخصاء الاجتماعي!

وهذا فعل نسوي صادم وثوري.

 

ثالثًا: التناص (الإحالات الخفية)

تناص قرآني:

«كما بقلوب إخوة يوسف، ذنب قابيل، عجرفة فرعون...»

هنا تبني الشاعرة لنفسها نسبًا تناصيًا مع قصص القهر والبغضاء الكبرى في الموروث الديني، وتستدعيها كرموز لقبح داخلي تعترف به، لا كأمثولة وعظية.

هذا التناص يُعطي للنص عمقًا ثقافيًا وفي الوقت ذاته يُفرغه من سلطته الأخلاقية، لأن الشاعرة تعيد توجيه الحكاية لتبرير صراعها الداخلي.

 

تناص مع "الشيخ والبحر" لهمنغواي:

جدتها الضريرة، الأمية، تقرأ بشغف رواية عن الكفاح مع البحر، وكأنها تقول:

حتى الجاهل والضرير يحمل داخله صبر البحّار العجوز الذي يواجه وحش البحر/الحياة.

وهذا التناص يُحوّل الجدة من رمز تقليدي (المرأة العاجزة) إلى بطلة مقاومة ضمنية.

 

رابعًا: اقتباس الأمثال والمقولات الشعبية

«الشاعرات يأكُلنَ الحُصرم...»

هذا تعديل جريء للمثل الشعبي المعروف:

«الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرّسون»

والعبارة الأصلية تُدين الآباء وتُظهر الأبناء كضحايا، لكنكِ قلبتِها:

الشاعرات (النساء) هن من يعشن الوجع، والقرّاء (الذكور/المجتمع) هم من يدفعون الثمن، أي أن النص يستعيد الحكمة الشعبية ثم يخونها لصالح قراءة نسوية.

عبارة:

«عايشة على عماها»

هذه مقولة عامية شديدة التداول، تستدعيها الشاعرة هنا لتقول إنها مثل الجدة: تمضي في الحياة عمياء ظاهريًا، لكنها تبصر ببصيرة الأنثى المقاوِمة.

وهذا الاقتباس يجعل النص قريبًا من القارئ الشعبي لكنه يُفجّره من الداخل.

الخلاصة:

المستوى التداولي في النص عدواني وصادم: لا يُهادن القارئ بل يحرّضه.

نسويًّا: النص يُمارس مقاومة رمزية عنيفة، رافضًا كل قوالب الأنوثة السائدة.

تناصيًّا: النص يأخذ من القرآن والكتب العظيمة ليُنتج سردية نسوية جديدة.

شعبيًّا: يستدعي الأمثال ليُدمّرها ويبني عليها خطاب التمرد.

 

خامسًا: المستوى الرمزي-النفسي:

الآن نغوص في هذا المستوى لنكشف كيف يتحرك هذا النص كـ«اعتراف شعري عنيف» يعكس صراعًا نفسيًا داخليًا، ويُصدم القارئ في لاوعيه.

1.    الرمزية النفسية (اللاوعي العنيف)

الإصبع الواحد

العبارة: «بإصبع واحدة كتبتُ كل هذه الهرطقات...»

هذه صورة تحمل شحنة فرويدية: الإصبع هنا ليس مجرد أداة كتابة، بل رمز للجسد المقاوِم، تحديدًا الجزء الذي نجا من محاولات الخصاء (الختان).

في التحليل النفسي، الكتابة بهذا الإصبع الواحد = فعل تعويض لا شعوري عن جسد مُشوَّه أو مقموع، لكن هذه الكتابة تتحوّل هنا إلى سلاح.

وكأن الشاعرة تقول: «لم أعد أملك جسدًا كاملًا، لكن الإصبع/القلم صار قوتي الوحيدة، وسأجلدكم به.»

إذن: النص بكامله يتحرك كـ"كتابة جسدية" وليس كتابة ذهنية، وهذا يخلق توترًا نفسيًا عنيفًا داخل القارئ.

2.    صدمة اللاوعي الذكوري (القارئ الذكر)

عبارة: «لم يئِدوها وما استطاعوا ختانها...»

هنا يُزرَع في القارئ الذكر (أو حتى الأنثى الخاضعة للثقافة الذكورية) رعب قديم، هو رعب الأنثى التي تنجو من القمع، وتظل تحمل في جسدها رغبة لم يتم قتلها.

في التحليل النفسي، الأنثى الناجية من "الوأد الرمزي" تصبح كائنًا مرعبًا، لأنها تفجّر عقدة الذكر الذي يشعر أن سلطته ناقصة أمام هذه الأنوثة المتمردة.

لذلك، القارئ يجد نفسه مضطربًا:

هل يُدين الشاعرة على وقاحتها؟

أم يُفتن بجرأتها؟

هذه الازدواجية الشعورية تخلق صدمة لا شعورية عند القارئ، وهي أداة تأثير عظيمة في الشعر المعاصر.

3.    الجدة الضريرة (رمز الأم الكبرى)

«جدتي الضريرة التي لم تكن تعرف القراءة... كانت تلتهم بنهم (الشيخ والبحر)...»

الجدة هنا ليست مجرد شخصية، بل في علم النفس الرمزي تُشبه "الأم الكبرى" أو Archetyp  الأركيتايب

الذي يمثل الحكمة البدائية والقدرة على البقاء.

هي ضريرة = لا ترى العالم بعيون الحداثة، لكنها تقرأه بحدس البقاء.

هذه الصورة تضرب في لاوعي القارئ العربي الذي يقدّس الأمومة، وتُحوّل الجدة إلى أنثى مقاومة خفية، تتماهى مع الشاعرة نفسها.

كأن الشاعرة تقول: «أنا حفيدة تلك الجدة، أحمل عماها وأبصر بوجعي.»

4.    «أنا امرأة تامة التزييف» (الصدمة النرجسية)

هذه العبارة لا تُدمر فقط صورة الأنثى، بل تُصدم لاوعي القارئ الذي اعتاد أن يطمئن لصورتين:

إما الأنثى الضحية النقية.

أو الأنثى الشريرة التي يُدينها.

أما النص، فهو يُدمّر الصورتين معًا، ويقدّم أنثى تعترف بزيفها وتحتفي به، كأنها تقول:

"أنا لست ما تتوقعونه… أنا زيفي وأنا حقيقته!"

في التحليل النفسي، هذا النوع من الاعتراف يُربك القارئ لأنه يجعله يفقد أدواته الدفاعية في فهم النص؛ فيُجبر لا شعوريًا على أن يُسقِط مشاكله على النص.

وهذا بالضبط ما يجعله يتفاعل بعنف أو انبهار، لأنه يدخل في حالة صدمة نرجسية: كيف تجرؤ هذه الكاتبة على تعرية ذاتها بهذا الشكل؟

5.    لماذا هذا النص يُحدث أثرًا نفسيًا قويًا؟

لأنه يعمل على مستويين متوازيين:

- على السطح: يقدم اعترافًا شعريًا جريئًا

- في العمق: يُفجّر عقد الذكر/القارئ بخصوص الجسد، الأنثى، السلطة، الأمومة، الزيف، والجرأة

هذا النص لا يقدّم للقارئ فرصة للهرب:

لا يمكنه تبرير النص بوصفه مجرد "شِعر نسوي"

ولا يمكنه تجاهله لأنه يُخاطب لاوعيه العميق (بخاصة مشاعر الرغبة، الرعب، الذنب، والخزي)

 

الخلاصة النفسية:

هذا النص أشبه بـ"مرآة مشروخة": كل من ينظر إليها يرى وجهه، لكن بملامح مشوهة، وهذه الصدمة النفسية هي سرّ تأثيره.

كل جملة في النص تحمل شحنة نفسية لا شعورية:

الإصبع = العضو الجنسي/القلمي المقاوم

الجدة = الأم البدائية العمياء البصيرة

المرأة المزيفة = الأنثى التي تعترف بزيفها فتصبح أكثر قوة

القبح الداخلي = مرآة للذنب الجمعي للثقافة الذكورية

 

الوظيفة الذرائعية النفسية للنص:

أي: كيف يُحرّك هذا النص المتلقي ليُحدث فيه "فعلًا" نفسيًا أو فكريًا، لا مجرد انفعال؟

سأفصّل هذه الوظيفة كما يلي:

أولًا: منطلقات الوظيفة الذرائعية في هذا النص

الذرائعية في النقد تؤمن أن:

النص لا يُقاس فقط بجماليته، بل بمدى فعاليته في التأثير على المتلقي. والقارئ ليس سلبيًا، بل شريك، يدخل النص بعقله، ولا شعوره، وأحيانًا بجسده (في الشعر، خاصةً شعر الاعتراف العنيف مثل هذا).

ثانيًا: الوظيفة الذرائعية النفسية للقصيدة

1. التحفيز النفسي - صدمة الذات

القارئ (ذكرًا كان أم أنثى) حين يقرأ عبارات مثل:

«كتبتُ كل هذه الهرطقات...»

«لم يئِدوها وما استطاعوا ختانها...»

يتعرّض إلى تحفيز لا شعوري يجعله يُسقط تجاربه الخاصة:

القارئ الذكر يشعر بتهديد سلطة ثقافته على جسد الأنثى.

القارئة الأنثى قد تشعر بـ"انتفاضة داخلية" ضد ما كُبت فيها.

وهذا التحفيز يُجبر المتلقي على أن يبدأ عملية نفسية داخلية:

مواجهة صورة الذات، أو صورة الآخر (الأنثى/الذكر).

2. التطهير النفسي (Catharsis)

بحسب الذرائعية، الوظيفة الأهم هنا أن النص لا يترك القارئ غارقًا في القبح، بل:

يُمرّره في عملية تطهير داخلي.

القارئ الذي يواجه هذا العنف الرمزي (في الجسد، وفي الزيف) قد:

يُطهّر نفسه من وهم الطهرانية الزائفة (يُدرك أن كلنا نحمل زيفًا ما).

يُطهّر لاوعيه من عقدة الذنب (الذكر)، أو عقدة الدونية (الأنثى)

إذن: النص يعمل كما تعمل المسرحية التراجيدية عند أرسطو:

يُفجّر العواطف ليُطهّرها، لكن هنا بأسلوب شعري تفجيري حداثي، لا بأسلوب درامي كلاسيكي.

3. تحريك فعل المقاومة الذهنية

الذرائعية تبحث دائمًا عن الأثر بعد القراءة: هل تغيّر شيء في عقل القارئ؟

هذا النص يزرع في القارئ رغبة في المقاومة:

مقاومة القوالب الجاهزة (المرأة الطاهرة أو الشريرة)

مقاومة الصمت (لأن النص كله مبني على الاعتراف)

مقاومة الخضوع للمعايير الجمالية الذكورية (لأن النص يحتفي بالقبح كقيمة فنية)

إذن: القارئ بعد القراءة يصبح إمّا:

أكثر جرأة في تفكيره (وهذا هو الفعل الذرائعي الناجح).

أو يدخل في مقاومة داخلية (رفض النص بشدة، لكن حتى الرفض هو فعل ذهني).

ثالثًا: الوظيفة الذرائعية الجمالية (مستوى السلوك الجمالي)

النص يعيد تشكيل معايير الذوق لدى القارئ:

من الذوق التقليدي (الشعر الجميل، المصفّى، الأنثى الرقيقة)

إلى الذوق الجديد (الشعر الفاضح للعيوب، الأنثى التي تحتفي بجراحها)

هذا التحول في الذوق = وظيفة جمالية ذرائعية بامتياز، لأن القارئ لا يعود يطلب من الشعر أن "يُطربه" بل أن "يُعرّيه ويُصدمه ويُنقّيه".

لماذا هذا النص بالذات نموذجي ذرائعيًا؟

لأنه يجمع بين وظيفتين في آنٍ واحد:

1. الوظيفة النفسية (صدمة ثم تطهير)

2. الوظيفة الفكرية (كسر القوالب ثم تحفيز المقاومة)

وهذا التزاوج هو ما يجعل النص الذرائعي ناجحًا في إصابة القارئ في عمقه اللاواعي، ثم دفعه إلى فعل ذهني تغييري.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

7- وراء كل رجل عظيم قصيدة

 

    قصيدة ثرية جدًا بالدوال الشعرية والتقنيات التي يمكن قراءتها من منظور ذرائعي عميق، خاصة في المستوى التداولي حيث تتجلى صورة الرجل وتتفاعل مع ذات الشاعرة على مستويات متعددة:

أولًا:المستوى التداولي العميق: صورة الرجل عند الشاعرة

   الرجل في هذه القصيدة يتجلى كـ"الآخر" المتعدد الوجوه، لكنه في عمقه ليس شخصًا فرديًا، بل هو مفهوم رمزي مركب يكتنز كل مظاهر الجذب والتناقض والافتتان والانكسار.

إنه الرجل/القَدَر، الرجل/المُلهم، الرجل/الجلاد، والرجل/المخلّص، يتأرجح بين حضور طاغٍ وغياب موجِع.

كل مقطع يبدأ بتكرار "رجلٌ..." ليؤكد أن الرجل ليس واحدًا، بل مجموعة من التجلّيات النفسية والوجودية التي تتقاطع في ذات الأنثى.

في العمق التداولي، يُرسم الرجل بوصفه الذات الأخرى التي تستدعي من الشاعرة هذا الانفجار اللغوي، هو الفتيل الذي يشعل القصيدة، والظل الذي يتماهى مع حدود هويتها.

كما أنّ الرجل هنا ليس "عظيمًا" بالمعنى المتداول، بل عظمته تكمن في كونه قادرًا على أن يُقلق بنية الذات الأنثوية ويفجّر فيها الأنوثة والجنون والخطيئة والقداسة معًا. ومن هنا تأتي المفارقة مع عنوان النص "وراء كل رجل عظيم... قصيدة"، حيث القصيدة نفسها تصبح العظمة التي تستولد الرجل وتُعيد خلقه لا العكس.

 

ثانيًا: تقنية التكرار والتوازي

    القصيدة تعتمد تقنية التكرار البنائي بشكل جوهري، وهذا التكرار ليس محض زخرف لغوي، بل هو أداة ذرائعية وظيفية تخدم ما يلي:

إيقاع شعوري داخلي: يتكرر "رجلٌ..." كمفتتح لمعظم المقاطع، ما يخلق ضربات شعورية متواترة، تُحاكي حالة النبض، التأمل، والاعتراف التدريجي.

تصعيد في الدلالة: كل مرة يتكرر فيها "رجلٌ..." يتم شحن الصورة بمزيد من التعقيد، وكأن الشاعرة تعيد تشكيل هذا الرجل مع كل ضربة لفظية، فتتقدم بنا من صورة سطحية إلى أخرى أعمق وأكثر تمزقًا.

توازي الجمل: كثير من المقاطع تتبع بناءً متوازٍ ("رجلٌ... يفعل كذا... وأنا أفعل كذا")، مما يخلق ثنائية حوارية صامتة بين "هو" و"أنا". وهذا يعكس من المستوى التداولي الصراع بين قطبي الذات والآخر، الحضور والغياب، الرغبة والقمع.

الإيحاء الطقوسي: الإيقاع التكراري والتوازي البنائي يُحاكي في مستواه العميق تراتيل طقسية (مثال: "يتعمّد بنبضي... ولا يخرج من قداسه إلا وهو راضٍ عني"). وهذا يعزز الإيحاء بأن العلاقة بين الشاعرة والرجل هنا علاقة مقدسة/مدنسة في آن، وهو ما يُثري القراءة الذرائعية التي تلتقط هذه الحمولات التفاعلية بين الدال والمدلول في السياق الثقافي العربي.

فالمستوى التداولي هنا يرتكز على إنتاج صورة الرجل بوصفه طيفًا متغيرًا، تُعيد الذات الأنثوية تشكيله وفقًا لانفعالاتها وصدماتها ورغباتها.

وتقنية التكرار والتوازي تعمل على خلق تصعيد شعوري وتراكب دلالي يُفضي إلى بناء نص تتصارع فيه الذات مع انعكاساتها في "مرآة الرجل".

القصيدة في بعدها الذرائعي ليست فقط عن رجل ما، بل عن تجربة أنثوية وجودية تبحث عن خلاصها في القصيدة، عبر تطويع "الرجل" كمفهوم لتجسدات مختلفة: الحبيب، الخصم، الرفيق، الخطيئة، والقصيدة ذاتها.

 

ثالثًا: البنية الإيقاعية الموسيقية:

    في هذا النص الشعري، تتأسس هذه البنية على عدة مستويات متداخلة، تخلق موسيقى داخلية غنية رغم غياب الوزن الخليلي الصارم. يمكن تحليل هذه البنية كالتالي:

1. الإيقاع الداخلي (التكرار والتوازي)

النص يعتمد بشكل واضح على تقنية التكرار، خاصة تكرار جملة:

"رجلٌ.."

التي تتصدر معظم المقاطع وتعمل كضربة إيقاعية متكررة تعيد ضبط النغمة مع كل مرة، ما يخلق إيقاعًا طقوسيًا يشبه "تراتيل" تتصاعد.

كما تعتمد الشاعرة على التوازي التركيبي:

"رجلٌ.. يحرثُ الوسائدَ ليلًا

يزرعُها بالرّجاءاتِ..

فتزهرُ قصائدَ عطر"

هنا، الأفعال المتوالية (يحرث، يزرع، تزهر) تمنح إيقاعًا تصاعديًا، وتخلق موسيقى ناتجة عن تناوب الصور والفعل.

2. التقسيم السطري القصير

غالبية الأسطر قصيرة، تعتمد على الجملة الواحدة أو شبه الجملة، ما يخلق إيقاعًا متقطعًا يشبه التنفس المتسارع أو النبض المتواتر. هذا يناسب التوتر العاطفي الذي يسكن النص.

3. الإيقاع الصوتي

يتكرر في النص كثير من الحروف المائعة (مثل: الميم، النون، اللام، الراء)، ما يضيف نعومة موسيقية.

كما أن حضور الأصوات الحلقية (الحاء، الخاء، الغين) يضفي صدى داخليًا يساهم في بناء نغمة وجدانية شجية.

4. التنغيم المعنوي

حتى بدون قافية ملزمة، فإن تواشج الصور (الغياب/الحضور، الحصاد/البذور، الشهيق/الزفير) يخلق نوعًا من الإيقاع الدلالي المتردد بين ثنائية الأضداد، ما يضفي إحساسًا بالتكرار الإيحائي.

5. الإيقاع الناتج عن الجناس والاشتقاق

تستخدم الشاعرة الجناس والاشتقاق لتكثيف الإيقاع:

"كالصّدى في رئةِ الصّمتِ"

"رجلٌ..

يسقطُ كالنّدى..

على مناقيرِ العنادلِ"

تكرار الأصوات المتقاربة يقوي الجرس الموسيقي حتى من دون التزام بقيود الوزن العروضي.

إجمالًا، يمكننا أن نصف البنية الإيقاعية للنص بأنها موسيقى حرة تعتمد على التكرار البنيوي (رجلٌ..)، والتنغيم الداخلي، والتنقل بين الصور المتجاورة، بدلًا من الاتكاء على الوزن الخليلي أو القافية المنتظمة. وهذا يجعل النص أقرب إلى قصيدة النثر الإيقاعية التي تبني موسيقاها الخاصة من داخل اللغة ذاتها، لا من خارجها.

6.الإيقاع الدلالي في النص:

هو ذلك التردد الداخلي الذي يتشكل من عودة ثنائيات متقابلة وحركات متأرجحة بين حالتين: الحضور/الغياب، البذر/الحصاد، الحياة/الموت، الصوت/الصمت.

وهذا التردد يولّد موسيقى خفية ليست صوتية فحسب، بل وجدانية أيضًا، تجعل القارئ يشعر وكأن القصيدة تتنفس.

أبرز الثنائيات المتقابلة:

يحرث الوسائد / يزرعها بالرجاءات → ثم تزهر القصائد

(الفعل الحسي مقابل الفعل الروحي → الجسد/الروح)

يُعيره الغياب / يستعيره الحضور

(جدلية الكينونة والعدم)

ينسج من النبضِ وشاحًا / يُبلّل القصائد

(التكوين مقابل الذوبان)

شهيقٌ بلا زفير

(اكتمال ناقص → ذروة الإيقاع الدرامي حيث يتوقف الزمن ويتعطل التنفّس)

كيف يعمل هذا الإيقاع الدلالي؟

كل مقطع من النص لا يقدم صورة مكتفية بذاتها فقط، بل يطرح حركة:

الزرع → الإزهار

الصدى → الصمت

الشهيق → بلا زفير

هذه الحركة ليست خطية بل دائرية، حيث تتكرر الصور وتدور حول نفسها، مما يولد شعورًا بوجود نبض داخلي للنص، كأنه قلب يخفق ثم يتوقف ثم يعاود. هذا يوازي التكرار الإيقاعي في البناء الشكلي (رجلٌ.. رجلٌ..) ويضيف بعدًا معنويًا.

علاقة هذا الإيقاع بالصورة العاطفية لـ"الرجل":

الرجل هنا ليس شخصًا فحسب، بل يتحول إلى كائن إيقاعي، يتنفس بالغياب والحضور، يزرع الكلمة ويحصد الصدى، يختلط بالوسادة والقصيدة والندى والصمت.

هو صوت داخلي أكثر مما هو كائن خارجي. الإيقاع الدلالي يجعله يتكرر في القصيدة كـ"ضربة قلب"، لا كجسد متحرك.

تحوّله إلى "شهيق بلا زفير" يجعل من حضوره معلقًا، نصف حياة ونصف موت، نصف حضور ونصف غياب، وهذه ذروة الإيقاع الدرامي في النص.

فالإيقاع في هذا النص ليس فقط تكرار جمل وصور، بل هو دورة حياتية كاملة من التكوين والذوبان، تشبه دورة الشهيق والزفير التي تتعطل في النهاية (شهيق بلا زفير).

هذا الإيقاع الدلالي يجعل القارئ يعيش التجربة النفسية للشاعرة، حيث تتداخل مشاعر الانتظار، الفقد، والشوق، في حركة دائرية متكررة، تخلق موسيقى صامتة في أعماق النص.

 

 

تحليل البعد النفسي للإيقاع:

وكيفية تجسد ما يُسمى بـ"التوتر الإيقاعي" في هذا النص، مستعينين بما طرحه أنسي الحاج وشعراء قصيدة النثر، حيث يكون الإيقاع باطنيًا لا صوتيًا.

أولًا: مفهوم التوتر الإيقاعي :

أنسي الحاج يرى أن الإيقاع الحقيقي في قصيدة النثر ليس الوزن أو القافية، بل هو:

توتر داخلي يتولد من الصراع بين الصور، وبين الجمل التي تتقدم ثم تتوقف. هو أشبه بـ"نَفَسٍ" يعلو وينخفض، لكنه لا يُقاس بميزان البحر الشعري، بل يُقاس بمدى تذبذب الشعور وانتقاله بين حالات متعارضة.

ثانيًا: كيف يتحقق هذا التوتر في هذا النص:

1. عبر حركة الصور:

كل صورة تبدأ بفعل حيوي (يحرث، يزرع، ينسج، يعير) ثم تنتهي بجمود أو توقف (الصمت، الرجاءات، الغياب، شهيق بلا زفير):

"يحرث الوسائد" → صورة مشبعة بالحركة

"يزرعها بالرجاءات" → حركة مستمرة

"فتُزهر القصائد" → ذروة الحركة (التفتح)

لكن فجأة:

"يشرب الصدى" → الصدى فراغ صوتي

"ينام على الصمت" → توقف تام

"شهيق بلا زفير" → تعطل كامل للتنفس

هنا نرى أن كل موجة من الحركة تتوتر ثم تنهار، ما يولد إحساسًا داخليًا لدى القارئ بأن هناك نبضًا يتردد، ثم يختنق، ثم يعاود التردد، وهذا هو التوتر الإيقاعي الذي يُغني عن الوزن الشعري.

2. عبر الجدلية النفسية (الرجل/الرغبة/الفقد):

الرجل يتحرك ككائن مزدوج: هو المزارع (يحرث، يزرع) وهو أيضًا الشبح (يشرب الصدى، ينام على الصمت).                                                                                                                                                                                                                                                                                     هذا التوتر بين الحضور الإبداعي والغياب المميت، يولّد داخل القارئ رجّة شعورية، حيث لا يستطيع أن يستقر على إحساس واحد:

هل الرجل حي أم ميت؟ حاضر أم غائب؟ وهذا الالتباس هو لبّ الإيقاع النفسي في القصيدة، وهو ما يجعله عميقًا وغير مسموع، بل محسوسًا.

ثالثًا: الأثر النفسي على القارئ (الذروة الدرامية):

عندما تقول الشاعرة في النهاية: "شهيقٌ بلا زفير"، فهنا تصل القصيدة إلى الذروة الدرامية، حيث يتوقف التوتر عن الصعود، وينقطع النفس تمامًا.

هذا يجعل القارئ يشعر وكأنه عالق معكِ في لحظة انقطاع حياة، مما يولّد صدمة وجدانية.

الإيقاع هنا يتحول إلى صوت داخلي مخنوق، ما يجعل هذه العبارة أشبه بـ"قفلة موسيقية" في السيمفونيات، حيث يضرب اللحن في الصمت فجأة.

رابعًا: إذا ربطنا هذا الإيقاع بالنقد الذرائعي:

في الذرائعية، يُعد هذا التوتر الإيقاعي جزءًا من الديناميكية النفسية للنص، وهو ما يُقاس من خلال مستوى الانفعال المتصاعد لدى القارئ، لا من خلال الأوزان أو الزخارف اللفظية.

خلاصة مركّزة:

إيقاع النص قائم على توترات ثنائية بين الحركة والتوقف، بين الحضور والغياب، بين الصوت والصمت.

هذه التوترات تتراكم حتى تصل إلى القمة الدرامية في عبارة "شهيق بلا زفير"، حيث يتوقف كل شيء.

الإيقاع هنا نفسي وجداني، يحرّك القارئ شعوريًا لا سمعيًا، ويستجيب لنظرية "التوتر الإيقاعي" عند شعراء قصيدة النثر، كما يتوافق مع الديناميكية الذرائعية.

 

 

التجربة الإبداعية للشاعرة :

    تتجذر التجربة الإبداعية في ديوان "إني آنستُ حبرًا" في التماس العميق بين الحياة واللغة، حيث تتحوّل الكتابة من ممارسة جمالية إلى ممارسة وجودية. الشاعرة لا تكتب من فائض المعنى بل من نُدرة اليقين، من منطقة متصدعة بين الذات والعالم، بين المعيش والرمز، بين الأنوثة ككينونة والجسد كذاكرة لغوية.

تتقدّم عائشة بريكات في ديوانها من موقع نسوي داخلي لا يُعلن نفسه بوصفه خطابًا، بل يُمارسه بوصفه أسلوب كتابة. فالشعر هنا لا يتكلم باسم المرأة، بل من داخلها. التجربة الإبداعية ليست سردًا لمحنة، بل معادلة جمالية لما بعد المحنة. وتتحقق هذه المعادلة عبر تفكيك ثنائيات اللغة: الحضور/الغياب، البياض/الحبر، الجرح/الرغيف، لتولد من هذا التقابل شعرية تعتمد التوتر لا التوازن.

تعتمد بريكات على الاقتصاد التعبيري بوصفه موقفًا فنيًا ونفسيًا في آنٍ معًا. حيث تُراهن على القليل المكثف، وعلى العبارة الشاهقة المختزلة، وعلى الصورة الشعرية التي لا تكتفي بالإشارة بل تتورط في التجربة. فكل استعارة هنا مشغولة بالحفر في الذاكرة، وكل مفردة كأنها ارتجاج داخلي يحاول أن يستقر على بياض الصفحة.

ومن الملاحظ في تجربتها الإبداعية التركيب بين اليومي والمتعالي: الضوء، الرغيف، الأم، الحبر، الجسد – عناصر ملموسة تُشكّل بنية التجربة، لكنها تُعاد كتابتها بطريقة تجعلها تتجاوز نفسها، وتُحيل إلى أزمنة رمزية تتقاطع فيها الطفولة مع الغياب، والحب مع الفقد، والأمومة مع الوحدة.

تستثمر بريكات في بناء القصيدة تقنيات متعددة: التوازي التركيبي بوصفه صدى نفسيًا داخليًا، التكرار كمناجاة ارتدادية، الحذف كوسيلة تأجيل للبوح، والنهاية المفتوحة بوصفها استئنافًا دائمًا لرحلة الذات مع اللغة.

إن هذه التجربة تنتمي إلى ما يمكن أن نسميه بـ"الكتابة الشفافة" – كتابة تُرى من خلالها الروح لا القناع، كتابة لا تسعى للدهشة بل للصدق، ولا للبلاغة بقدر ما تسعى للإصغاء.

وتُحيل هذه الكتابة إلى تقاليد نسوية داخل الشعر العربي الحديث – لكنها لا تكررها، بل تنحت لنفسها جمالية خاصة تستلهم من التجارب العالمية (كما عند سيلفيا بلاث) والعربية (كما عند غادة السمان، نوال السعداوي) طريقًا داخليًا نحو الذات الكاتبة، حيث يتحوّل الشعر إلى حوار سري مع الذات، ومع الظل، ومع الحياة.

هكذا تتجاوز التجربة الإبداعية في هذا الديوان البعد التواصلي أو الخطابي، لتغدو فعل نجاة، وتمرينًا على التوازن في عالم مختلّ. إن تجربة عائشة بريكات تُقدّم نموذجًا لقصيدة نثر ناضجة، لا تُراهن على البلاغة بل على كثافة المعنى، وعلى خلق لحظة شعورية متوهجة بلغة مشبعة بالحضور الإنساني، والغياب الأنثوي.

 

في الختام:

     يكشف ديوان "إني آنستُ حبرًا" عن تجربة شعرية تتداخل فيها البنى النفسية، الرمزية، الأخلاقية، واللغوية لتشكّل خطابًا شعريًا أنثويًا يتجاوز المألوف، وينحت لغته الخاصة في حفر المعنى من عمق الجرح. لم تكن القصائد مجرّد مشاهد لغوية، بل لحظات انفعالية متواترة تكتب الذات وتعيد ترتيب علاقتها بالزمن والذاكرة والجسد.

ومن خلال المقاربة الذرائعية التي سلّطت الضوء على المستويات المتعددة للنص، من البؤرة الفكرية إلى التداول العميق، يمكن القول إن الشاعرة تكتب من منفى داخلي، حيث يتحوّل الحبر إلى امتداد للجلد، والقصيدة إلى غرفة تأمل. لا تنتمي هذه النصوص إلى شكل تقليدي لقصيدة النثر، بل إلى شعرية طقسية تُراكم الصور والمعاني بانضباط روحي، وبتقشف جمالي، وبديناميكية داخلية تصدر عن حركة الشعور لا من تنقلات السرد.

لقد بيّنت الدراسة كيف يعمل التكرار والتوازي كاستراتيجيتين نفسيّتين ولغويتين تؤسسان لبنية خطاب داخلي مقاوم، وتعيدان تركيب الهوية من خلال التكرار، لا التوكيد؛ ومن خلال الصمت، لا الضجيج. كما أن تحليل الرموز الكبرى (الحبر، الضوء، الرغيف، الأم) قد كشف عن ثقل نفسي عميق تُديره الشاعرة بوعي فني حاد، يقاوم الانكسار بالتشكيل.

وعبر مقارنة تجربتها بشعراء مثل أدونيس، وديع سعادة، سركون بولص، وسيلفيا بلاث، تبيّن لنا أن بريكات تستثمر الرموز المشتركة ضمن رؤية أنثوية داخلية، تجعل من القصيدة طقسًا لا خطابًا، ومساحة نجاة لا استعراضًا.

في نهاية المطاف، فإن ما يُنتج الجمال في هذا الديوان ليس الزخرفة ولا الإدهاش، بل الصدق العالي للنبرة، والشعرية الكامنة في الصمت، في الحذف، وفي التوازي، حيث يتحول الشعر إلى فعل بقاء، والكتابة إلى جسدٍ موازٍ للذات، يُقيم في اللغة ويواصل التشكل.

                          #دعبيرخالديحيي                           الإسكندرية – مصر                25/5/ 2025

المراجع

 

1.    الغالبي، عبد الرزاق. (2018). الذرائعية في التطبيق: دراسة في تحليل النصوص الأدبية. دار شعلة الإبداع – القاهرة

2.    الشايب، عبد الحميد. (2005). التوازي في الشعر العربي. الإسكندرية: دار الوفاء.

3.    بارت، رولان. (2009). لذة النص (ترجمة فوزي حمودي). اللاذقية: دار الحوار.

4.    كريستيفا، جوليا. (1998). اللغة، ذلك المجهول (ترجمة فواز طرابلسي). بيروت: دار الطليعة.

5.    يونغ، كارل غوستاف. (2005). الإنسان ورموزه (ترجمة جورج طرابلسي). دمشق: دار دمشق.

6.    يونغ، كارل غوستاف. (2007). الذكريات والأحلام والتأملات (ترجمة نهاد خياطة). اللاذقية: دار الحوار.

7.    Jung, C. G. (1959). The Archetypes and the Collective Unconscious (R. F. C. Hull, Trans.). Princeton University Press.

8.    عز الدين، فاطمة. (2015). الكتابة النسوية وتحولات الذات. القاهرة: دار رؤية للنشر.

9.    أدونيس. (1996). زمن الشعر. بيروت: دار الساقي.

10. عابد، نوال. (2017). جماليات التكرار في الشعر العربي الحديث. عمّان: دار اليازوري.

11. السمان، غادة. (1992). كوابيس بيروت. بيروت: منشورات غادة السمان.

12. السمان، غادة. (1995). حبّ تحت الحراسة. بيروت: منشورات غادة السمان.

13. بلاث، سيلفيا. (2015). العملاق واللعب مع الظل: مختارات شعرية (ترجمة عاطف عبد المجيد). القاهرة: دار الثقافة الجديدة.

14. بلاث، سيلفيا. (2011). الناقوس الزجاجي (ترجمة أسامة منزلجي). دمشق: دار التكوين.

15. شبلي، عدنية. (2002). مساس. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية.

16. شبلي، عدنية. (2007). سأكون بين اللوز. بيروت: منشورات الجمل.

17. الحاج، أنسي. (1963). الرأس المقطوع. بيروت: منشورات مجلة شعر.

18. حسن، عبد الكريم. (2008). قصيدة النثر وإنتاج الدلالة: أنسي الحاج أنموذجًا. بيروت: دار الساقي.

19. يحيى، عبير خالد. (2021). قصيدة النثر العربية المعاصرة بمنظور ذرائعي. القاهرة: دار الحكمة للطباعة والنشر والتوزيع. /2020.

20. سعادة، وديع. (2006). المياه كلها بلون الغرق. بيروت: دار النهار للنشر.

21. جابر، عبده. (2010). وديع سعادة: الشاعر والمنفى. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

22. بركات، سليم. (1994). هاتهِ الصورةُ… هاتهِ اللّعنة. بيروت: رياض الريّس للكتب والنشر.

23. جورج، يزبك. (2002). تجليات اللغة في شعر سليم بركات. دمشق: وزارة الثقافة السورية.

24. بولص، سركون. (1992). الوصول إلى مدينة أين. بيروت: دار المدى.

25. عبد القادر، عبد الكريم. (2005). شعرية المكان في شعر سركون بولص. دمشق: الهيئة العامة السورية للكتاب.

26. Cixous, Hélène. (1975). The Laugh of the Medusa. Translated by Keith Cohen and Paula Cohen. Signs: Journal of Women in Culture and Society, 1(4), 875–893.

27. فريال غزول. (2001). "النقد النسوي والكتابة النسوية: قراءة في تنظيرات جوليا كريستيفا وهيلين سيكسو". مجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، المجلد 20، العدد 2.

28. يحيى، عبير خالد. (2022). الأدب النسوي العربي المعاصر بمنظور ذرائعي. القاهرة: دار المفكر العربي

 

 

 



[1] - اللفظ من أصل يوناني:   archein (يبدأ) + typos (نموذج/شكل) = "النموذج الأول".

 

في علم النفس (كارل يونغ): الأركيتايب هو صورة أو نمط نفسي بدائي موجود في اللاوعي الجمعي لدى البشر، مثل:

 

الأم الكبرى. البطل. الظل. الحكيم العجوز. الطفل الخالد. الأنثى الفاتنة (Anima). الأب المتسلط

 

يونغ يرى أن هذه الصور تُولد معنا ولا تُكتسب، وتُشكّل طريقة فهمنا للعالم وتصرفاتنا.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سرد الاغتراب والبحث عن المعنى قراءة ذرائعية في رواية ( منروفيا ) للكاتب المصري أحمد فريد مرسي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي

أدب الرسائل عند الأديبة حياة الرايس (رسائل أخطأت عناوينها) دراسة ذرائعية مستقطعة بقلم الناقدة الذرائعية د. عبير خالد يحيي

أدب الرحلات المعاصرة: سفر في الجغرافيا والذات دراسة ذرائعية مستقطعة على كتاب (نيويورك في عيون زائرة عربية) للكاتبة اللبنانية هناء غمراوي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي